وذلك أنه جمع الجند والجيوش ، وعزم على خلع سليمان وترك طاعته ، وذكر لهم همته وفتوحه وعدله فيهم ، ودفعه الأموال الجزيلة إليهم ، فلما فرغ من مقالته ، لم يجبه أحد منهم إلى مقالته ، فشرع في تأنيبهم وذمهم ، قبيلة قبيلة ، وطائفة طائفة ، فغضبوا عند ذلك ونفروا عنه وتفرقوا ، وعملوا على مخالفته وسعوا في قتله ، وكان القائم بأعباء ذلك رجل يقال له : وكيع بن أبي سود ، فجمع جموعا كثيرة ثم ناهضه فلم يزل به حتى قتله في ذي الحجة من هذه السنة ، وقتل معه أحد عشر رجلا من إخوته وأبناء إخوته ، ولم يبق منهم سوى ضرار بن مسلم وكانت أمه الغراء بنت ضرار بن القعقاع بن معبد بن سعد بن زرارة ، فحمته أخواله وعمرو بن مسلم ، وكان عامل الجوزجان . وقتل قتيبة وعبد الرحمن وعبد الله وعبيد الله وصالح وبشار ، وهؤلاء أبناء مسلم ، وأربعة من أبنائهم فقتلهم كلهم وكيع بن سود .
وقد كان من سادات الأمراء وخيارهم ، وكان من القادة النجباء الكبراء ، والشجعان وذوي [ ص: 616 ] الحروب والفتوحات السعيدة ، والآراء الحميدة ، وقد هدى الله على يديه خلقا لا يحصيهم إلا الله ، فأسلموا ودانوا لله عز وجل ، وفتح من البلاد والأقاليم الكبار والمدن العظام شيئا كثيرا ، كما تقدم ذلك مفصلا مبينا ، والله سبحانه لا يضيع سعيه ، ولا يخيب تعبه وجهاده . قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة أبو حفص الباهلي ،
ولكن زل زلة كان فيها حتفه ، وفعل فعلة رغم فيها أنفه ، وخلع الطاعة فبادرت إليه المنية ، وفارق الجماعة ، فمات ميتة جاهلية ، لكن سبق له من الأعمال الصالحة ما قد يكفر الله بها عنه من سيئاته ، ويمحو بها عنه من خطياته ، والله يسامحه ويعفو عنه ، ويتقبل منه ما كان يكابده من مناجزة الأعداء .
وكانت وفاته بفرغانة من أقصى بلاد خراسان في ذي الحجة من هذه السنة ، وله من العمر ثمان وأربعون سنة ، وكان أبوه أبو صالح ممن قتل مع مصعب بن الزبير ، وكانت ولايته على خراسان عشر سنين ، واستفاد وأفاد فيها خيرا كثيرا ، وقد رثاه عبد الرحمن بن جمانة الباهلي فقال :
كأن أبا حفص قتيبة لم يسر بجيش إلى جيش ولم يعل منبرا ولم تخفق الرايات والقوم حوله
وقوف ولم يشهد له الناس عسكرا دعته المنايا فاستجاب لربه
وراح إلى الجنات عفا مطهرا فما رزئ الإسلام بعد محمد
بمثل أبي حفص فبكيه عبهرا
لولا فوارس مذحج ابنة مذحج والأزد زعزع واستبيح العسكر
وتقطعت بهم البلاد ولم يؤب منهم إلى أهل العراق مخبر
واستضلعت عقد الجماعة وازدرى أمر الخليفة واستحل المنكر
قوم همو قتلوا قتيبة عنوة والخيل جانحة عليها العثير
بالمرج مرج الصين حيث تبينت مضر العراق من الأعز الأكبر
إذ حالفت جزعا ربيعة كلها وتفرقت مضر ومن يتمضر
وتقدمت أزد العراق ومذحج للموت يجمعها أبوها الأكبر
قحطان تضرب رأس كل مدجج تحمي بصائرهن إذ لا تبصر
والأزد تعلم أن تحت لوائها ملكا قراسية وموت أحمر
فبعزنا نصر النبي محمد وبنا تثبت في دمشق المنبر
[ ص: 618 ] وقال القاضي ابن خلكان : وقال جرير في رحمه الله وسامحه : قتيبة بن مسلم
ندمتم على قتل الأغر ابن مسلم وأنتم إذا لاقيتم الله أندم
لقد كنتم من غزوه في غنيمة وأنتم لمن لاقيتم اليوم مغنم
على أنه أفضى إلى حور جنة وتطبق بالبلوى عليكم جهنم
مضى ابن سعيد حين لم يبق مشرق ولا مغرب إلا له فيه مادح
وما كنت أدري ما فواضل كفه على الناس حتى غيبته الصفائح
وأصبح في لحد من الأرض ضيق وكانت به حيا تضيق الصحاصح
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض فحسبك مني ما تجن الجوانح
فما أنا من رزء وإن جل جازع ولا بسرور بعد موتك فارح
كأن لم يمت حي سواك ولم تقم على أحد إلا عليك النوائح
لئن حسنت فيك المراثي وذكرها لقد حسنت من قبل فيك المدائح
ثم قال ابن جرير وفي هذه السنة توفي أمير قرة بن شريك القيسي مصر من جهة الوليد . وفيها حج بالناس وكان هو الأمير على أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ، المدينة وعلى مكة عبد العزيز بن عبد الله بن خالد [ ص: 620 ] بن أسيد ، وعلى حرب العراق وصلاتها يزيد بن المهلب ، وعلى خراجها صالح بن عبد الرحمن ، وعلى نيابة البصرة ليزيد بن المهلب سفيان بن عبد الله الكندي ، وعلى قضائها عبد الرحمن بن أذينة ، وعلى قضاء الكوفة أبو بكر بن أبي موسى ، وعلى حرب خراسان وكيع بن أبي سود .