قال : حدثنا الإمام أحمد محمد بن أبي عدي عن عن داود بن أبي هند عامر الشعبي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل ، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ، عشرا بمكة ، وعشرا بالمدينة ، فمات وهو ابن ثلاث وستين سنة . فهذا إسناد صحيح إلى الشعبي وهو يقتضي أن إسرافيل قرن معه بعد الأربعين ثلاث سنين ، ثم جاءه جبريل .
وأما الشيخ شهاب الدين أبو شامة فإنه قد قال : وحديث عائشة لا ينافي هذا ، فإنه يجوز أن يكون أول أمره الرؤيا ، ثم وكل به إسرافيل في تلك المدة التي كان يخلو فيها بحراء ، فكان يلقي إليه الكلمة بسرعة ، ولا يقيم معه ; تدريجا له وتمرينا إلى أن جاءه جبريل ، فعلمه بعدما غطه ثلاث مرات . فحكت عائشة ما جرى له مع جبريل ، ولم تحك ما جرى له مع إسرافيل اختصارا للحديث ، أو لم تكن وقفت على قصة إسرافيل .
وقال : حدثنا الإمام أحمد يحيى عن هشام عن عكرمة عن ابن [ ص: 11 ] عباس : أنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاث وأربعين ، فمكث بمكة عشرا ، وبالمدينة عشرا ، ومات وهو ابن ثلاث وستين وهكذا روى يحيى بن سعيد ثم روى وسعيد بن المسيب أحمد عن غندر كلاهما عن ويزيد بن هارون هشام عن عكرمة عن ابن عباس قال : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل عليه القرآن وهو ابن أربعين سنة ، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة ، وبالمدينة عشر سنين ، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة . وقال : حدثنا الإمام أحمد عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا عمار بن أبي عمار عن ابن عباس قال : أقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة خمس عشرة سنة ، سبع سنين يرى الضوء ، ويسمع الصوت ، وثماني سنين يوحى إليه ، وأقام بالمدينة عشر سنين قال أبو شامة : وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى عجائب قبل بعثته ، فمن ذلك ما في صحيح مسلم عن قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : جابر بن سمرة إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن انتهى كلامه .
وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب الخلاء والانفراد عن قومه ؛ لما يراهم عليه من الضلال المبين من عبادة الأوثان ، والسجود للأصنام ، وقويت محبته [ ص: 12 ] للخلوة عند مقاربة إيحاء الله إليه ، صلوات الله وسلامه عليه .
وقد ذكر محمد بن إسحاق عن عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية - قال وكان واعية - عن بعض أهل العلم قال : وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى حراء ، في كل عام شهرا من السنة يتنسك فيه وكان من نسك قريش في الجاهلية يطعم من جاءه من المساكين ، حتى إذا انصرف من مجاورته ، لم يدخل بيته حتى يطوف بالكعبة . وهكذا روى عن أنه سمع وهب بن كيسان يحدث عبيد بن عمير عبد الله بن الزبير مثل ذلك . وهذا يدل على أن هذا كان من عادة المتعبدين في قريش أنهم يجاورون في حراء للعبادة ؛ ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وثور ومن أرسى ثبيرا مكانه وراق لبر في حراء ونازل
هكذا صوبه على رواية هذا البيت ، كما ذكره السهيلي وأبو شامة [ ص: 13 ] وشيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي رحمهم الله . وقد تصحف على بعض الرواة ، فقال فيه : وراق ليرقى في حراء ونازل وهذا ركيك ومخالف للصواب ، والله أعلم .وحراء ، يقصر ويمد ، ويصرف ويمنع ، وهو جبل بأعلى مكة على ثلاث أميال منها ، عن يسار المار إلى منى ، له قلة مشرفة على الكعبة منحنية ، والغار في تلك الحنية . وما أحسن ما قال رؤبة بن العجاج
فلا ورب الآمنات القطن ورب ركن من حراء منحني
لو كان أحجاري مع الأجداف
يريد الأجداث . قال : وحدثني أبو عبيدة أن العرب تقول : " فم " . في موضع " ثم " . قلت : ومن ذلك قول بعض المفسرين في قوله تعالى : وفومها [ البقرة : 61 ] أن المراد ثومها .وقد اختلف العلماء في ؟ وما ذلك الشرع ؟ فقيل : شرع تعبده عليه السلام ، قبل البعثة ، هل كان على شرع أم لا نوح . وقيل : شرع إبراهيم ، وهو الأشبه الأقوى . وقيل : موسى . وقيل : عيسى . وقيل : كل ما ثبت أنه شرع عنده اتبعه وعمل به . ولبسط هذه الأقوال ومناسباتها مواضع أخر في أصول الفقه ، والله أعلم .
