خروج إبراهيم بن عبد الله بن حسن   
وظهر بالبصرة  أيضا إبراهيم بن عبد الله بن حسن ،  وجاء البريد إلى أخيه   [ ص: 364 ] محمد  بذلك ، فانتهى إليه ليلا ، فاستؤذن له عليه وهو بدار مروان ،  فطرق بابها ، فقال : اللهم إني أعوذ بك من شر طوارق الليل إلا طارقا يطرق بخير . ثم خرج فأخبره عن أخيه بذلك ، فاستبشر جدا ، وفرح كثيرا ، وكان يقول للناس بعد صلاتي الصبح والمغرب : ادعوا الله لإخوانكم أهل البصرة  وللحسن بن معاوية  بمكة ،  واستنصروه على أعدائكم . 
وأما أبو جعفر ،  فإنه جهز الجيوش إلى محمد  صحبة عيسى بن موسى  أربعة آلاف فارس من الشجعان المنتخبين ، منهم; محمد بن أبي العباس السفاح ،  وحميد بن قحطبة ،  وجعفر بن حنظلة البهراني ،  وكان المنصور  قد استشاره فيه فقال : يا أمير المؤمنين ، ادع من شئت ممن تثق به من مواليك ، فينزل وادي القرى  فيمنعه ميرة الشام  ، فيموت هو ومن معه جوعا ، فإنه ببلد ليس فيه مال ولا رجال ولا كراع ولا سلاح . وقدم بين يديه كثير بن الحصين العبدي ،  وقد قال أبو جعفر المنصور  لعيسى بن موسى  حين ودعه : يا عيسى ،  إني أبعثك إلى ما بين جنبي هذين ، فإن ظفرت بالرجل ، فشم سيفك ، وناد في الناس بالأمان ، وإن تغيب فضمنهم إياه حتى يأتوك به ، فإنهم أعلم بمذاهبه . وكتب معه كتابا إلى رؤساء قريش  والأنصار  من أهل المدينة  يدفعها إليهم خفية ، يدعوهم إلى الرجوع إلى الطاعة ، فلما اقترب   [ ص: 365 ] عيسى بن موسى  من المدينة بعثها مع رجل ، فأخذه حرس محمد  فوجدوا معه تلك الكتب ، فدفعوها إلى محمد  فاستحضر جماعة من أولئك ، فعاقبهم ضربا شديدا ، وقيودا ثقالا ، وأودعهم السجن ، ثم إن محمدا  استشار أصحابه في المقام بالمدينة  حتى يأتي عيسى بن موسى ،  فيحاصرهم بها ، أو أن يخرج بمن معه فيقاتل أهل العراق ،  فمنهم من أشار بهذا ، ومنهم من أشار بذاك ، ثم اتفق الرأي على المقام بالمدينة    - لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأسف يوم أحد  على الخروج منها - وعلى حفر خندق حول المدينة  ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب ، فأجاب إلى ذلك كله ، وحفر مع الناس في الخندق بيده اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ظهر لهم لبنة من الخندق الذي كان حفره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بذلك واستبشروا وكبروا وبشروه بالنصر . وكان محمد  حاضرا عليه قباء أبيض ، وفي وسطه منطقة ، وكان شكلا ضخما ، أسمر عظيم الهامة . 
