[ ص: 244 ] ثم دخلت سنة أربع عشرة وخمسمائة 
في النصف من ربيع الأول منها كانت وقعة عظيمة بين الأخوين السلطانين محمود  ومسعود  ابني محمد بن ملكشاه   عند عقبة أسداباذ ،  فانهزم عسكر مسعود ،  وأسر وزيره الأستاذ أبو إسماعيل  وجماعة من أمرائه ، فأمر السلطان محمود  بقتل الوزير أبي إسماعيل ،  فقتل وله نيف وستون سنة ، وله تصانيف في صناعة الكيمياء . ثم أرسل إلى أخيه مسعود  الأمان ، واستقدمه عليه ، فلما اجتمعا اعتنقا وبكيا واصطلحا . 
وفيها نهب  دبيس بن صدقة صاحب الحلة  البلاد وركب بنفسه إلى بغداد ،  فنصب خيمة بإزاء دار الخلافة ، وأظهر ما في نفسه من الضغائن ، وذكر كيف طيف برأس أبيه في البلاد ، وتهدد المسترشد  فأرسل إليه الخليفة يسكن جأشه ، ويعده أنه سيصلح بينه وبين السلطان محمود ،  فلما قدم السلطان محمود  بغداد  أرسل دبيس  يستأمن ، فأمنه وأجراه على عادته ، ثم إنه نهب جيش السلطان ، فركب السلطان محمود  بنفسه لقتاله ، واستصحب معه ألف سفينة ليعبر بها إلى الحلة ،  فهرب دبيس  من بين يديه والتجأ إلى إيلغازي  فأقام عنده سنة ، ثم عاد إلى الحلة  ، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر إليهما ، فلم يقبلا منه ، وجهز إليه السلطان جيشا فحاصروه وضيقوا عليه قريبا من سنة ، وهو ممتنع في بلاده لا يتمكن الجيش من الوصول إليه في تلك الأماكن . 
 [ ص: 245 ] وفيها كانت وقعة عظيمة بين الكرج والمسلمين بالقرب من تفليس ،  ومع الكرج كفار القفجاق ، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا ، وغنموا أموالا جزيلة ، وأسروا نحوا من أربعة آلاف أسير ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، ونهب الكرج تلك النواحي وفعلوا أشياء منكرة ، وحاصروا تفليس  مدة ثم ملكوها عنوة ، بعدما أحرقوا القاضي والخطيب حين خرجوا إليهم يطلبون الأمان ، وقتلوا عامة أهلها ، وسبوا الذرية ، واستحوذوا على الأموال ، فلا حول ولا قوة إلا بالله . 
وفيها أغار جوسلين الفرنجي  صاحب الرها  على خلق من العرب والتركمان فقتلهم وغنم أموالهم . 
وفيها تمردت العيارون ببغداد  ، وأخذوا الدور جهارا ليلا ونهارا ، فحسبنا الله ونعم الوكيل . 
وفي هذه السنة كان ابتداء ملك  محمد بن تومرت  ببلاد المغرب ،  كان ابتداء أمر هذا الرجل أنه قدم في حداثة سنه من بلاد المغرب  إلى بغداد  فسكن النظامية ، واشتغل بالعلم فحصل جانبا جيدا من الفروع والأصول على  الغزالي  وغيره ، وكان يظهر التعبد والزهد والورع ، وربما أنكر على  الغزالي  حسن ملابسه ، ولا سيما حين لبس خلعة التدريس بالنظامية ، ثم حج وعاد إلى بلاده ، فكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويقرئ الناس القرآن ، ويشغلهم في الفقه ، فطار ذكره في الناس ، واجتمع به يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب بلاد إفريقية   [ ص: 246 ] فعظمه وأكرمه وسأله الدعاء فاشتهر أيضا بذلك وبعد صيته ، وليس معه إلا ركوة وعصا ، ولا يسكن إلا المساجد ، ثم كان ينتقل من بلد إلى بلد حتى دخل مراكش ،  ومعه تلميذه عبد المؤمن بن علي  ، وكان وقد كان توسم فيه النجابة والشهامة ، فرأى فيها من المنكرات أضعاف ما رأى في غيرها ; من ذلك أن الرجال يتلثمون والنساء يمشين حاسرات عن وجوههن ، فأخذ في إنكار ذلك ، حتى إنه اجتاز به في بعض الأيام أخت أمير المسلمين  علي بن يوسف بن تاشفين ملك مراكش   وما حولها ، ومعها نساء راكبات حاسرات عن وجوههن ، فشرع هو وأصحابه ينكرون عليهن ويضربون الدواب ، فسقطت أخت الملك عن دابتها ، فأحضره الملك وأحضر الفقهاء فظهر عليهم بالحجة ، وأخذ يعظ الملك في نفسه ، ومع هذا نفاه الملك عن بلده ، فشرع يشنع عليه ويدعو الناس إلى قتاله ، فاتبعه على ذلك خلق كثير ، فجهز إليه ابن تاشفين  جيشا كثيفا فهزمهم ابن تومرت ،  فعظم شأنه وارتفع أمره وقويت شوكته ، وتسمى بالمهدي ،  وسمى جيشه جيش الموحدين ، وألف كتابا في التوحيد وعقيدة تسمى المرشدة ، ثم كانت له وقعات مع جيوش ابن تاشفين ،  فقتل في بعض الأيام منهم نحوا من سبعين ألفا ، وذلك بإشارة أبي عبد الله الونشريسي ،  وكان ذكر أنه نزل إليه ملك وعلمه القرآن و " الموطأ " وله بذلك ملائكة يشهدون به في بئر سماه ، فلما اجتاز به وكان قد أرصد فيه رجالا ، فلما سألهم والناس يسمعون شهدوا له   [ ص: 247 ] بذلك ، فأمر حينئذ بطم البئر عليهم فماتوا عن آخرهم ، ولهذا يقال : من أعان ظالما سلط عليه . 
ثم جهز ابن تومرت  الذي لقب نفسه بالمهدي جيشا عليهم أبو عبد الله الونشريسي  وعبد المؤمن  لمحاصرة مراكش ،  فخرج إليهم أهلها فاقتتلوا قتالا عظيما ، فكان في جملة من قتل أبو عبد الله الونشريسي  هذا الذي زعم أن الملائكة تخاطبه ، ثم افتقدوه في القتلى فلم يجدوه ، فقالوا : إن الملائكة رفعته ، وقد كان عبد المؤمن  دفنه والناس في المعركة ، وقتل من أصحاب المهدي  خلق كثير ، وقد كان حين جهز الجيش مريضا مدنفا ، فلما جاءه الخبر ازداد مرضا إلى مرضه ، وساءه قتل أبي عبد الله الونشريسي  ، وجعل الأمر من بعده  لعبد المؤمن بن علي ،  ولقبه أمير المؤمنين ، وقد كان شابا حسنا حازما عاقلا . 
ثم مات ابن تومرت  وقد أتت عليه إحدى وخمسون سنة ، ومدة ملكه عشر سنين ، وحين صار الأمر إلى عبد المؤمن بن علي  أحسن إلى الرعايا ، وظهرت منه سيرة جيدة فأحبه الناس ، واتسعت ممالكه ، وكثرت جيوشه ورعيته ، ونصب العداوة لابن تاشفين  صاحب مراكش ،  ولم يزل الحرب بينهما إلى سنة خمس وثلاثين ، فمات ابن تاشفين ،  فقام ولده تاشفين  من بعده فمات في سنة تسع وثلاثين ليلة سبع وعشرين من رمضان ، فولي أخوه إسحاق بن علي بن يوسف بن تاشفين ،  فسار إليه عبد المؤمن  ، فملك تلك النواحي وفتح مدينة مراكش  وقتل هنالك أمما لا يعلم عددهم إلا الله عز وجل ، وقتل ملكها إسحاق  ، وكان صغير السن في سنة ثنتين وأربعين ، وكان إسحاق  هذا آخر ملوك المرابطين ، وكان مدة ملكهم سبعين سنة . 
 [ ص: 248 ] والذين ملكوا منهم أربعة : علي  ووالده يوسف  وولداه تاشفين  وإسحاق  ابنا علي  المذكور . 
فاستوطن عبد المؤمن  مدينة مراكش  ، واستقر ملكه بتلك الناحية ، وظفر في سنة ثلاث وأربعين بدكالة ،  وهي قبيلة عظيمة نحو مائتي ألف راجل وعشرين ألف فارس مقاتل من الشجعان الأبطال ، فقتل منهم خلقا كثيرا وجما غفيرا ، وسبى ذراريهم ، وغنم أموالهم ، حتى إنه بيعت الجارية الحسناء بدراهم معدودة وقد رأيت لبعضهم في سيرة ابن تومرت  هذا مجلدا في أحكامه وأيامه ، وكيف تملك ببلاد المغرب ،  وما كان يتعاطاه من الأشياء التي توهم أنها أحوال برة ، وهي محال لا تصدر إلا عن فجرة ، وما قتل من الناس وأزهق من الأنفس . 
				
						
						