وقوله : حتى فجئه الحق وهو بغار حراء . أي جاء بغتة على غير موعد ، [ ص: 15 ] كما قال تعالى : وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية . [ القصص : 86 ] وقد كان نزول صدر هذه السورة الكريمة ، وهي : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وهي كما قررنا ذلك في " التفسير " ، وكما سيأتي أيضا في يوم الاثنين ، كما ثبت في " صحيح أول ما نزل من القرآن مسلم " عن أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين ، فقال : ذاك يوم ولدت فيه ويوم أنزل علي فيه وقال أبي قتادة ابن عباس : ولد نبيكم محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، ونبئ يوم الاثنين . وهكذا قال عبيد بن عمير وغير واحد من العلماء أنه ، عليه الصلاة والسلام ، أوحي إليه يوم الاثنين ، وهذا ما لا خلاف فيه بينهم . وأبو جعفر الباقر
ثم قيل : كان ذلك في شهر ربيع الأول كما تقدم عن ابن عباس وجابر أنه ولد ، عليه السلام ، في الثاني عشر من ربيع الأول يوم الاثنين ، وفيه بعث ، وفيه عرج به إلى السماء . والمشهور أنه بعث عليه الصلاة والسلام في شهر رمضان ، كما نص على ذلك عبيد بن عمير وغيرهما . قال ومحمد بن إسحاق ابن إسحاق مستدلا على ذلك بما قال الله تعالى : [ ص: 16 ] شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس [ البقرة : 185 ] فقيل : في ثاني عشره . وروى الواقدي بسنده عن أنه قال : كان ابتداء الوحي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين ، لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان . وقيل : في الرابع والعشرين منه . أبي جعفر الباقر
قال : حدثنا الإمام أحمد أبو سعيد مولى بني هاشم حدثنا عمران أبو العوام عن قتادة عن أبي المليح عن واثلة بن الأسقع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان ، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان . وروى ابن مردويه في " تفسيره " عن مرفوعا نحوه ، ولهذا ذهب جماعة من الصحابة والتابعين إلى أن ليلة القدر ليلة أربع وعشرين . جابر بن عبد الله
وأما قول جبريل : اقرأ . فقال : " ما أنا بقارئ " . فالصحيح أن قوله : " ما أنا بقارئ " نفي ، أي لست ممن يحسن القراءة . وممن رجحه النووي وقبله الشيخ أبو شامة ومن قال : إنها استفهامية . فقوله بعيد ; لأن الباء لا تزاد في الإثبات . ويؤيد الأول رواية أبي نعيم من حديث المعتمر بن سليمان عن [ ص: 17 ] أبيه : فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خائف يرعد : " ما قرأت كتابا قط ، ولا أحسنه ، وما أكتب ، وما أقرأ . فأخذه جبريل ، فغته غتا شديدا ، ثم تركه ، فقال له : اقرأ . فقال محمد - صلى الله عليه وسلم - : ما أرى شيئا أقرأه ، وما أكتب . يروى : " فغطني " كما في " الصحيحين " . و " غتني " . ويروى " قد غتني " أي خنقني " حتى بلغ مني الجهد " يروى بضم الجيم ، وفتحها ، وبالنصب ، وبالرفع ، وفعل به ذلك ثلاثا .
قال أبو سليمان الخطابي : وإنما فعل ذلك به ; ليبلو صبره ، ويحسن تأديبه ، فيرتاض لاحتمال ما كلفه به من أعباء النبوة ولذلك كان يعتريه مثل حال المحموم وتأخذه الرحضاء أي البهر والعرق . وقال غيره : إنما فعل ذلك لأمور منها ; أن يستيقظ لعظمة ما يلقى إليه ، بعد هذا الصنيع المشق على النفوس ، كما قال تعالى : إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا [ المزمل : 5 ] ولهذا كان ، عليه الصلاة والسلام ، إذا جاءه الوحي يحمر وجهه ، ويغط كما يغط البكر من الإبل ، ويتفصد جبينه عرقا في اليوم الشديد البرد .
وقوله : فرجع بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خديجة يرجف فؤاده . وفي [ ص: 18 ] رواية : بوادره ، جمع بادرة . قال أبو عبيد : وهي لحمة بين المنكب والعنق . وقال غيره : هي عروق تضطرب عند الفزع . وفي بعض الروايات : ترجف بآدله . واحدتها بادلة . وقيل : بادل ، وهو ما بين العنق والترقوة . وقيل : أصل الثدي . وقيل : لحم الثديين . وقيل غير ذلك .
