[ ص: 155 ] ثم دخلت سنة ثنتين وثلاثين وثلاثمائة 
فيها خرج المتقي لله  من بغداد  إلى الموصل  مغاضبا لتوزون  أمير الأمراء  ، وكان إذ ذاك بواسط  ، وقد زوج ابنته من أبي عبد الله البريدي  ، وصارا يدا واحدة على الخليفة ، وأرسل ابن شيرزاد  في ثلاثمائة إلى بغداد  فأفسد فيها وقطع ووصل ، واستقل بالأمور من غير مراجعة المتقي لله  فغضب المتقي  ، وخرج منها مغاضبا بأهله وأولاده ووزيره ومن اتبعه من الأمراء وأعيان أهل بغداد  قاصدا بني حمدان  ، فتلقاه سيف الدولة إلى تكريت  ثم جاءه ناصر الدولة  وهو بتكريت  أيضا ، وحين خرج المتقي  من بغداد  أكثر ابن شيرزاد  الفساد ، وظلم أهلها وصادرهم ، وأرسل يعلم توزون  فأقبل مسرعا نحو تكريت  فتواقع هو وسيف الدولة  ، فهزم توزون  سيف الدولة  ، وأخذ معسكره ومعسكر أخيه ناصر الدولة  ، ثم كر إليه سيف الدولة  ، فهزمه توزون  أيضا ، وانهزم الخليفة المتقي  وناصر الدولة  وسيف الدولة  من الموصل  إلى نصيبين  وجاء توزون  ، فدخل الموصل  وأرسل إلى الخليفة يطلب رضاه ، فأرسل الخليفة ، يقول : لا سبيل إلى ذلك إلا أن تصالح بني حمدان    . فاصطلحوا ، وضمن ناصر الدولة  بلاد الموصل  بثلاثة آلاف ألف وستمائة ألف ، ورجع توزون  إلى بغداد  وأقام الخليفة عند بني حمدان    . 
وفي غيبة توزون  عن واسط  أقبل إليها  معز الدولة بن بويه  في خلق من الديلم   [ ص: 156 ] كثيرين ، فانحدر توزون  مسرعا إلى واسط  فاقتتل مع معز الدولة  بضعة عشر يوما ، فكان آخر الأمر أن انهزم معز الدولة  ، ونهبت حواصله ، وقتل من جيشه خلق كثير ، وأسر جماعة من أشراف أصحابه ، ثم عاود توزون  ما كان يعتريه من مرض الصرع ، فشغل بنفسه ، فرجع إلى بغداد    . 
وفيها قتل أبو عبد الله البريدي  أخاه أبا يوسف  ، وكان سبب ذلك أن عبد الله  قل ما في يده من الأموال ، فكان يستقرض من أخيه أبي يوسف  ، فيقرضه القليل ثم يشنع عليه ويذم تصرفه ، فمال الجند إلى أبي يوسف  ، وأعرضوا عن أبي عبد الله  ، فخشي أبو عبد الله  أن يبايعوه ويتركوه ، فأرسل إليه طائفة من غلمانه فقتلوه غيلة ، ثم انتقل إلى داره ، وأخذ جميع حواصله وأمواله فكان قيمة ما استحوذ عليه من الأموال يقارب ثلاثة آلاف ألف دينار ، ولم يمتع بعده إلا ثمانية أشهر ، مرض فيها مرضا شديدا بالحمى الحادة ، حتى كانت وفاته في شوال من هذه السنة ، فقام بالأمر بعده أخوه أبو الحسين  ، قبحه الله ، فأساء السيرة في أصحابه ، فثاروا به فلجأ إلى القرامطة  ، فاستجار بهم ، فقام بالأمر من بعده أبو القاسم بن أبي عبد الله البريدي  في بلاد واسط  والبصرة  وتلك النواحي من الأهواز  وغيرها . 