ولما نزل عيسى بن موسى الأعوص ،  واقترب من المدينة  ، صعد محمد بن عبد الله بن حسن  المنبر ، فخطب الناس ، وحثهم على الجهاد وندبهم إليه - وكانوا قريبا من مائة ألف - فقال لهم في جملة ما قال : إني جعلتكم في حل من بيعتي ، فمن أحب أن يقيم عليها فليفعل ، ومن أحب أن يتركها فليفعل . فتسلل كثير منهم أو أكثرهم ، ولم يبق إلا شرذمة من الناس ، وخرج أكثر أهل المدينة   [ ص: 366 ] بأهليهم منها لئلا يشهدوا القتال بها ، فنزلوا الأعراض ورءوس الجبال ، وقد بعث محمد  أبا القلمس  ليردهم عن الخروج ، فلم يمكنه ذلك في أكثرهم ، واستمروا ذاهبين . وقد قال محمد  لرجل : أتأخذ سيفا ورمحا وترد هؤلاء الذين خرجوا من المدينة؟ فقال : نعم ، إن أعطيتني رمحا أطعنهم به وهم بالأعراض ، وسيفا أضربهم به وهم في رءوس الجبال فعلت . فسكت محمد ،  ثم قال : ويحك! إن أهل الشام  والعراق  وخراسان  قد بيضوا - يعني لبسوا البياض - موافقة لي وخلعوا السواد . فقال : وما ينفعني أن لو بقيت الدنيا زبدة بيضاء وأنا في مثل صوفة الدواة ، وهذا عيسى بن موسى  نازل بالأعوص؟    ! ثم جاء عيسى بن موسى ،  فنزل بجيشه قريبا من المدينة  ، على ميل منها ، فقال له دليله ابن الأصم    : إني أخشى إذا كشفتموهم أن يرجعوا إلى معسكرهم سريعا قبل أن تدركهم الخيل . ثم ارتحل به فأنزله الجرف على سقاية سليمان بن عبد الملك  على أربعة أميال من المدينة  ، وذلك يوم السبت لصبح ثنتي عشرة ليلة خلت من رمضان من هذه السنة ، وقال : إن الراجل إذا هرب لا يقدر على الهرولة أكثر من ميلين أو ثلاثة ، فتدركه الخيل . 
وأرسل عيسى بن موسى  خمسمائة فارس فنزلوا عند الشجرة في طريق مكة ،  وقال لهم : إن هذا الرجل إن هرب فليس له ملجأ إلا مكة  فاقتلوه وحولوا   [ ص: 367 ] بينه وبينها . ثم أرسل عيسى إلى  محمد  يدعوه إلى السمع والطاعة والرجوع إلى المبايعة لأمير المؤمنين; فإنه قد أعطاه الأمان له ولأهل بيته إن هو أجاب إلى ذلك . فقال محمد  للرسول : لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتك . ثم بعث إلى عيسى بن موسى  يقول له : إني أدعوك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فاحذر أن تمتنع فأقتلك فتكون شر قتيل ، أو تقتلني فتكون قد قتلت من دعاك إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم . ثم جعلت الرسل تتردد بينهما ثلاثة أيام ، يدعوه فيها عيسى بن موسى  إلى السمع والطاعة والرجوع إلى الجماعة ، وجعل عيسى  يقف في كل يوم من هذه الأيام الثلاثة على الثنية عند سلع فينادي : يا أهل المدينة  ، إن دماءنا علينا حرام ، فمن جاء فوقف تحت رايتنا فهو آمن ، ومن دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو آمن ، ومن دخل داره فهو آمن ، ومن خرج من المدينة  فهو آمن ، ومن ألقى سلاحه فهو آمن ، فليس لنا في قتالكم أرب ، وإنما نريد محمدا  وحده لنذهب به إلى الخليفة . فجعلوا يسبونه وينالون من أمه ، ويتكلمون معه بكلام شنيع ، ويخاطبونه مخاطبة فظيعة ، وقالوا : هذا ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا ونحن معه ، ونقاتل دونه . 
فلما كان اليوم الثالث أتاهم في خيل ورجال وسلاح ورماح لم ير مثلها ، فناداه : يا محمد ،  إن أمير المؤمنين أمرني أن لا أقاتلك حتى أدعوك إلى السمع والطاعة ، فإن فعلت أمنك ، وقضى دينك ، وأعطاك أموالا وأراضي ، وإن أبيت قاتلتك ، فقد دعوتك غير مرة . فناداه محمد    : إنه ليس لكم عندي إلا القتال .   [ ص: 368 ] فنشبت الحرب حينئذ بينهم ، وكان جيش عيسى بن موسى  فوق الأربعة آلاف ، على المقدمة حميد بن قحطبة ،  وعلى ميمنته محمد ابن السفاح ،  وعلى الميسرة داود بن كراز ،  وعلى الساقة الهيثم بن شعبة ،  ومعهم عدد لم ير مثلها ، وفرق عيسى  أصحابه ، في كل قطر طائفة ، وكان محمد  وأصحابه على عدة أهل بدر  واقتتل الفريقان قتالا شديدا جدا ، وترجل محمد  إلى الأرض فيقال : إنه قتل بيده من أولئك سبعين رجلا ، وأحاط بهم أهل العراق ،  فقتلوا طائفة من أصحاب محمد بن عبد الله بن حسن ،  واقتحموا عليهم الخندق الذي كانوا حفروه ، وعملوا أبوابا على قدره ، وقيل : إنهم ردموه بحدائج الإبل حتى أمكنهم أن يجوزوه ، وقد يكون هذا في موضع منه ، وهذا في موضع آخر . والله أعلم . 