فقال : " زملوني زملوني " . فلما ذهب عنه الروع ، قال : " مالي ؟ أي شيء عرض لي ؟ " وأخبرها ما كان من الأمر ، ثم قال : " لقد خشيت على نفسي " . وذلك لأنه شاهد أمرا لم يعهده قبل ذلك ، ولا كان في خلده . ولهذا قالت لخديجة خديجة : أبشر ، كلا والله ، لا يخزيك الله أبدا . قيل : من الخزي . وقيل : من الحزن . وهذا لعلمها بما أجرى الله به جميل العوائد في خلقه أن ثم ذكرت له من صفاته الجليلة ، ما كان من سجاياه الحسنة ، فقالت : إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث وقد كان مشهورا بذلك ، صلوات الله وسلامه عليه عند الموافق والمفارق وتحمل الكل : أي عن غيرك ، تعطي صاحب العيلة ما يريحه من ثقل مؤنة عياله . وتكسب المعدوم . أي تسبق إلى فعل الخير ، فتبادر إلى إعطاء الفقير ، فتكسب حسنته قبل غيرك ، ويسمى الفقير [ ص: 19 ] معدوما ; لأن حياته ناقصة ، فوجوده وعدمه سواء ، كما قال بعضهم : من كان متصفا بصفات الخير لا يخزى في الدنيا ، ولا في الآخرة ،
ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء
عد ذا الفقر ميتا وكساه كفنا باليا ومأواه قبرا
وتقري الضيف أي تكرمه في تقديم قراه ، وإحسان مأواه ، وتعين على نوائب الحق . ويروى : الخير . أي إذا وقعت نائبة لأحد في خير أعنت فيها ، وقمت مع صاحبها حتى يجد سدادا من عيش أو قواما من عيش .
وقوله : ثم أخذته فانطلقت به إلى ابن عمها ورقة بن نوفل وكان شيخا [ ص: 20 ] كبيرا قد عمي . وقد قدمنا طرفا من خبره مع ذكر زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله ، وأنه كان ممن تنصر في الجاهلية ، ففارقهم وارتحل إلى الشام ، هو وزيد بن عمرو وعثمان بن الحويرث وعبيد الله بن جحش فتنصروا كلهم ; لأنهم وجدوه أقرب الأديان - إذ ذاك - إلى الحق ، إلا زيد بن عمرو بن نفيل فإنه رأى فيه دخلا وتخبيطا ، وتبديلا ، وتحريفا ، وتأويلا ، فأبت فطرته الدخول فيه أيضا ، وبشروه الأحبار والرهبان بوجود نبي ، قد أزف زمانه ، واقترب أوانه ، فرجع يتطلب ذلك ، واستمر على فطرته وتوحيده ، لكن اخترمته المنية قبل البعثة المحمدية ، وأدركها ورقة بن نوفل وكان يتوسمها في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قدمنا ، بما كانت خديجة تنعته له وتصفه له ، وما هو منطو عليه من الصفات الطاهرة الجميلة ، وما ظهر عليه من الدلائل والآيات ، ولهذا لما وقع ما وقع ، أخذت بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاءت به إليه ، فوقفت به عليه ، وقالت : ابن عم ، اسمع من ابن أخيك . فلما قص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خبر ما رأى ، قال ورقة : سبوح سبوح ، هذا الناموس الذي أنزل على موسى ولم يذكر عيسى ، وإن كان متأخرا بعد موسى ; لأنه كانت شريعته متممة ومكملة لشريعة موسى ، عليهما السلام ، ونسخت بعضها ، على الصحيح من قول العلماء ، كما قال ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم [ آل عمران : 50 ]
وقول ورقة هذا كما قالت الجن : [ ص: 21 ] يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم [ الأحقاف : 30 ]
ثم قال ورقة : يا ليتني فيها جذعا ، أي يا ليتني أكون اليوم شابا ، متمكنا من الإيمان ، والعلم النافع ، والعمل الصالح . يا ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . يعني : حتى أخرج معك ، وأنصرك ، فعندها قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أومخرجي هم ؟ ! قال السهيلي : وإنما قال ذلك ; لأن فراق الوطن شديد على النفوس .
. فقال : نعم ، إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . أي ; أنصرك نصرا عزيزا أبدا
وقوله : ثم لم ينشب ورقة أن توفي . أي : توفي بعد هذه القصة بقليل ، رحمه الله ورضي عنه ، فإن مثل هذا الذي صدر عنه تصديق بما وجد ، وإيمان بما حصل من الوحي ، ونية صالحة للمستقبل .
وقد قال : حدثنا الإمام أحمد حسن عن ابن لهيعة حدثني أبو الأسود عن عروة عن عائشة ، أن خديجة سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ورقة بن نوفل فقال : قد رأيته ، فرأيت عليه ثياب بياض ، فأحسبه لو كان من ، [ ص: 22 ] أهل النار لم يكن عليه ثياب بياض وهذا إسناد حسن ، لكن رواه الزهري وهشام عن عروة مرسلا . فالله أعلم .
