وممن توفي فيها من الأعيان
[ ص: 623 ] الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب
أبو محمد القرشي الهاشمي . روى عن أبيه ، عن جده مرفوعا : من عال أهل بيت من المسلمين يومهم وليلتهم غفر الله له ذنوبه . وعن عبد الله بن جعفر ، عن علي في دعاء الكرب ، وعن زوجته فاطمة بنت الحسين ، وعنه ابنه عبد الله وجماعة . وفد على فأكرمه ونصره على عبد الملك بن مروان الحجاج ، وأقره وحده على ولاية صدقة علي . وقد ترجمه فأحسن ، وذكر عنه آثارا تدل على سيادته وعلمه وتسننه ، رحمه الله . وقيل : إن الحافظ ابن عساكر كتب إلى عامله الوليد بن عبد الملك بالمدينة : إن الحسن بن الحسن كاتب أهل العراق ، فإذا جاءك كتابي هذا فاجلده مائة ضربة ، وقفه للناس ، ولا أراني إلا قاتله . فأرسل خلفه فعلمه علي بن الحسين كلمات الكرب ، فقالها حين دخل عليه فنجاه الله منهم ، وهي : لا إله إلا الله الحليم الكريم ، لا إله إلا الله العلي العظيم ، لا إله إلا الله رب السماوات السبع ورب الأرض رب العرش العظيم . توفي بالمدينة ، وكانت أمه خولة بنت منظور الفزاري .
[ ص: 624 ] وقال يوما لرجل من الرافضة : والله إن قتلك لقربة إلى الله ، عز وجل . فقال له الرجل : إنك تمزح . فقال : والله ما هذا مني بمزح ولكنه الجد . وقال له آخر منهم : ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كنت مولاه فعلي مولاه ؟ فقال : بلى ، ولو أراد الخلافة لخطب الناس فقال : أيها الناس ، اعلموا أن هذا ولي أمركم وهو القائم عليكم من بعدي ، فاسمعوا له وأطيعوا ، والله لئن كان الله ورسوله اختار عليا لهذا الأمر ثم تركه علي لكان أول من ترك أمر الله ورسوله .
وقال لهم أيضا : والله لئن ولينا من الأمر شيئا لنقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ، ثم لا نقبل لكم توبة ، ويلكم غررتمونا من أنفسنا ، ويلكم لو كانت القرابة تنفع بلا عمل لنفعت أباه وأمه . فلو كان ما تقولون فينا حقا لكان آباؤنا إذ لم يعلمونا بذلك قد ظلمونا وكتموا عنا أفضل الأمور ، والله إني لأخشى أن يضاعف للعاصي منا العذاب ضعفين ، كما إني لأرجو للمحسن منا أن يكون له الأجر مرتين ، ويلكم أحبونا إن أطعنا الله ، وأبغضونا إن عصينا الله .
أبو عبد الرحمن اللخمي موسى بن نصير
مولاهم ، كان مولى لامرأة [ ص: 625 ] منهم ، وقيل : كان مولى لبني أمية . افتتح بلاد المغرب ، وغنم منها أموالا لا تعد ولا توصف ، وله بها مقامات مشهورة هائلة ، ويقال : إنه كان أعرج . ويقال : إنه ولد سنة تسع عشرة . وأصله من عين التمر ، وقيل : إنه من إراشة من بلي . سبي أبوه من جبل الخليل من الشام في أيام الصديق ، وكان اسم أبيه نصرا فصغر .
روى عن وروى عنه ابنه تميم الداري عبد العزيز ، ويزيد بن مسروق اليحصبي . وولي غزو البحر لمعاوية ، فغزا قبرص ، وبنى هنالك حصونا كالماغوصة وحصن يانس وغير ذلك من الحصون التي بناها بقبرص وكان نائب معاوية عليها بعد أن فتحها معاوية في سنة سبع وعشرين . وشهد مرج راهط مع الضحاك بن قيس ، فلما قتل الضحاك لجأ موسى بن نصير إلى عبد العزيز بن مروان ، ثم لما دخل مروان بلاد مصر كان معه فتركه عند ابنه عبد العزيز ، ثم لما أخذ عبد الملك بلاد العراق جعله وزيرا عند أخيه بشر بن مروان .
وكان موسى بن نصير هذا ذا رأي وتدبير وحزم وخبرة بالحرب . قال الفسوي : ولي موسى بن نصير إمرة بلاد إفريقية سنة تسع وسبعين ، فافتتح [ ص: 626 ] بلادا كثيرة . وقد ذكرنا أنه افتتح بلاد الأندلس ، وهي بلاد ذات مدن وقرى وريف ، فسبى منها ومن غيرها خلقا كثيرا ، وغنم أموالا جزيلة ، من الذهب والجواهر النفيسة شيئا لا يحصى ولا يعد ، وأما الآلات والمتاع والدواب فشيء لا يدرى ما هو ، وسبى من الغلمان الحسان والنساء الحسان شيئا كثيرا ، حتى قيل : إنه لم يسب أحد مثله من الأعداء ، وأسلم أهل المغرب على يديه ، وبث فيهم الدين والقرآن ، وكان إذا سار إلى مكان ، تحمل الأموال معه على العجل لكثرتها وعجز الدواب عنها .