ولم يزل القتال ناشبا بينهم من بكرة النهار حتى صليت العصر ، فلما صلى محمد  العصر نزل إلى مسيل الوادي بسلع ،  فكسر جفن سيفه ، وعقر فرسه ، وفعل أصحابه مثله ، وصبروا أنفسهم للقتال وحميت الحرب حينئذ جدا ، فاستظهر أهل العراق ،  ورفعوا راية سوداء فوق سلع ،  ثم دنوا إلى المدينة  فدخلوها ونصبوا راية سوداء فوق مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما رأى ذلك أصحاب محمد  تنادوا : دخلت المدينة    . وهربوا وبقي محمد  في شرذمة قليلة جدا . ثم بقي وحده وفي يده سيف صلت يضرب به من تقدم   [ ص: 369 ] إليه ، فلا يقوم له شيء ، ويقال : إنه كان في يده يومئذ ذو الفقار    . ثم تكاثر عليه الناس ، فتقدم إليه رجل ، فضربه بسيفه تحت شحمة أذنه اليمنى فسقط محمد  لركبتيه ، وجعل يحمي نفسه ، ويقول : ويحكم ابن نبيكم مجروح مظلوم . وجعل حميد بن قحطبة  يقول : ويحكم دعوه لا تقتلوه . فأحجم عنه الناس ، وتقدم إليه حميد بن قحطبة ،  فاحتز رأسه ، وذهب به إلى عيسى بن موسى ،  فوضعه بين يديه ، وكان حميد  قد حلف أن يقتله متى رآه ، فما أدركه إلا كذلك . 
وكان مقتل محمد  عند أحجار الزيت  يوم الاثنين بعد العصر ، لأربع عشرة ليلة خلت من رمضان سنة خمس وأربعين ومائة ، وقد قال عيسى بن موسى  لأصحابه حين وضع رأسه بين يديه : ما تقولون فيه؟ فنال منه أقوام وتكلموا فيه ، فقال رجل منهم : كذبتم والله ، لقد كان صواما قواما ، ولكنه خالف أمير المؤمنين ، وشق عصا المسلمين ، فقتلناه على ذلك . فسكتوا حينئذ . 
وأما سيفه ذو الفقار فإنه صار إلى بني العباس  يتوارثونه بينهم حتى جربه بعضهم ، فضرب به كلبا ، فانقطع السيف . ذكره ابن جرير  وغيره . 
وقد بلغ المنصور  في غبون هذا الأمر أن محمدا  فر من الحرب ، فقال : لا ، إنا أهل بيت لا نفر . 
 [ ص: 370 ] وقال ابن جرير :  حدثني عبد الله بن راشد ،  حدثني أبو الحجاج  قال : إني لقائم على رأس المنصور ،  وهو مسائلي عن مخرج محمد ،  إذ بلغه أن عيسى  قد هزم - وكان متكئا فجلس - فضرب بقضيب معه مصلاه وقال : كلا ، فأين لعب صبياننا بها على المنابر ومشورة النساء؟ ما أنى لذلك بعد! 
