ورجوعه إلى سيف بن ذي يزن خروج الملك عن
قال محمد بن إسحاق رحمه الله : فلما هلك أبرهة ، ملك الحبشة يكسوم بن أبرهة ، وبه كان يكنى فلما هلك يكسوم ، ملك اليمن من الحبشة أخوه مسروق بن أبرهة . قال : فلما طال البلاء على أهل اليمن خرج سيف بن ذي يزن الحميري - وهو سيف بن ذي يزن بن ذي أصبح بن مالك بن زيد بن سهل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن العرنجج وهو حمير بن سبأ وكان سيف يكنى أبا مرة - حتى قدم على قيصر ملك الروم فشكى إليه ما هو فيه ، وسأله أن يخرجهم عنه ، ويليهم هو ، ويخرج إليهم من شاء من الروم فيكون له ملك اليمن فلم يشكه فخرج حتى أتى النعمان بن المنذر وهو عامل كسرى على الحيرة وما يليها من أرض العراق .
فشكا إليه أمر الحبشة فقال له النعمان : إن لي على كسرى ، وفادة في كل عام فأقم عندي حتى يكون ذلك ففعل ، ثم خرج معه فأدخله على [ ص: 159 ] كسرى وكان كسرى يجلس في إيوان مجلسه الذي فيه تاجه وكان تاجه مثل القنقل العظيم فيما يزعمون ، يضرب فيه الياقوت والزبرجد اللؤلؤ بالذهب والفضة معلقا بسلسلة من ذهب في رأس طاقة في مجلسه ذلك ، وكانت عنقه لا تحمل تاجه إنما يستر عليه بالثياب حتى يجلس في مجلسه ذلك ، ثم يدخل رأسه في تاجه فاذا استوى في مجلسه كشف عنه الثياب فلا يراه أحد لم يره قبل ذلك إلا برك هيبة له فلما دخل عليه طأطأ رأسه فقال الملك : إن هذا الأحمق يدخل علي من هذا الباب الطويل ، ثم يطأطئ رأسه فقيل ذلك لسيف فقال : إنما فعلت هذا لهمي لأنه يضيق عنه كل شيء ، ثم قال : أيها الملك غلبتنا على بلادنا الأغربة . قال كسرى : أي الأغربة; الحبشة أم السند ؟ قال : بل الحبشة فجئتك لتنصرني ، ويكون ملك بلادي لك . فقال له كسرى : بعدت بلادك مع قلة خيرها فلم أكن لأورط جيشا من فارس بأرض العرب لا حاجة لي بذلك ، ثم أجازه بعشرة آلاف درهم واف ، وكساه كسوة حسنة فلما قبض ذلك منه سيف خرج فجعل ينثر تلك الورق للناس .
فبلغ ذلك الملك فقال : إن لهذا لشأنا ، ثم بعث إليه فقال : عمدت إلى حباء الملك تنثره للناس ! قال : وما أصنع بهذا ؟ ما [ ص: 160 ] جبال أرضي التي جئت منها إلا ذهب وفضة يرغبه فيها فجمع كسرى مرازبته فقال لهم : ما ترون في أمر هذا الرجل وما جاء له ؟ فقال قائل : أيها الملك إن في سجونك رجالا قد حبستهم للقتل فلو أنك بعثتهم معه فإن يهلكوا كان ذلك الذي أردت بهم ، وإن ظفروا كان ملكا ازددته . فبعث معه كسرى من كان في سجونه كانوا ثمانمائة رجل ، واستعمل عليهم وهرز وكان ذا سن فيهم وأفضلهم حسبا وبيتا فخرجوا في ثمان سفائن فغرقت سفينتان ووصل إلى ساحل عدن ست سفائن فجمع سيف إلى وهرز من استطاع من قومه ، وقال له : رجلي ورجلك حتى نموت جميعا أو نظفر جميعا فقال له : وهرز أنصفت ، وخرج إليه مسروق بن أبرهة ملك اليمن ، وجمع إليه جنده فأرسل إليهم وهرز ابنا له ، ليقاتلهم فيختبر قتالهم فقتل ابن وهرز فزاده ذلك حنقا عليهم فلما تواقف الناس على مصافهم قال وهرز : أروني ملكهم فقالوا له : أترى رجلا على الفيل عاقدا تاجه على رأسه بين عينيه ياقوتة حمراء ؟ قال : نعم قالوا : ذلك ملكهم فقال : اتركوه قال : فوقفوا طويلا ، ثم قال : علام هو ؟ قالوا : قد تحول على الفرس قال : اتركوه فتركوه طويلا ، ثم قال علام هو ؟ قالوا : على البغلة قال وهرز : بنت الحمار ذل وذل ملكه إني سأرميه فإن رأيتم أصحابه لم يتحركوا فاثبتوا حتى أوذنكم فإني قد أخطأت الرجل ، وإن رأيتم القوم قد استداروا به ولاثوا فقد أصبت الرجل فاحملوا عليهم . ثم وتر قوسه وكانت - [ ص: 161 ] فيما يزعمون - لا يوترها غيره من شدتها ، وأمر بحاجبيه فعصبا له ، ثم رماه فصك الياقوتة التي بين عينيه ، وتغلغلت النشابة في رأسه حتى خرجت من قفاه ، ونكس عن دابته ، واستدارت الحبشة ولاثت به ، وحملت عليهم الفرس فانهزموا فقتلوا وهربوا في كل وجه ، وأقبل وهرز ليدخل صنعاء حتى إذا أتى بابها قال : لا تدخل رايتي منكسة أبدا ، اهدموا هذا الباب فهدم . ثم دخلها ناصبا رايته فقال سيف بن ذي يزن الحميري
يظن الناس بالملكين أنهما قد التأما ومن يسمع بلأمهما فإن
الخطب قد فقما قتلنا القيل مسروقا
وروينا الكثيب دما وإن القيل قيل الناس
وهرز مقسم قسما يذوق مشعشعا حتى
نفيء السبي والنعما
قال ابن إسحاق : وقال أبو الصلت بن أبي ربيعة الثقفي قال ابن هشام : وتروى . لأمية بن أبي الصلت
ليطلب الوتر أمثال ابن ذي يزن ريم في البحر للأعداء أحوالا
يمم قيصر لما حان رحلته فلم يجد عنده بعض الذي سالا
ثم انثنى نحو كسرى بعد عاشرة من السنين يهين النفس والمالا
حتى أتى ببني الأحرار يحملهم إنك عمري لقد أسرعت قلقالا
لله درهم من عصبة خرجوا ما إن أرى لهم في الناس أمثالا
[ ص: 163 ] غلبا مرازبة بيضا أساورة أسدا تربب في الغيضات أشبالا
يرمون عن شدف كأنها غبط بزمخر يعجل المرمي إعجالا
أرسلت أسدا على سود الكلاب فقد أضحى شريدهم في الأرض فلالا
فاشرب هنيئا عليك التاج مرتفقا في رأس غمدان دارا منك محلالا
واشرب هنيئا فقد شالت نعامتهم وأسبل اليوم في برديك إسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
قال ابن إسحاق : وقال عدي بن زيد الحيري وكان أحد بني تميم
ما بعد صنعاء كان يعمرها ولاة ملك جزل مواهبها
رفعها من بنى لذي قزع المزن وتندى مسكا محاربها
محفوفة بالجبال دون عرى ال كائد ما يرتقي غواربها
يأنس فيها صوت النهام إذا جاوبها بالعشي قاصبها
ساقت إليها الأسباب جند بني الأحرار فرسانها مواكبها
[ ص: 165 ] وفوزت بالبغال توسق بالحتف وتسعى بها توالبها
حتى رآها الأقوال من طرف المنقل مخضرة كتائبها
يوم ينادون البربر واليكسوم لا يفلحن هاربها
فكان يوما باقي الحديث ، وزالت أمة ثابت مراتبها
وبدل الفيج بالزرافة والأيام خون جم عجائبها
بعد بني تبع نخاورة قد اطمأنت بها مرازبها
[ ص: 166 ] قال ابن إسحاق : وأقام وهرز والفرس باليمن فمن بقية ذلك الجيش من الفرس الأبناء الذين باليمن اليوم . وكان ملك الحبشة باليمن فيما بين أن دخلها أرياط إلى أن قتلت الفرس مسروق بن أبرهة ، وأخرجت الحبشة اثنتين وسبعين سنة توارث ذلك منهم أربعة : أرياط ، ثم أبرهة ، ثم يكسوم بن أبرهة ، ثم مسروق بن أبرهة .