وقد كان موسى بن نصير هذا يفتح في بلاد المغرب ، وقتيبة يفتح في بلاد المشرق ، فجزاهما الله خيرا ، فكلاهما فتح من الأقاليم والبلدان شيئا كثيرا ، ولكن موسى بن نصير حظي بأشياء لم يحظ بها قتيبة ، حتى قيل : إنه لما فتح الأندلس جاءه رجل فقال : ابعث معي رجالا حتى أدلك على كنز عظيم ، فبعث معه رجالا فأتى بهم إلى مكان ، فقال : احفروا . فحفروا فأفضى بهم الحفر إلى قاعة عظيمة ذات لواوين حسنة ، فوجدوا هناك من اليواقيت والجواهر والزبرجد ما أبهتهم ، وأما الذهب فشيء لا يعبر عنه ، ووجدوا في ذلك الموضع الطنافس ، الطنفسة منها منسوجة بقضبان الذهب ، منظومة باللؤلؤ الغالي المفتخر ، والطنفسة منظومة بالجوهر المثمن ، واليواقيت التي ليس لها نظير في شكلها [ ص: 627 ] وحسنها وصفاتها . ولقد سمع يومئذ مناد ينادي لا يرون شخصه : أيها الناس ، إنه قد فتح عليكم باب من أبواب جهنم فخذوا حذركم . وقيل : إنهم وجدوا في هذا الكنز مائدة سليمان بن داود التي كان يأكل عليها . وقد جمع أخباره وما جرى له في حروبه وغزواته رجل من ذريته يقال له : أبو معاوية معارك بن مروان بن عبد الملك بن مروان بن موسى بن نصير النصيري .
وروى أن الحافظ ابن عساكر عمر بن عبد العزيز سأل موسى بن نصير حين قدم دمشق أيام الوليد عن أعجب شيء رآه في البحر ، فقال : انتهينا مرة إلى جزيرة فيها ست عشرة جرة خضراء مختومة عليها بخاتمسليمان بن داود عليهما السلام فأمرت بأربعة منها فأخرجت ، وأمرت بواحدة منها فنقبت فإذا شيطان ينفض رأسه ، وهو يقول : والذي أكرمك بالنبوة لا أعود بعدها أفسد في الأرض . قال : ثم نظر فقال : والله لا أرى بها سليمان وملكه . فانساخ في الأرض فذهب ، قال : فأمرت بالثلاث البواقي فردت إلى مكانها .
[ ص: 628 ] وقد استسقى موسى بن نصير بالناس في سنة ثلاث وتسعين حين أقحطوا بإفريقية ، فأمرهم بصيام ثلاثة أيام قبل الاستسقاء ، ثم خرج بين الناس ، وميز أهل الذمة عن المسلمين ، وفرق بين البهائم وأولادها ثم أمر برفع الضجيج والبكاء ، وهو يدعو الله تعالى حتى انتصف النهار ، ثم نزل فقيل له : ألا دعوت لأمير المؤمنين؟ فقال : هذا موطن لا يذكر فيه إلا الله . فسقاهم الله ، عز وجل ، لما قال ذلك .
وقد وفد موسى بن نصير على في آخر أيامه ، فدخل الوليد بن عبد الملك دمشق في يوم جمعة والوليد على المنبر ، وقد لبس موسى ثيابا حسنة وهيئة حسنة ، ومعه ثلاثون من أبناء الملوك والأشبان ، وقد ألبسهم تيجان الملوك مع ما معهم من الخدم والحشم والأبهة العظيمة ، فلما نظر إليهم الوليد وهو يخطب الناس على منبر جامع دمشق بهت إليهم ، لما رأى عليهم من [ ص: 629 ] الحرير والجواهر والزينة البالغة ، وجاء موسى بن نصير فسلم على الوليد وهو على المنبر ، وأمر أولئك فوقفوا عن يمين المنبر وشماله ، فحمد الله الوليد ، وشكره على ما أيده به ووسع ملكه ، وأطال الدعاء والتحميد والشكر حتى خرج وقت الجمعة ، ثم نزل فصلى بالناس ، ثم استدعى بموسى بن نصير فأحسن جائزته وأعطاه شيئا كثيرا ، وكان موسى قد قدم معه بمائدة سليمان بن داود عليهما السلام ، التي كان يأكل عليها وكانت من خليطين ، ذهب وفضة وعليها ثلاثة أطواق لؤلؤ وجوهر لم ير مثلها ، وجدها في مدينة طليطلة من بلاد الأندلس مع أموال كثيرة ، وقيل : إنه بعث ابنه مروان على جيش ، فأصاب من السبي مائة ألف رأس ، وبعث ابن أخيه في جيش ، فأصاب مائة ألف رأس أيضا من البربر ، فلما جاء كتابه إلى الوليد وذكر فيه أن خمس الغنائم أربعون ألف رأس . قال الناس : إن هذا أحمق ، من أين له أربعون ألف رأس خمس الغنائم؟ فبلغه ذلك فأرسل أربعين ألف رأس وهي خمس ما غنم ، ولم يسمع في الإسلام بمثل سبايا موسى بن نصير أمير المغرب .
وقد جرت له عجائب في فتحه بلاد الأندلس ، وقال : لو انقاد الناس لي لقدتهم حتى أفتح بهم مدينة رومية وهي المدينة العظمى في بلاد الفرنج ثم ليفتحنها الله على يدي إن شاء الله تعالى . ولما قدم على الوليد قدم معه بثلاثين ألفا من السبي غير ما ذكرنا ، وذلك خمس ما كان غنمه في آخر غزاة غزاها ببلاد [ ص: 630 ] المغرب ، وقدم معه من الأموال والتحف واللآلئ والجواهر ما لا يحد ولا يوصف .
ولم يزل مقيما بدمشق حتى مات الوليد وتولى سليمان ، وكان عاتبا على موس ى فحبسه عنده ، وطالبه بأموال عظيمة . ولم يزل في يده حتى حج سليمان في هذه السنة وأخذه معه فمات بالمدينة . وقيل : بوادي القرى . وقد قارب الثمانين ، وقيل : توفي سنة تسع وتسعين . فالله أعلم .