وروى عن الحافظ أبو يعلى عن سريج بن يونس إسماعيل عن مجالد عن الشعبي عن جابر بن عبد الله ورقة بن نوفل فقال : أبصرته في بطنان الجنة ، وعليه السندس وسئل عن زيد بن عمرو بن نفيل فقال : يبعث يوم القيامة أمة وحده وسئل عن أبي طالب فقال أخرجته من غمرة من جهنم إلى ضحضاح منها وسئل عن خديجة ; لأنها ماتت قبل الفرائض وأحكام القرآن ، فقال أبصرتها على نهر في الجنة في بيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب . إسناد حسن ، ولبعضه شواهد في " الصحيح " . والله أعلم . أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن
وقال : حدثنا الحافظ أبو بكر البزار عبيد بن إسماعيل حدثنا أبو [ ص: 23 ] أسامة عن عن أبيه ، عن هشام بن عروة عائشة ، قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ورقة ; فإني رأيت له جنة أو جنتين وكذا رواه لا تسبوا من حديث ابن عساكر عن أبي سعيد الأشج أبي معاوية عن هشام عن أبيه ، عن عائشة . وهذا إسناد جيد ، وروي مرسلا ، وهو أشبه .
وروى الحافظان البيهقي وأبو نعيم في كتابيهما " دلائل النبوة " من حديث عن يونس بن بكير يونس بن عمرو عن أبيه ، عن عمرو بن شرحبيل : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، وقد خشيت والله أن يكون لهذا أمر " . قالت : معاذ الله ! ما كان الله ليفعل ذلك بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث . فلما دخل لخديجة أبو بكر وليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ، ذكرت له خديجة ، فقالت : يا عتيق ، اذهب مع محمد إلى ورقة . فلما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخذ بيده أبو بكر فقال : انطلق بنا إلى ورقة . قال : " ومن أخبرك ؟ " قال : خديجة . فانطلقا إليه ، فقصا عليه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء خلفي : يا محمد ، يا محمد . فأنطلق هاربا [ ص: 24 ] في الأرض " . فقال له : لا تفعل ، إذا أتاك فاثبت ، حتى تسمع ما يقول لك ، ثم ائتني فأخبرني . فلما خلا ناداه : يا محمد ، قل : بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين حتى بلغ ولا الضالين [ الفاتحة : 17 ] . قل : لا إله إلا الله . فأتى ورقة فذكر له ذلك . فقال له ورقة : أبشر ، ثم أبشر ، فأنا أشهد أنك الذي بشر بك ابن مريم ، وإنك على مثل ناموس موسى ، وإنك نبي مرسل ، وإنك ستؤمر بالجهاد بعد يومك هذا ، ولئن أدركني ذلك لأجاهدن معك . فلما توفي ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لقد رأيت القس في الجنة ، عليه ثياب الحرير ; لأنه آمن بي وصدقني يعني ورقة . هذا لفظ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وهو مرسل ، وفيه غرابة ، وهو كون الفاتحة أول ما نزل . البيهقي
وقد قدمنا من شعره ما يدل على إضماره الإيمان ، وعقده عليه ، وتأكده عنده ، وذلك حين أخبرته خديجة ما كان من أمره مع غلامها ميسرة وكيف كانت الغمامة تظلله في هجير القيظ ، فقال ورقة في ذلك أشعارا قدمناها قبل هذا منها : قوله :
لججت وكنت في الذكرى لجوجا لأمر طالما بعث النشيجا
ووصف من خديجة بعد وصف فقد طال انتظاري يا خديجا
[ ص: 25 ] ببطن المكتين على رجائي حديثك أن أرى منه خروجا
بما خبرتنا من قول قس من الرهبان أكره أن يعوجا
بأن محمدا سيسود قوما ويخصم من يكون له حجيجا
ويظهر في البلاد ضياء نور يقيم به البرية أن تموجا
فيلقى من يحاربه خسارا ويلقى من يسالمه فلوجا
فيا ليتني إذا ما كان ذاكم شهدت وكنت أولهم ولوجا
ولوجا في الذي كرهت قريش ولو عجت بمكتها عجيجا
أرجي بالذي كرهوا جميعا إلى ذي العرش إذ سفلوا عروجا
فإن يبقوا وأبق يكن أمور يضج الكافرون لها ضجيجا
وأخبار صدق خبرت عن محمد يخبرها عنه إذا غاب ناصح
بأن ابن عبد الله أحمد مرسل إلى كل من ضمت عليه الأباطح
[ ص: 26 ] وظني به أن سوف يبعث صادقا كما أرسل العبدان هود وصالح
وموسى وإبراهيم حتى يرى له بهاء ومنشور من الذكر واضح
ويتبعه حيا لؤي بن غالب شبابهم والأشيبون الجحاجح
فإن أبق حتى يدرك الناس دهره فإني به مستبشر الود فارح
وإلا فإني يا خديجة فاعلمي عن أرضك في الأرض العريضة سائح
فإن يك حقا يا خديجة فاعلمي حديثك إيانا فأحمد مرسل
وجبريل يأتيه وميكال معهما من الله وحي يشرح الصدر منزل
يفوز به من فاز فيها بتوبة ويشقى به العاتي الغرير المضلل
فريقان منهم فرقة في جنانه وأخرى بأحواز الجحيم تعلل
إذا ما دعوا بالويل فيها تتابعت مقامع في هاماتهم ثم تشعل
فسبحان من تهوي الرياح بأمره ومن هو في الأيام ما شاء يفعل