وبعث عيسى  بالبشارة إلى المنصور  مع القاسم بن الحسن ،  وبالرأس مع ابن أبي الكرام ،  ثم أذن في دفن جثة محمد  فدفن بالبقيع ،  وأمر بأصحابه الذين قتلوا معه فصلبوا صفين ظاهر المدينة  ثلاثة أيام ، ثم طرحوا على مقبرة اليهود عند سلع ،  ثم نقلوا إلى خندق هناك ، وأخذ أموال بني حسن  كلها ، فسوغها له المنصور ،  ويقال : إنه ردها بعد ذلك إليهم . حكاه ابن جرير    . 
ونودي في أهل المدينة  بالأمان ، فأصبح الناس في أسواقهم ، وترفع عيسى بن موسى  إلى الجرف من مطر أصاب الناس يوم قتل محمد ،  وجعل ينتاب المسجد من الجرف ، وأقام بالمدينة  إلى اليوم التاسع عشر من رمضان ، ثم خرج منها قاصدا مكة  ، وكان بها الحسن بن معاوية  من جهة محمد ،  وكان قد كتب إليه ليقدم عليه ، فلما خرج من مكة  وكان ببعض الطريق ، تلقته الأخبار بقتل محمد ،  فاستمر فارا إلى البصرة  إلى إبراهيم بن عبد الله ،  الذي كان قد خرج بها ، ثم قتل بعد أخيه في هذه السنة على ما سنذكره . 
 [ ص: 371 ] ولما جيء المنصور  برأس محمد بن عبد الله بن حسن  فوضع بين يديه ، أمر فطيف به في طبق أبيض ، ثم طيف به في الأقاليم بعد ذلك . ثم شرع المنصور  في استدعاء من خرج مع محمد  من أشراف أهل المدينة  فمنهم من قتله ، ومنهم من يضربه ضربا مبرحا ، ومنهم من يعفو عنه . 
ولما توجه عيسى بن موسى  إلى مكة  استناب على المدينة  كثير بن حصين ،  فاستمر شهرا حتى بعث المنصور  على نيابتها عبد الله بن الربيع  فعاث جنده في المدينة  فسادا ، واشتروا من الناس أشياء لا يعطونهم ثمنها ، وإن طولبوا بذلك ضربوا المطالب ، وخوفوه بالقتل ، فثار عليهم طائفة من السودان;  واجتمعوا ونفخوا في بوق لهم ، فاجتمع على صوته كل أسود في المدينة  وحملوا عليهم حملة واحدة وهم ذاهبون إلى الجمعة ، لسبع بقين من ذي الحجة من هذه السنة - وقيل : لخمس بقين من شوال منها - فقتلوا منهم طائفة كثيرة وهرب نائب المدينة  عبد الله بن الربيع ،  وترك صلاة الجمعة ، وكان رؤساء السودان;  وثيق ،  ويعقل ،  ورمقة ،  وحديا ،  وعنقود ،  ومسعر  وأبو قيس ،  وأبو النار ،  فركب عبد الله بن الربيع  في جنوده والتقى مع السودان فهزموه ، ومضى فلحقوه بالبقيع ،  فألقى لهم دراهم شغلهم بها ، حتى نجا بنفسه ومن اتبعه ، فلحق ببطن نخل على ليلتين من المدينة  ، ووقع السودان  على طعام للمنصور  كان   [ ص: 372 ] مخزونا في دار مروان  قد قدم به في البحر لأجل الجند الذين بالمدينة;  من دقيق وسويق وزيت وقسب ، فانتهبوه ، وباعوه بأرخص ثمن ، وذهب الخبر إلى المنصور  بما كان من أمر السودان  ، وخاف أهل المدينة  من معرة ذلك ، فاجتمعوا في المسجد وخطبهم ابن أبي سبرة    - وكان مسجونا - فصعد المنبر وفي رجليه القيود ، فحثهم على السمع والطاعة لأمير المؤمنين المنصور ،  وخوفهم شر ما صنعه مواليهم ، فاتفق رأيهم على أن يكفوا مواليهم ويفرقوهم وأن يذهبوا إلى أميرهم ، فيردوه إلى عمله ، ففعلوا ذلك ، فسكن الأمر ، وهدأ الناس ، وانطفأت الشرور ، ورجع عبد الله بن الربيع  إلى المدينة  ، فقطع يد وثيق  وأبي النار  ويعقل  ومسعر    . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					