[ ص: 547 ] عين الحياة ذي القرنين بيان طلب
وقد ذكر من طريق ابن عساكر ، عن أبيه ، عن وكيع معتمر بن سليمان ، عن عن أبيه أبي جعفر الباقر ، زين العابدين خبرا مطولا جدا فيه أن ذا القرنين كان له صاحب من الملائكة يقال له : رناقيل . فسأله ذو القرنين : هل تعلم في الأرض عينا يقال لها : عين الحياة ؟ فذكر له صفة مكانها ، فذهب ذو القرنين في طلبها وجعل الخضر على مقدمته ، فانتهى الخضر إليها في واد في أرض الظلمات ، فشرب منها ولم يهتد ذو القرنين إليها . وذكر اجتماع ببعض الملائكة في قصر هناك ، وأنه أعطاه حجرا ، فلما رجع إلى جيشه سأل العلماء عنه ، فوضعوه في كفة ميزان ، وجعلوا في مقابلته ألف حجر مثله فوزنها ، حتى سأل ذي القرنين الخضر فوضع قباله حجرا ، وجعل عليه حفنة من تراب فرجح به ، وقال : هذا مثل ابن آدم لا يشبع حتى يوارى بالتراب . فسجد له العلماء تكريما له وإعظاما . والله أعلم .
ثم ذكر تعالى أنه حكمه في أهل تلك الناحية قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا قال أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذابا نكرا أي : فيجتمع عليه عذاب الدنيا والآخرة ، وبدأ بعذاب الدنيا ; لأنه أزجر عند الكافر وأما من آمن وعمل صالحا فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسرا [ ص: 548 ] فبدأ بالأهم وهو ثواب الآخرة ، وعطف عليه الإحسان منه إليه ، وهذا هو العدل والعلم والإيمان ، قال الله تعالى ثم أتبع سببا أي : سلك طريقا راجعا من المغرب إلى المشرق ، فيقال : إنه رجع في ثنتي عشرة سنة حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا أي : ليس لهم بيوت ولا أكنان يستترون بها من حر الشمس . قال كثير من العلماء : ولكن كانوا يأوون ، إذا اشتد عليهم الحر ، إلى أسراب قد اتخذوها في الأرض ، شبه القبور . قال الله تعالى : كذلك وقد أحطنا بما لديه خبرا أي : ونحن نعلم ما هو عليه ونحفظه ونكلؤه بحراستنا في مسيره ذلك كله من مغارب الأرض إلى مشارقها .
وقد روي عن وابنه عبيد بن عمير عبد الله ، وغيرهما من السلف ، أن ذا القرنين حج ماشيا ، فلما سمع إبراهيم الخليل بقدومه تلقاه ، فلما اجتمعا دعا له الخليل ووصاه بوصايا . ويقال : إنه جيء بفرس ليركبها فقال : لا أركب في بلد فيه الخليل . فسخر الله له السحاب ، وبشره إبراهيم بذلك ، فكانت تحمله إذا أراد .
ثم أتبع سببا حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا يعني غتما . فيقال : إنهم هم قوله تعالى : الترك ، أبناء عم يأجوج ومأجوج فذكروا له أن هاتين القبيلتين قد تعدوا عليهم وأفسدوا في بلادهم ، وقطعوا السبل عليهم ، وبذلوا له حملا وهو الخراج على [ ص: 549 ] أن يقيم بينهم وبينهم حاجزا يمنعهم من الوصول إليهم ، فامتنع من أخذ الخراج ; اكتفاء بما أعطاه الله من الأموال الجزيلة قال ما مكني فيه ربي خير ثم طلب منهم أن يجمعوا له رجالا وآلات ليبني بينهم وبينهم سدا ، وهو الردم بين الجبلين ، وكانوا لا يستطيعون الخروج إليهم إلا من بينهما ، وبقية ذلك بحار مغرقة ، وجبال شاهقة ، فبناه ، كما قال تعالى ، من الحديد والقطر ، وهو النحاس المذاب ، وقيل : الرصاص . والصحيح الأول ، فجعل بدل اللبن حديدا ، وبدل الطين نحاسا ، ولهذا قال تعالى : فما اسطاعوا أن يظهروه أي : يعلوا عليه بسلالم ولا غيرها وما استطاعوا له نقبا أي : بمعاول ولا فؤوس ولا غيرها ، فقابل الأسهل بالأسهل والأشد بالأشد قال هذا رحمة من ربي أي : قدر الله وجوده ليكون رحمة منه بعباده أن يمنع بسببه عدوان هؤلاء القوم على من جاورهم في تلك المحلة فإذا جاء وعد ربي أي الوقت الذي قدر خروجهم على الناس في آخر الزمان جعله دكاء أي مساويا للأرض . ولا بد من كون هذا ، ولهذا قال : وكان وعد ربي حقا كما قال تعالى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون واقترب الوعد الحق الآية [ الأنبياء : 96 ، 97 ] . ولذا قال هاهنا : وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض يعني يوم فتح السد ، على الصحيح ونفخ في الصور فجمعناهم جمعا وقد أوردنا الأحاديث المروية ، في خروج يأجوج ومأجوج في " التفسير " وسنوردها ، إن شاء الله في كتاب " الفتن والملاحم " من كتابنا هذا ، إذا انتهينا إليه ، بحول الله وقوته ، [ ص: 550 ] وحسن توفيقه ومعونته وهدايته .
قال ، عن أبو داود الطيالسي الثوري : بلغنا أن أول من صافح ، ذو القرنين . وروي عن كعب الأحبار أنه قال لمعاوية : إن ذا القرنين لما حضرته الوفاة أوصى أمه ; إذا هو مات أن تصنع طعاما ، وتجمع نساء أهل المدينة وتضعه بين أيديهن ، وتأذن لهن فيه ، إلا من كانت ثكلى ، فلا تأكل منه شيئا ، فلما فعلت ذلك لم تضع واحدة منهن يدها فيه ، فقالت لهن : سبحان الله! كلكن ثكلى! فقلن : أي والله ما منا إلا من أثكلت . فكان ذلك تسلية لأمه . وذكر عن إسحاق بن بشر ، عبد الله بن زياد ، عن بعض أهل الكتاب ، وصية وموعظته أمه موعظة بليغة طويلة ، فيها حكم وأمور نافعة ، وأنه مات وعمره ثلاثة آلاف سنة ، وهذا غريب . ذي القرنين
قال : وبلغني من وجه آخر أنه عاش ستا وثلاثين سنة ، وقيل : كان عمره ثنتين وثلاثين سنة ، وكان بعد ابن عساكر داود بسبعمائة سنة وأربعين سنة ، وكان بعد آدم بخمسة آلاف ومائة وإحدى وثمانين سنة ، وكان ملكه ست عشرة سنة . وهذا الذي ذكره إنما ينطبق على إسكندر الثاني لا الأول ، وقد خلط في أول الترجمة وآخرها بينهما ، والصواب التفرقة كما ذكرنا ، اقتداء بجماعة من الحفاظ . والله أعلم .
[ ص: 551 ] وممن جعلهما واحدا الإمام عبد الملك بن هشام ، راوي السيرة ، وقد أنكر ذلك عليه الحافظ أبو القاسم السهيلي ، رحمه الله ، إنكارا بليغا ، ورد قوله ردا شنيعا ، وفرق بينهما تفريقا جيدا ، كما قدمنا . قال : ولعل جماعة من الملوك المتقدمين ، تسموا بذي القرنين تشبها بالأول . والله أعلم .