ومن عرشه فوق السماوات كلها وأقضاؤه في خلقه لا تبدل
يا للرجال وصرف الدهر والقدر وما لشيء قضاه الله من غير
حتى خديجة تدعوني لأخبرها وما لها بخفي الغيب من خبر
جاءت لتسألني عنه لأخبرها أمرا أراه سيأتي الناس من أخر
فخبرتني بأمر قد سمعت به فيما مضى من قديم الدهر
والعصر بأن أحمد يأتيه فيخبره جبريل أنك مبعوث إلى البشر
فقلت عل الذي ترجين ينجزه لك الإله فرجي الخير
وانتظري وأرسليه إلينا كي نسائله عن أمره ما يرى في النوم والسهر
فقال حين أتانا منطقا عجبا يقف منه أعالي الجلد والشعر
إني رأيت أمين الله واجهني في صورة أكملت من أعظم الصور
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني مما يسلم من حولي من الشجر
فقلت ظني وما أدري أيصدقني أن سوف يبعث يتلو منزل السور
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم من الجهاد بلا من ولا كدر
وقال ابن إسحاق : حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان بن العلاء بن جارية الثقفي وكان واعية ، عن بعض أهل العلم ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين أراد الله كرامته وابتدأه بالنبوة كان إذا خرج لحاجة أبعد حتى تحسر عنه البيوت ، ويفضي إلى شعاب مكة وبطون أوديتها ، . قال : فيلتفت حوله عن يمينه ، وعن شماله ، وخلفه ، فلا يرى إلا الشجر والحجارة ، فمكث كذلك يرى ويسمع ما شاء الله أن يمكث ، ثم جاءه فلا يمر بحجر ، ولا شجر ، إلا قال : السلام عليك يا رسول الله جبريل ، عليه السلام ، بما جاء من كرامة الله ، وهو بحراء في رمضان .
قال ابن إسحاق : وحدثني قال : سمعت وهب بن كيسان ، مولى آل الزبير عبد الله بن الزبير وهو يقول : حدثنا يا لعبيد بن عمير بن قتادة الليثي عبيد كيف كان بدء ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من النبوة حين جاءه جبريل . قال : فقال عبيد وأنا حاضر يحدث عبد الله بن الزبير ومن عنده [ ص: 29 ] من الناس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور في حراء في كل سنة شهرا . قال : وكان ذلك مما تحنث به قريش في الجاهلية . والتحنث التبرر ، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجاور ذلك الشهر من كل سنة ، يطعم من جاءه من المساكين ، فإذا قضى جواره من شهره ذلك ، كان أول ما يبدأ به إذا انصرف من جواره الكعبة ، قبل أن يدخل بيته ، فيطوف بها سبعا أو ما شاء الله من ذلك ، ثم يرجع إلى بيته ، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به فيه ما أراد من كرامته من السنة التي بعثه فيها ، وذلك الشهر رمضان ، خرج إلى حراء كما كان يخرج لجواره ، ومعه أهله ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله فيها برسالته ، ورحم العباد به ، جاءه جبريل بأمر الله تعالى . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فجاءني جبريل ، وأنا نائم بنمط من ديباج ، فيه كتاب فقال : اقرأ . قلت : " ما أقرأ " قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : " ما أقرأ " قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : " ما أقرأ " . قال : فغتني حتى ظننت أنه الموت ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ . قلت : " ماذا أقرأ ؟ " ما أقول ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي فقال : [ ص: 30 ] اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم [ العلق : 15 ] . قال : " فقرأتها ، ثم انتهى وانصرف عني ، وهببت من نومي ، فكأنما كتب في قلبي كتابا " قال : " فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل ، سمعت صوتا من السماء ، يقول : يا محمد ، أنت رسول الله ، وأنا جبريل ، قال : فرفعت رأسي إلى السماء أنظر ، فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء ، يقول : يا محمد أنت رسول الله ، وأنا جبريل . فوقفت أنظر إليه ، فما أتقدم وما أتأخر ، وجعلت أصرف وجهي عنه في آفاق السماء ، فما أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك ، فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي وما أرجع ورائي ، حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي ، فبلغوا مكة ، ورجعوا إليها ، وأنا واقف في مكاني ذلك ، ثم انصرف عني ، وانصرفت راجعا إلى أهلي ، حتى أتيت خديجة فجلست إلى فخذها مضيفا إليها ، فقالت : يا أبا القاسم ، أين كنت ؟ فوالله لقد بعثت رسلي في طلبك حتى بلغوا مكة ، ورجعوا إلي . ثم حدثتها بالذي رأيت ، فقالت : أبشر يا ابن العم ، واثبت فوالذي نفس خديجة بيده ، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة . ثم قامت فجمعت عليها ثيابها ، ثم انطلقت إلى ورقة بن نوفل فأخبرته بما أخبرها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال ورقة : قدوس قدوس ، والذي نفس ورقة بيده ، لئن كنت صدقتني ، يا خديجة ، لقد جاءه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى ، وإنه لنبي هذه الأمة ، وقولي له : فليثبت . فرجعت خديجة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بقول ورقة فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جواره ، وانصرف صنع كما كان يصنع ، بدأ بالكعبة فطاف بها [ ص: 31 ] فلقيه ورقة بن نوفل وهو يطوف بالكعبة ، فقال : يا ابن أخي ، أخبرني بما رأيت وسمعت ، فأخبره ، فقال له ورقة : والذي نفسي بيده ، إنك لنبي هذه الأمة ، ولقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى ، ولتكذبنه ، ولتؤذينه ، ولتخرجنه ، ولتقاتلنه ، ولئن أنا أدركت ذلك اليوم لأنصرن الله نصرا يعلمه ، ثم أدنى رأسه منه ، فقبل يأفوخه ، ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله
وهذا الذي ذكره كما ذكرناه كالتوطئة لما جاء بعده من اليقظة كما تقدم من قول عبيد بن عمير عائشة رضي الله عنها . فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ويحتمل أن هذا المنام كان بعد ما رآه في اليقظة صبيحة ليلتئذ ، ويحتمل أنه كان بعده بمدة . والله أعلم .
وقال عن موسى بن عقبة الزهري عن قال وكان فيما بلغنا أول ما رأى يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الله تعالى أراه رؤيا في المنام ، فشق ذلك عليه ، فذكرها لامرأته سعيد بن المسيب خديجة ، فعصمها الله عن التكذيب ، وشرح صدرها للتصديق ، فقالت : أبشر ; فإن الله لن يصنع بك إلا خيرا . ثم إنه خرج من عندها ، ثم رجع إليها ، فأخبرها أنه رأى بطنه شق ، ثم غسل وطهر ، ثم أعيد كما كان . قالت : هذا والله خير فأبشر . ثم استعلن له جبريل ، وهو بأعلى مكة ، فأجلسه على مجلس كريم معجب ، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " أجلسني [ ص: 32 ] على بساط كهيئة الدرنوك فيه الياقوت واللؤلؤ " . فبشره برسالة الله ، عز وجل ، حتى اطمأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له جبريل : اقرأ . فقال : " كيف أقرأ " فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم
قال : ويزعم ناس أن يا أيها المدثر أول سورة أنزلت عليه . والله أعلم .
قال : فقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رسالة ربه ، واتبع ما جاءه به جبريل من عند الله ، فلما انصرف منقلبا إلى بيته ، جعل لا يمر على شجر ، ولا حجر ، إلا سلم عليه ، فرجع إلى أهله مسرورا موقنا أنه قد رأى أمرا عظيما ، فلما دخل على خديجة ، قال : " أرأيتك التي كنت أحدثك أني رأيته في المنام ؟ فإنه جبريل استعلن إلي ، أرسله إلي ربي عز وجل " . وأخبرها بالذي جاءه من الله وما سمع منه . فقالت : أبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا ، واقبل الذي جاءك من أمر الله ; فإنه حق ، وأبشر ; فإنك رسول الله حقا . ثم انطلقت مكانها ، فأتت غلاما لعتبة بن ربيعة بن عبد شمس نصرانيا من أهل نينوى ، يقال له : عداس . فقالت له : يا عداس أذكرك بالله إلا ما أخبرتني هل عندك علم من جبريل ؟ فقال : قدوس قدوس ، ما شأن جبريل يذكر بهذه الأرض التي أهلها أهل الأوثان ! . فقالت : أخبرني بعلمك فيه . قال : فإنه أمين الله بينه وبين النبيين ، وهو صاحب موسى وعيسى عليهما السلام .
[ ص: 33 ] فرجعت خديجة من عنده ، فجاءت ورقة بن نوفل فذكرت له ما كان من أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما ألقاه إليه جبريل ، فقال لها ورقة : يا بنية أخي ، ما أدري لعل صاحبك النبي الذي ينتظر أهل الكتاب ، الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل ، وأقسم بالله لئن كان إياه ، ثم أظهر دعاءه وأنا حي ، لأبلين الله في طاعة رسوله ، وحسن مؤازرته للصبر والنصر . فمات ورقة رحمه الله . قال الزهري : فكانت خديجة أول من آمن بالله وصدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
قال بعد إيراده ما ذكرناه : والذي ذكر فيه من شق بطنه ، يحتمل أن يكون حكاية منه لما صنع به في صباه يعني شق بطنه عند الحافظ البيهقي حليمة ويحتمل أن يكون شق مرة أخرى ، ثم ثالثة حين عرج به إلى السماء . والله أعلم .