وأما الخليفة المتقي لله  فإنه لما أقام عند آل حمدان  بالموصل  ظهر له منهم تضجر ، وأنهم يرغبون في مفارقته ، فكتب إلى توزون  في الصلح فاجتمع توزون  مع القضاة والأعيان ببغداد  ، وقرأوا كتاب الخليفة ، وقابله بالسمع والطاعة ، وحلف له ووضع خطه بالإقرار له ولمن معه بالإكرام والاحترام   [ ص: 157 ] والخضوع ، فكان من الخليفة ودخوله إلى بغداد  ما سيأتي في السنة الآتية . 
وفي هذه السنة أقبلت طائفة من الروس في البحر إلى نواحي أذربيجان  فقصدوا بردعة  فحاصروها ، فلما ظفروا بأهلها قتلوهم عن آخرهم ، وغنموا أموالهم ، وسبوا من استحسنوا من نسائهم ، ثم مالوا إلى مراغة  فوجدوا بها ثمارا كثيرة ، فأكلوا منها ، فأصابهم وباء شديد ، فمات أكثرهم ، فكان إذا مات أحدهم دفنوا معه سلاحه وماله ، فيأخذه المسلمون ، وأقبل إليهم المرزبان بن محمد  ، فقاتلهم ، فقتل منهم خلقا كثيرا أيضا ، مع ما أصابهم من الوباء الشديد ، وطهر الله تلك البلاد منهم . 
وفي ربيع الأول من هذه السنة جاء الدمستق  ملك الروم إلى رأس العين  في ثمانين ألفا ، فدخلها ونهب ما فيها ، وقتل أهلها وسبى منهم نحوا من خمسة عشر ألفا ، وأقام بها ثلاثة أيام ، فقصدته الأعراب من كل وجه ، فقاتلوه قتالا عظيما حتى انجلى عنها . 
وفي جمادى الأولى منها غلت الأسعار ببغداد  جدا ، وكثرت الأمطار جدا حتى تهدم البناء ، ومات كثير من الناس تحت الهدم ، وتعطلت كثير من الحمامات والمساجد من قلة الناس ، ونقصت قيمة العقار حتى كان يباع بالدرهم ما كان يساوي الدينار ، وخلت أكثر الدور ، فكان الملاك يعطون من يسكنها أجرة ليحفظها عليهم من الداخلين إليها لتخريبها . وكثرت الكبسات من اللصوص بالليل ، حتى كان الناس يتحارسون بالبوقات والطبول ، وكثرت الفتن من كل جهة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا . 
 [ ص: 158 ] وفي رمضان من هذه السنة كانت وفاة أبي طاهر سليمان بن أبي سعيد الحسن الجنابي  الهجري القرمطي  رئيس القرامطة  ، لعنه الله ، وهذا هو الذي قتل الحجيج حول الكعبة  وفيها ، وسلبها ستورها وبابها وحليتها ، واقتلع الحجر الأسود من ركنها ، وحمله إلى بلده هجر  وهو في هذه المدة كلها عنده من سنة سبع عشرة كما ذكرنا ، ولم يرده إلى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة كما سيأتي . ولما مات أبو طاهر  هذا قام بالأمر من بعده في القرامطة  إخوته الثلاثة ; وهم أبو العباس الفضل  ، وأبو القاسم سعيد  ،  وأبو يعقوب يوسف  ، بنو أبي سعيد الجنابي  ، لعنهم الله ، وكان أبو العباس  ضعيف البدن ، مقبلا على قراءة الكتب ، وكان أبو يعقوب  مقبلا على اللهو واللعب ، ومع هذا كلمة الثلاثة واحدة لا يختلفون في شيء ، وكان لهم سبعة من الوزراء متفقون أيضا ، قبحهم الله أجمعين . 
وفي شوال منها توفي أبو عبد الله البريدي  كما ذكرنا ، فاستراح المسلمون من هذا وهذا . 
				
						
						
