في ذكر قريش بني هاشم وبني عبد المطلب في نصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحالفهم فيما بينهم عليهم ، على أن لا يبايعوهم ولا يناكحوهم ، حتى يسلموا إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحصرهم إياهم في شعب مخالفة قبائل أبي طالب مدة طويلة ، وكتابتهم بذلك صحيفة ظالمة فاجرة ، وما ظهر في ذلك كله من آيات النبوة ودلائل الصدق .
قال عن موسى بن عقبة الزهري : ثم إن المشركين اشتدوا على [ ص: 208 ] المسلمين كأشد ما كانوا ، حتى بلغ المسلمين الجهد ، واشتد عليهم البلاء ، واجتمعت قريش في مكرها أن يقتلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانية ، فلما رأى أبو طالب عمل القوم جمع بني عبد المطلب ، وأمرهم أن يدخلوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شعبهم ، وأمرهم أن يمنعوه ممن أرادوا قتله ، فاجتمعوا على ذلك ، مسلمهم وكافرهم ، فمنهم من فعله حمية ، ومنهم من فعله إيمانا ويقينا ، فلما عرفت قريش أن القوم قد منعوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأجمعوا على ذلك ، اجتمع المشركون من قريش ، فأجمعوا أمرهم أن لا يجالسوهم ، ولا يبايعوهم ، ولا يدخلوا بيوتهم ، حتى يسلموا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للقتل ، وكتبوا في مكرهم صحيفة وعهودا ومواثيق ، لا يقبلوا من بني هاشم أبدا صلحا ، ولا تأخذهم بهم رأفة ، حتى يسلموه للقتل . فلبث بنو هاشم في شعبهم ثلاث سنين ، واشتد عليهم البلاء والجهد ، وقطعوا عنهم الأسواق ، فلا يتركوا لهم طعاما يقدم مكة ولا بيعا إلا بادروهم إليه فاشتروه ; يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو طالب إذا أخذ الناس مضاجعهم ، أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع على فراشه ; حتى يرى ذلك من أراد به مكرا واغتيالا له ، فإذا نوم الناس ، أمر أحد بنيه أو إخوته أو بني عمه فاضطجع على فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يأتي بعض فرشهم فينام عليه ، فلما كان رأس ثلاث سنين ، تلاوم رجال من بني عبد مناف ، ومن قصي ، ورجال من سواهم من قريش قد ولدتهم نساء من بني هاشم ، ورأوا أنهم قد قطعوا الرحم ، واستخفوا بالحق ، واجتمع أمرهم من ليلتهم على نقض ما تعاهدوا عليه من [ ص: 209 ] الغدر والبراءة منه ، وبعث الله على صحيفتهم الأرضة ، فلحست كل ما كان فيها من عهد وميثاق ، ويقال : كانت معلقة في سقف البيت فلم تترك اسما لله فيها إلا لحسته ، وبقي ما كان فيها من شرك وظلم وقطيعة رحم ، وأطلع الله عز وجل رسوله على الذي صنع بصحيفتهم ، فذكر ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طالب فقال أبو طالب : لا والثواقب ، ما كذبني . فانطلق يمشي بعصابته من بني عبد المطلب ، حتى أتى المسجد وهو حافل من قريش ، فلما رأوهم عامدين لجماعتهم ، أنكروا ذلك ، وظنوا أنهم خرجوا من شدة البلاء فأتوهم ليعطوهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتكلم أبو طالب فقال : قد حدثت أمور بينكم لم نذكرها لكم ، فأتوا بصحيفتكم التي تعاهدتم عليها ، فلعله أن يكون بيننا وبينكم صلح . وإنما قال ذلك ، خشية أن ينظروا في الصحيفة قبل أن يأتوا بها ، فأتوا بصحيفتهم معجبين بها ، لا يشكون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مدفوع إليهم ، فوضعوها بينهم ، وقالوا : قد آن لكم أن تقبلوا ، وترجعوا إلى أمر يجمع قومكم ، فإنما قطع بيننا وبينكم رجل واحد ، جعلتموه خطرا لهلكة قومكم وعشيرتكم وفسادهم . فقال أبو طالب : إنما أتيتكم لأعطيكم أمرا لكم فيه نصف ; إن ابن أخي قد أخبرني ولم يكذبني ، أن الله بريء من هذه الصحيفة التي في أيديكم ، ومحا كل اسم هو له فيها ، وترك فيها غدركم وقطيعتكم إيانا ، وتظاهركم علينا بالظلم ، فإن كان الحديث الذي قال ابن أخي [ ص: 210 ] كما قال ، فأفيقوا ، فوالله لا نسلمه أبدا حتى نموت من عند آخرنا ، وإن كان الذي قال باطلا ، دفعناه إليكم ، فقتلتموه أو استحييتم . قالوا : قد رضينا بالذي تقول . ففتحوا الصحيفة ، فوجدوا الصادق المصدوق - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر خبرها ، فلما رأتها قريش كالذي قال أبو طالب قالوا : والله إن كان هذا قط إلا سحر من صاحبكم ، فارتكسوا ، وعادوا بشر ما كانوا عليه من كفرهم ، والشدة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى رهطه ، والقيام بما تعاهدوا عليه ، فقال أولئك النفر من بني عبد المطلب : إن أولى بالكذب والسحر غيرنا ، فكيف ترون ، فإنا نعلم أن الذي اجتمعتم عليه من قطيعتنا أقرب إلى الجبت والسحر من أمرنا ، ولولا أنكم اجتمعتم على السحر ، لم تفسد صحيفتكم وهي في أيديكم ; طمس الله ما كان فيها من اسمه ، وما كان فيها من بغي تركه ، أفنحن السحرة أم أنتم ؟ ! فقال عند ذلك النفر من بني عبد مناف ، وبني قصي ، ورجال من قريش ولدتهم نساء من بني هاشم ; منهم أبو البختري والمطعم بن عدي وزهير بن أبي أمية بن المغيرة وزمعة بن الأسود وكانت الصحيفة عنده ، وهو من وهشام بن عمرو بني عامر بن لؤي في رجال من أشرافهم ووجوههم : نحن برآء مما في هذه الصحيفة . فقال أبو جهل لعنه الله : هذا أمر قضي بليل . وأنشأ أبو طالب يقول الشعر في شأن صحيفتهم ، ويمتدح النفر الذين تبرؤوا منها ، ونقضوا ما كان فيها من عهد ، ويمتدح النجاشي
[ ص: 211 ] قال : وهكذا روى شيخنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ . يعني من طريق عن ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة بن الزبير . يعني كسياق رحمه الله . وقد تقدم عن موسى بن عقبة أنه قال : إنما كانت هجرة موسى بن عقبة الحبشة بعد دخولهم إلى الشعب عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم في ذلك . فالله أعلم .
قلت : والأشبه أن أبا طالب إنما قال قصيدته اللامية ، التي قدمنا ذكرها ، بعد دخولهم الشعب أيضا فذكرها هاهنا أنسب . والله أعلم .
ثم روى : من طريق البيهقي يونس عن محمد بن إسحاق قال : فلما مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الذي بعث به ، وقامت بنو هاشم وبنو عبد المطلب دونه ، وأبوا أن يسلموه ، وهم من خلافه على مثل ما قومهم عليه ، إلا أنهم أنفوا أن يستذلوا ويسلموا أخاهم لما قارفه من قومه ، فلما فعلت ذلك بنو هاشم وبنو المطلب ، وعرفت قريش أن لا سبيل إلى محمد ، اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ، ولا ينكحوا إليهم ، ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم ، وكتبوا صحيفة في ذلك ، [ ص: 212 ] وعلقوها بالكعبة ، ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم ، واشتد البلاء عليهم ، وعظمت الفتنة ، وزلزلوا زلزالا شديدا . ثم ذكر القصة بطولها في دخولهم شعب أبي طالب وما بلغوا فيه من فتنة الجهد الشديد ، حتى كان يسمع أصوات صبيانهم يتضاغون من وراء الشعب ; من الجوع ، حتى كره عامة قريش ما أصابهم ، وأظهروا كراهيتهم لصحيفتهم الظالمة ، وذكروا أن الله برحمته أرسل على صحيفة قريش الأرضة ، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أكلته ، وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان ، فأخبر الله تعالى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبر بذلك عمه أبا طالب ثم ذكر بقية القصة كرواية وأتم . موسى بن عقبة
وقال ابن هشام عن زياد عن محمد بن إسحاق : فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نزلوا بلدا أصابوا منه أمنا وقرارا ، وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم ، فكان هو وحمزة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، وجعل الإسلام يفشو في القبائل ، فاجتمعوا وأتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني عبد المطلب ، على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم ، فلما اجتمعوا لذلك كتبوا في صحيفة ، ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ، ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة ; توكيدا على أنفسهم ، وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي قال ابن هشام : [ ص: 213 ] ويقال : النضر بن الحارث فدعا عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشل بعض أصابعه . وقال الواقدي : كان الذي كتب الصحيفة طلحة بن أبي طلحة العبدري .
قلت : والمشهور أنه منصور بن عكرمة كما ذكره ابن إسحاق وهو الذي شلت يده ، فما كان ينتفع بها ، وكانت قريش تقول بينها : انظروا إلى منصور بن عكرمة . قال الواقدي : وكانت الصحيفة معلقة في جوف الكعبة .
قال ابن إسحاق : فلما فعلت ذلك قريش ، انحازت بنو هاشم ، وبنو المطلب ، إلى أبي طالب فدخلوا معه في شعبه ، واجتمعوا إليه ، وخرج من بني هاشم أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب إلى قريش ، فظاهرهم . وحدثني حسين بن عبد الله أن أبا لهب لقي هند بنت عتبة بن ربيعة ، حين فارق قومه وظاهر عليهم قريشا ، فقال : يا ابنة عتبة هل نصرت اللات والعزى ، وفارقت من فارقها وظاهر عليها ؟ قالت : نعم ، فجزاك الله خيرا يا أبا عتبة .
قال ابن إسحاق : وحدثت أنه كان يقول في بعض ما يقول : يعدني محمد أشياء لا أراها ، يزعم أنها كائنة بعد الموت ، فماذا وضع في يدي بعد [ ص: 214 ] ذلك . ثم ينفخ في يديه فيقول : تبا لكما ، لا أرى فيكما شيئا مما يقول محمد . فأنزل الله تعالى تبت يدا أبي لهب وتب [ المسد : 1 ]
قال ابن إسحاق : فلما اجتمعت على ذلك قريش ، وصنعوا فيه الذي صنعوا ، قال أبو طالب :
ألا أبلغا عني على ذات بيننا لؤيا وخصا من لؤي بني كعب ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا
نبيا كموسى خط في أول الكتب وأن عليه في العباد محبة
ولا خير ممن خصه الله بالحب وأن الذي ألصقتم من كتابكم
لكم كائن نحسا كراغية السقب أفيقوا أفيقوا قبل أن يحفر الثرى
ويصبح من لم يجن ذنبا كذي الذنب ولا تتبعوا أمر الوشاة وتقطعوا
أواصرنا بعد المودة والقرب وتستجلبوا حربا عوانا وربما
أمر على من ذاقه حلب الحرب فلسنا ورب البيت نسلم أحمدا
لعزاء من عض الزمان ولا كرب [ ص: 215 ] ولما تبن منا ومنكم سوالف
وأيد أترت بالقساسية الشهب بمعترك ضيق ترى كسر القنا
به والنسور الطخم يعكفن كالشرب كأن مجال الخيل . في حجراته
ومعمعة الأبطال معركة الحرب أليس أبونا هاشم شد أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب ولسنا نمل الحرب حتى تملنا
ولا نشتكي ما قد ينوب من النكب ولكننا أهل الحفائظ والنهى
إذا طار أرواح الكماة من الرعب
قال ابن إسحاق : وجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغنا ، يوما مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعرض له النضر فكلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها وكل فيها خالدون لهم فيها زفير وهم فيها لا يسمعون [ الأنبياء : 98 - 100 ] ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأقبل عبد الله بن الزبعرى السهمي حتى جلس ، فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب آنفا وما قعد ، وقد زعم محمد ، أنا وما نعبد من آلهتنا هذه ، حصب جهنم . فقال عبد الله بن الزبعرى : أما والله لو وجدته لخصمته ، فسلوا محمدا ; أكل ما نعبد من دون الله حصب جهنم مع من عبده ؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيرا والنصارى تعبد عيسى . فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول ابن الزبعرى ورأوا أنه قد احتج وخاصم . فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، إنهم إنما يعبدون الشياطين ، ومن [ ص: 219 ] أمرتهم بعبادته " . فأنزل الله تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون لا يسمعون حسيسها وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون [ الأنبياء : 101 ، 102 ] أي ; عيسى ، وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله تعالى . ونزل فيما يذكرون أنهم يعبدون الملائكة ، وأنها بنات الله وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون [ الأنبياء : 26 ] والآيات بعدها . ونزل في إعجاب المشركين بقول ابن الزبعرى ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون [ الزخرف : 57 ، 58 ] وهذا الجدل الذي سلكوه باطل ، وهم يعلمون ذلك ; لأنهم قوم عرب ومن لغتهم أن " ما " لما لا يعقل ، فقوله إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون . إنما أريد بذلك ما كانوا يعبدونه من الأحجار التي كانت صور أصنام ، ولا يتناول ذلك الملائكة الذين زعموا أنهم يعبدونهم في هذه الصور ، ولا المسيح ، ولا عزيرا ولا أحدا من الصالحين ; لأن اللفظ لا يتناولهم ، لا لفظا ولا معنى ، فهم يعلمون أن ما ضربوه بعيسى ابن مريم من المثل جدل باطل ، كما قال الله تعالى ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون ثم قال إن هو أي عيسى إلا عبد أنعمنا عليه أي بنبوتنا [ ص: 220 ] وجعلناه مثلا لبني إسرائيل [ الزخرف : 59 ] أي دليلا على تمام قدرتنا على ما نشاء حيث خلقناه من أنثى بلا ذكر ، وقد خلقنا حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلقنا آدم لا من هذا ولا من هذا ، وخلقنا سائر بني آدم من ذكر وأنثى ، كما قال في الآية الأخرى ولنجعله آية للناس أي أمارة ودليلا على قدرتنا الباهرة ورحمة منا [ مريم : 21 ] نرحم بها من نشاء .
وذكر ابن إسحاق الأخنس بن شريق ونزول قوله تعالى ، فيه : ولا تطع كل حلاف مهين [ القلم : 10 ] الآيات . وذكر الوليد بن المغيرة حيث قال : أينزل على محمد ، وأترك وأنا كبير قريش وسيدها ، ويترك أبو مسعود عمرو بن عمير الثقفي سيد ثقيف ؟ ! فنحن عظيما القريتين . ونزول قوله تعالى فيه : وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم [ الزخرف : 31 ] والتي بعدها . وذكر أبي بن خلف حين قال لعقبة بن أبي معيط : ألم يبلغني أنك جالست محمدا ، وسمعت منه ، وجهي من وجهك حرام ، إلا أن تتفل في وجهه . ففعل ذلك عدو الله عقبة لعنه الله ، فأنزل الله : ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا [ الفرقان : 27 ، 28 ] والتي بعدها . [ ص: 221 ] قال : ومشى أبي بن خلف بعظم بال قد أرم ، فقال : يا محمد ، أنت تزعم أن الله يبعث هذا بعد ما أرم ؟ ! ثم فته بيده ، ثم نفخه في الريح نحو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " نعم ، أنا أقول ذلك ، يبعثه الله وإياك بعد ما تكونان هكذا ، ثم يدخلك النار " . وأنزل الله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ يس : 78 ، 79 ] إلى آخر السورة .
قال واعترض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني ، وهو يطوف عند باب الكعبة ، الأسود بن المطلب والوليد بن المغيرة وأمية بن خلف والعاص بن وائل فقالوا : يا محمد ، هلم فلنعبد ما تعبد ، وتعبد ما نعبد ، فنشترك نحن وأنت في الأمر ، فأنزل الله فيهم : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون [ الكافرون : 1 ، 2 ] إلى آخرها . ولما سمع أبو جهل بشجرة الزقوم ، قال : أتدرون ما الزقوم ، هو تمر يضرب بالزبد ، ثم قال : هلموا فلنتزقم ! فأنزل الله تعالى : إن شجرة الزقوم طعام الأثيم [ الدخان : 43 ، 44 ] قال : ووقف [ ص: 222 ] الوليد بن المغيرة فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكلمه ، وقد طمع في إسلامه ، فمر به ابن أم مكتوم عاتكة بنت عبد الله بن عنكثة الأعمى ، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجعل يستقرئه القرآن ، فشق ذلك عليه حتى أضجره ، وذلك أنه شغله عما كان فيه من أمر الوليد وما طمع فيه من إسلامه ، فلما أكثر عليه انصرف عنه عابسا ، وتركه ، فأنزل الله تعالى : عبس وتولى أن جاءه الأعمى [ عبس : 1 ، 2 ] إلى قوله مرفوعة مطهرة [ عبس : 14 ] وقد قيل : إن الذي كان يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين جاءه ابن أم مكتوم أمية بن خلف . فالله أعلم .
ثم ذكر ابن إسحاق الحبشة إلى مكة ، وذلك حين بلغهم إسلام أهل مكة ، وكان النقل ليس بصحيح ، ولكن كان له سبب ، وهو ما ثبت في " الصحيح " وغيره من عاد من مهاجرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس يوما مع المشركين ، وأنزل الله عليه والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم [ النجم : 1 ، 2 ] يقرؤها عليهم حتى ختمها وسجد ، فسجد من هناك من المسلمين والمشركين والجن والإنس . وكان لذلك سبب ذكره كثير من المفسرين عند وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم [ الحج : 52 ] وذكروا قصة الغرانيق ، وقد أحببنا الإضراب عن ذكرها صفحا ; لئلا يسمعها من لا يضعها على مواضعها ، إلا أن أصل القصة في " الصحيح " . قوله تعالى : [ ص: 223 ]
قال : حدثنا البخاري أبو معمر حدثنا عبد الوارث حدثنا أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قال : سجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالنجم ، وسجد معه المسلمون والمشركون ، والجن والإنس . انفرد به دون البخاري مسلم .
وقال : حدثنا البخاري حدثنا محمد بن بشار غندر حدثنا شعبة عن أبي إسحاق سمعت الأسود عن عبد الله قال : قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم بمكة ، فسجد فيها ، وسجد من معه غير شيخ أخذ كفا من حصى أو تراب ، فرفعه إلى جبهته ، وقال : يكفيني هذا . فرأيته بعد قتل كافرا
ورواه مسلم وأبو داود من حديث والنسائي شعبة .
وقال : حدثنا الإمام أحمد إبراهيم حدثنا رباح عن معمر عن ابن طاوس عن عكرمة بن خالد عن جعفر بن المطلب بن أبي وداعة عن أبيه ، قال : بمكة سورة النجم ، فسجد وسجد من عنده ، فرفعت رأسي وأبيت أن أسجد ، ولم يكن أسلم يومئذ المطلب فكان بعد ذلك لا يسمع أحدا يقرؤها إلا سجد معه . وقد رواه قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النسائي عبد الملك بن [ ص: 224 ] عبد الحميد عن به . وقد يجمع بين هذا والذي قبله ، بأن هذا سجد ولكنه رفع رأسه استكبارا ، وذلك الشيخ الذي استثناه أحمد بن حنبل ابن مسعود لم يسجد بالكلية . والله أعلم .
والمقصود أن الناقل لما رأى المشركين قد سجدوا متابعة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعتقد أنهم قد أسلموا ، واصطلحوا معه ، ولم يبق نزاع بينهم ، فطار الخبر بذلك وانتشر حتى بلغ مهاجرة الحبشة بها ، فظنوا صحة ذلك ، فأقبل منهم طائفة طامعين بذلك ، وثبتت جماعة ، وكلاهما محسن مصيب فيما فعل ، فذكر ابن إسحاق ; أسماء من رجع منهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وامرأته وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة سهلة بنت سهيل ، وعبد الله بن جحش بن رئاب وعتبة بن غزوان والزبير بن العوام ومصعب بن عمير وسويبط بن سعد وطليب بن عمير وعبد الرحمن بن عوف والمقداد بن عمرو وعبد الله بن مسعود وامرأته وأبو سلمة بن عبد الأسد أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة ، وشماس بن عثمان وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة وقد حبسا بمكة حتى مضت بدر وأحد والخندق وهو ممن شك فيه ، أخرج إلى وعمار بن ياسر الحبشة أم لا ومعتب بن عوف وابنه وعثمان بن مظعون السائب وأخواه قدامة [ ص: 225 ] وعبد الله ابنا مظعون وخنيس بن حذافة وقد حبس وهشام بن العاص بن وائل بمكة إلى بعد الخندق وامرأته وعامر بن ربيعة ليلى بنت أبي حثمة ، وعبد الله بن مخرمة وقد حبس حتى كان يوم وعبد الله بن سهيل بن عمرو بدر فانحاز إلى المسلمين فشهد معهم بدرا وأبو سبرة بن أبي رهم وامرأته أم كلثوم بنت سهيل ، والسكران بن عمرو بن عبد شمس وامرأته وقد مات سودة بنت زمعة بمكة قبل الهجرة وخلف على امرأته رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسعد بن خولة وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن الحارث بن زهير وسهيل بن بيضاء وعمرو بن أبي سرح فجميعهم ثلاثة وثلاثون رجلا رضي الله عنهم .
وقال : البخاري الحبشة ، وقالت هجرة عائشة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لابتين " . فهاجر من هاجر قبل المدينة ، ورجع عامة من كان هاجر إلى الحبشة إلى المدينة . فيه عن أبي موسى وأسماء رضي الله عنهما ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقد تقدم حديث أبي موسى وهو في " الصحيحين " وسيأتي حديث بعد فتح أسماء بنت عميس خيبر حين قدم من كان تأخر من مهاجرة الحبشة ، إن شاء الله ، وبه الثقة .
[ ص: 226 ] وقال : حدثنا البخاري يحيى بن حماد حدثنا أبو عوانة عن سليمان عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال : النجاشي سلمنا عليه ، فلم يرد علينا ، فقلنا : يا رسول الله ، إنا كنا نسلم عليك فترد علينا ، قال : " إن في الصلاة شغلا " كنا نسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي ، فيرد علينا ، فلما رجعنا من عند
وقد رواه أيضا البخاري ومسلم وأبو داود من طرق أخر عن والنسائي سليمان بن مهران عن الأعمش به . وهو يقوي تأويل من تأول حديث الثابت في " الصحيحين " : زيد بن أرقم وقوموا لله قانتين [ البقرة : 238 ] فأمرنا بالسكوت ، ونهينا عن الكلام . على أن المراد جنس الصحابة ; فإن كنا نتكلم في الصلاة حتى نزل قوله زيدا أنصاري مدني ، وتحريم ثبت بمكة ، فتعين الحمل على ما تقدم ، وأما ذكره الآية وهي مدنية فمشكل ، ولعله اعتقد أنها المحرمة لذلك ، وإنما كان المحرم له غيرها معها . والله أعلم . الكلام في الصلاة
[ ص: 227 ] قال ابن إسحاق : وكان ممن دخل معهم بجوار ; عثمان بن مظعون في جوار الوليد بن المغيرة في جوار خاله وأبو سلمة بن عبد الأسد أبي طالب ; فإن أمه فأما برة بنت عبد المطلب ، عثمان بن مظعون فإن صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف حدثني ، عمن حدثه عن عثمان قال : لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء ، وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال : والله إن غدوي ورواحي آمنا ، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني ، لنقص كثير في نفسي . فمشى إلى في جوار رجل من أهل الشرك الوليد بن المغيرة فقال له : يا أبا عبد شمس وفت ذمتك ، قد رددت إليك جوارك . قال : لم يا بن أخي ؟ لعله آذاك أحد من قومي ؟ قال : لا ، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل ، ولا أريد أن أستجير بغيره . قال : فانطلق إلى المسجد ، فاردد علي جواري علانية كما أجرتك علانية . قال : فانطلقا ، فخرجا حتى أتيا المسجد ، فقال الوليد بن المغيرة : هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري . قال : صدق ، قد وجدته وفيا كريم الجوار ، ولكني قد أحببت أن لا أستجير بغير الله ، فقد رددت عليه جواره . ثم انصرف عثمان رضي الله عنه ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب في مجلس من قريش ينشدهم ، فجلس [ ص: 228 ] معهم عثمان فقال لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
فقال عثمان : صدقت . فقال لبيد :وكل نعيم لا محالة زائل
فقال عثمان : كذبت ; نعيم الجنة لا يزول . فقال لبيد : يا معشر قريش ، والله ما كان يؤذى جليسكم ، فمتى حدث هذا فيكم ؟ فقال رجل من القوم : إن هذا سفيه في سفهاء معه ، قد فارقوا ديننا ، فلا تجدن في نفسك من قوله . فرد عليه عثمان حتى شري أمرهما فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها ، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ عثمان فقال : أما والله يا بن أخي ، إن كانت عينك عما أصابها لغنية ، ولقد كنت في ذمة منيعة . قال : يقول عثمان : بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله ، وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس . فقال له الوليد : هلم يا بن أخي إن شئت إلى جوارك فعد . قال : لا .قال ابن إسحاق : وأما فحدثني أبو سلمة بن عبد الأسد أبي إسحاق بن يسار عن سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة أنه حدثه أن أبا سلمة لما استجار بأبي طالب مشى إليه رجال من بني مخزوم ، فقالوا له : يا أبا طالب هذا منعت منا ابن أخيك محمدا ، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا ، [ ص: 229 ] قال : إنه استجار بي وهو ابن أختي ، وإن أنا لم أمنع ابن أختي ، لم أمنع ابن أخي ، فقام أبو لهب فقال : يا معشر قريش ، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه ، والله لتنتهن أو لنقومن معه في كل ما قام فيه ، حتى يبلغ ما أراد . قال : فقالوا : بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة . وكان لهم وليا وناصرا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبقوا على ذلك ، فطمع فيه أبو طالب حين سمعه يقول ما يقول ، ورجا أن يقوم معه في شأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أبو طالب يحرض أبا لهب على نصرته ونصرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
وإن امرأ أبو عتيبة عمه لفي روضة ما أن يسام المظالما
أقول له وأين منه نصيحتي أبا معتب ثبت سوادك قائما
ولا تقبلن الدهر ما عشت خطة تسب بها إما هبطت المواسما
وول سبيل العجز غيرك منهم فإنك لم تخلق على العجز لازما
وحارب فإن الحرب نصف ولن ترى أخا الحرب يعطي الخسف حتى يسالما
وكيف ولم يجنوا عليك عظيمة ولم يخذلوك غانما أو مغارما
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا وتيما ومخزوما عقوقا ومأثما
بتفريقهم من بعد ود وألفة جماعتنا كيما ينالوا المحارما
[ ص: 230 ] كذبتم وبيت الله نبزى محمدا ولما تروا يوما لدى الشعب قائما