وقد ذكر في ترجمة الحافظ ابن عساكر ورقة بإسناده إلى قال سليمان بن طرخان التيمي بلغنا أن الله تعالى بعث محمدا رسولا ، على رأس خمسين سنة من بناء الكعبة ، وكان أول شيء اختصه به من النبوة والكرامة رؤيا كان يراها ، فقص ذلك على زوجته فقالت له : أبشر ، فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا . فبينما هو ذات يوم في خديجة بنت خويلد ، حراء ، وكان يفر إليه من قومه ، إذ نزل عليه جبريل ، فدنا منه ، فخافه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخافة [ ص: 34 ] شديدة ، فوضع جبريل يده على صدره ومن خلفه بين كتفيه ، فقال : اللهم احطط وزره ، واشرح صدره ، وطهر قلبه ، يا محمد ، أبشر ; فإنك نبي هذه الأمة ، اقرأ . فقال له نبي الله وهو خائف يرعد : " ما قرأت كتابا قط ، ولا أحسنه ، وما أكتب ، وما أقرأ " . فأخذه جبريل ، فغته غتا شديدا ، ثم تركه ، ثم قال له : اقرأ . فأعاد عليه مثله ، فأجلسه على بساط كهيئة الدرنوك ، فرأى فيه من صفاته وحسنه كهيئة اللؤلؤ والياقوت ، وقال له اقرأ باسم ربك الذي خلق الآيات . ثم قال له : لا تخف يا محمد ، إنك رسول الله . ثم انصرف ، وأقبل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - همه ، فقال : " كيف أصنع وكيف أقول لقومي ؟ " . ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خائف ، فأتاه جبريل من أمامه في صورة نفسه ، فأبصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرا عظيما ملأ صدره ، فقال له جبريل : لا تخف يا محمد ، جبريل رسول الله إلى أنبيائه ورسله ، فأيقن بكرامة الله ; فإنك رسول الله . فرجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يمر على شجر ; ولا حجر ; إلا هو ساجد يقول : السلام عليك يا رسول الله . فاطمأنت نفسه ، وعرف كرامة الله إياه ، فلما انتهى إلى زوجته خديجة أبصرت ما بوجهه من تغير لونه ، فأفزعها ذلك ، فقامت إليه ، فلما دنت منه جعلت تمسح عن وجهه ، وتقول : لعلك لبعض ما كنت ترى وتسمع قبل اليوم . فقال : " يا خديجة ، أرأيت الذي كنت أرى في المنام ، والصوت الذي كنت أسمع في اليقظة وأهال منه ؟ فإنه جبريل قد استعلن لي ، وكلمني ، وأقرأني كلاما فزعت منه ، ثم عاد إلي [ ص: 35 ] فأخبرني أني نبي هذه الأمة ، فأقبلت راجعا ، فأقبلت على شجر وحجارة ، فقلن : السلام عليك يا رسول الله " . فقالت خديجة : أبشر ; فوالله لقد كنت أعلم أن الله لن يفعل بك إلا خيرا ، وأشهد أنك نبي هذه الأمة الذي تنتظرهاليهود ، قد أخبرني به ناصح ; غلامي وبحيرى الراهب وأمرني أن أتزوجك منذ أكثر من عشرين سنة . فلم تزل برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى طعم وشرب وضحك ، ثم خرجت إلى الراهب ، وكان قريبا من مكة ، فلما دنت منه ، وعرفها . قال : ما لك يا سيدة نساء قريش ؟ فقالت : أقبلت إليك لتخبرني عن جبريل . فقال : سبحان الله ربنا القدوس ! ما بال جبريل يذكر في هذه البلاد التي يعبد أهلها الأوثان ؟ ! جبريل أمين الله ورسوله إلى أنبيائه ورسله ، وهو صاحب موسى وعيسى . فعرفت كرامة الله لمحمد ، ثم أتت عبدا لعتبة بن ربيعة يقال له : عداس . فسألته فأخبرها بمثل ما أخبرها به الراهب وأزيد . قال : جبريل كان مع موسى حين أغرق الله فرعون وقومه ، وكان معه حين كلمه الله على الطور ، وهو صاحب عيسى ابن مريم الذي أيده الله به . ثم قامت من عنده فأتت ورقة بن نوفل فسألته عن جبريل ، فقال لها مثل ذلك ، ثم سألها : ما الخبر ؟ فأحلفته أن يكتم ما تقول له ، فحلف لها ، فقالت له : إن ابن عبد الله ذكر لي وهو صادق أحلف بالله ما كذب ولا كذب أنه نزل عليه جبريل بحراء ، وأنه أخبره أنه نبي هذه الأمة ، وأقرأه آيات أرسل بها . قال : فذعر ورقة لذلك ، وقال : لئن كان جبريل قد استقرت قدماه على الأرض لقد نزل على خير أهل الأرض ، وما نزل إلا على نبي ، وهو صاحب الأنبياء والرسل ، يرسله الله [ ص: 36 ] إليهم ، وقد صدقتك عنه ، فأرسلي إلي ابن عبد الله أسأله ، وأسمع من قوله وأحدثه ; فإني أخاف أن يكون غير جبريل ; فإن بعض الشياطين يتشبه به ليضل به بعض بني آدم ، ويفسدهم حتى يصير الرجل بعد العقل الرضي مدلها مجنونا . فقامت من عنده وهي واثقة بالله أن لا يفعل بصاحبها إلا خيرا ، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته بما قال ورقة فأنزل الله تعالى ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون [ القلم : 1 ، 2 ] الآيات . فقال لها : " كلا والله ، إنه لجبريل " . فقالت له : أحب أن تأتيه فتخبره ; لعل الله أن يهديه . فجاءه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال له ورقة : هذا الذي جاءك ، جاءك في نور أو ظلمة ؟ فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صفة جبريل ، وما رآه من عظمته ، وما أوحاه إليه ، فقال ورقة : أشهد أن هذا جبريل ، وأن هذا كلام الله ، فقد أمرك بشيء تبلغه قومك ، وإنه لأمر نبوة ، فإن أدرك زمانك أتبعك . ثم قال : أبشر ابن عبد المطلب بما بشرك الله به .
قال : وذاع قول ورقة وتصديقه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشق ذلك على الملأ من قومه . قال : وفتر الوحي ، فقالوا : لو كان من عند الله لتتابع . ولكن الله قلاه . فأنزل الله والضحى والليل إذا سجى [ الضحى : 1 ، 2 ] و ألم نشرح [ الشرح : 1 ] بكمالهما .
وقال : حدثنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ حدثنا أبو العباس حدثنا [ ص: 37 ] أحمد بن عبد الجبار حدثنا يونس عن ابن إسحاق حدثني إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير أنه حدث عن أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بينه مما أكرمه الله به من نبوته : يا ابن عم ، تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ فقال : " نعم " . فقالت : إذا جاءك فأخبرني . فبينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها إذ جاء خديجة بنت خويلد ، جبريل ، فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " يا خديجة هذا جبريل " . فقالت : أتراه الآن ؟ قال : " نعم " . قالت : فاجلس إلى شقي الأيمن . فتحول فجلس ، فقالت : أتراه الآن ؟ قال : " نعم " . قالت : فتحول فاجلس في حجري . فتحول فجلس في حجرها ، فقالت : هل تراه الآن ؟ قال : " نعم " . فتحسرت رأسها ، فشالت خمارها ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس في حجرها ، فقالت : هل تراه الآن ؟ قال : " لا " . قالت : ما هذا بشيطان ، إن هذا لملك ، يا ابن عم ، فاثبت وأبشر ثم آمنت به وشهدت أن ما جاء به هو الحق .
قال ابن إسحاق : فحدثت عبد الله بن حسن هذا الحديث ، فقال : قد سمعت أمي فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث ، عن خديجة إلا أني سمعتها تقول : أدخلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينها وبين درعها ، فذهب عند ذلك جبريل ، عليه السلام .
قال : وهذا شيء كان من البيهقي خديجة تصنعه تستثبت به الأمر احتياطا [ ص: 38 ] لدينها وتصديقا ، فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد كان وثق بما قال له جبريل وأراه من الآيات التي ذكرناها مرة بعد أخرى ، وما كان من تسليم الشجر والحجر عليه - صلى الله عليه وسلم - تسليما .
وقد قال مسلم في " صحيحه " : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن أبي بكير حدثنا حدثني إبراهيم بن طهمان عن سماك بن حرب رضي الله عنه ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جابر بن سمرة إني لأعرف حجرا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن
وقال : حدثنا أبو داود الطيالسي سليمان بن معاذ عن عن سماك بن حرب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال جابر بن سمرة بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت ، إني لأعرفه إذا مررت عليه إن
وروى من حديث البيهقي عن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير عباد بن عبد الله عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال بمكة ، فخرج في بعض نواحيها ، فما استقبله شجر ، ولا جبل ، إلا قال : السلام عليك يا رسول الله . وفي رواية : لقد رأيتني أدخل معه الوادي فلا يمر [ ص: 39 ] بحجر ولا شجر إلا قال : السلام عليك يا رسول الله . وأنا أسمعه . كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -