وقد ذكر محمد بن إسحاق رحمه الله بعد إبطال الصحيفة قصصا كثيرة ، تتضمن نصب عداوة قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتنفير أحياء العرب والقادمين إلى مكة لحج أو عمرة أو غير ذلك منه ، وإظهار الله المعجزات على يديه ; دلالة على صدقه فيما جاءهم به من البينات والهدى ، وتكذيبا لهم فيما يرمونه من البغي والعدوان والمكر والخداع ، ويرمونه من الجنون والسحر والكهانة والتقول ، والله غالب على أمره ; فذكر الطفيل بن عمرو الدوسي مرسلة ، وكان سيدا مطاعا شريفا في " قصة دوس " . وكان قد قدم مكة ، فاجتمع به أشراف قريش وحذروه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونهوه أن يجتمع به ، أو يسمع كلامه . قال : فوالله ما زالوا بي ، حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا ولا أكلمه ، حتى حشوت أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا ; فرقا من أن يبلغني شيء من قوله ، وأنا لا أريد أن أسمعه . قال : فغدوت إلى المسجد ، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة ، قال : فقمت منه قريبا ، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله ، قال : فسمعت كلاما حسنا . قال : فقلت في نفسي : واثكل أمي ! والله إني لرجل لبيب شاعر ، ما يخفى علي الحسن من القبيح ، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول ، فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته ، وإن كان قبيحا تركته . قال : فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 244 ] فاتبعته حتى إذا دخل بيته ، دخلت عليه ، فقلت : يا محمد ، إن قومك قالوا لي كذا وكذا ، للذي قالوا . قال : فوالله ما برحوا بي يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف ; لئلا أسمع قولك ، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك ، فسمعت قولا حسنا ، فاعرض علي أمرك . قال : فعرض علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام ، وتلا علي القرآن ، فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ، ولا أمرا أعدل منه . قال : فأسلمت وشهدت شهادة الحق ، وقلت : يا نبي الله ، إني امرؤ مطاع في قومي ، وإني راجع إليهم ، وداعيهم إلى الإسلام ، فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه . قال : فقال : " اللهم اجعل له آية " . قال : فخرجت إلى قومي ، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر ، وقع نور بين عيني مثل المصباح . قال : فقلت : اللهم في غير وجهي ; فإني أخشى أن يظنوا بها مثلة وقعت في وجهي لفراقي دينهم . قال : فتحول فوقع في رأس سوطي . قال : فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في رأس سوطي كالقنديل المعلق ، وأنا أنهبط عليهم من الثنية ، حتى جئتهم فأصبحت فيهم ، فلما نزلت أتاني أبي ، وكان شيخا كبيرا ، فقلت : إليك عني يا أبت ، فلست منك ولست مني . قال : ولم يا بني ؟ قال : قلت : أسلمت وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال : أي بني ، ديني دينك . فقلت : فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك ، ثم ائتني حتى أعلمك مما علمت . قال : فذهب فاغتسل وطهر ثيابه . قال : ثم جاء فعرضت عليه الإسلام ، فأسلم .
قال : ثم [ ص: 245 ] أتتني صاحبتي ، فقلت : إليك عني ، فلست منك ولست مني . قالت : ولم ؟ بأبي أنت وأمي . قال : قلت : فرق بيني وبينك الإسلام ، وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - . قالت : فديني دينك . قال : قلت : فاذهبي إلى حنى ذي الشرى ، فتطهري منه . وكان ذو الشرى صنما لدوس ، وكان الحمى حمى حموه له ، به وشل من ماء يهبط من جبل . قالت : بأبي أنت وأمي ، أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا ؟ قال : قلت : لا ، أنا ضامن لذلك . قال : فذهبت فاغتسلت ، ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت ، ثم دعوت دوسا إلى الإسلام ، فأبطؤوا علي ، ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فقلت : يا رسول الله ، إنه قد غلبني على دوس الزنا فادع الله عليهم . قال : " دوسا ، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم " . قال : فلم أزل بأرض اللهم اهد دوس أدعوهم إلى الإسلام ، حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق ، ثم قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن أسلم معي من قومي ، ورسول الله بخيبر ، حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس ، فلحقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر . فأسهم لنا مع المسلمين ، ثم لم أزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا فتح الله عليه مكة ، قلت : يا رسول الله ، ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه . قال ابن إسحاق : فخرج إليه ، فجعل الطفيل وهو يوقد عليه النار ، يقول :
[ ص: 246 ]
يا ذا الكفين لست من عبادكا ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
قال : ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان معه بالمدينة ، حتى قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلما ارتدت العرب خرج الطفيل مع المسلمين ، فسار معهم حتى فرغوا من طليحة ومن أرض نجد كلها ، ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة ومعه ابنه عمرو بن الطفيل فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة ، فقال لأصحابه : إني قد رأيت رؤيا فاعبروها لي ; رأيت أن رأسي حلق ، وأنه خرج من فمي طائر ، وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها ، وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا ، ثم رأيته حبس عني . قالوا : خيرا . قال : أما أنا والله ، فقد أولتها . قالوا : ماذا ؟ قال : أما حلق رأسي فوضعه ، وأما الطائر الذي خرج منه فروحي ، وأما المرأة التي أدخلتني في فرجها فالأرض تحفر لي فأغيب فيها ، وأما طلب ابني إياي ثم حبسه عني ، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني . فقتل رحمه الله تعالى شهيدا باليمامة ، وجرح ابنه جراحة شديدة ، ثم استبل منها ، ثم قتل عام اليرموك زمن عمر شهيدا رحمه الله . هكذا ذكر محمد بن إسحاق قصة الطفيل بن عمرو مرسلة بلا إسناد .ولخبره شاهد في الحديث الصحيح ; قال : حدثنا الإمام أحمد حدثنا وكيع سفيان عن عن أبي الزناد عن الأعرج قال : أبي هريرة لما قدم الطفيل [ ص: 247 ] وأصحابه على النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إن دوسا قد استعصت . قال : " اللهم اهد دوسا ، وأت بهم " . رواه عن البخاري أبي نعيم عن به . سفيان الثوري
وقال : حدثنا الإمام أحمد يزيد أنبأنا محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن رضي الله عنه ، قال : أبي هريرة الطفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه ، فقالوا : يا رسول الله ، إن دوسا قد عصت وأبت فادع الله عليها . قال : فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ، فقلت : هلكت أبو هريرة دوس . فقال : " اللهم اهد دوسا ، وأت بهم " . إسناد جيد ، ولم يخرجوه . قدم
وقال : حدثنا الإمام أحمد سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد عن حجاج الصواف عن عن أبي الزبير جابر الطفيل بن عمرو الدوسي أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله ، هل لك في حصن حصين ومنعة ؟ قال : حصن كان لدوس في الجاهلية . فأبى ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للذي ذخر الله للأنصار ، فلما هاجر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، هاجر إليه الطفيل بن عمرو وهاجر معه رجل من قومه ، فاجتووا المدينة ، فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع [ ص: 248 ] بها براجمه ، فشخبت يداه ، فما رقأ الدم حتى مات ، فرآه الطفيل بن عمرو في منامه في هيئة حسنة ، ورآه مغطيا يديه ، فقال له : ما صنع بك ربك ؟ فقال : غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - . قال : فما لي أراك مغطيا يديك ؟ قال : قيل لي : لن يصلح منك ما أفسدت . قال : فقصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " اللهم وليديه فاغفر " . رواه أن مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم كلاهما عن سليمان بن حرب به . فإن قيل : فما الجمع بين هذا الحديث ، وبين ما ثبت في " الصحيحين " من طريق الحسن عن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فالجواب من وجوه ; أحدها : أنه قد يكون ذاك مشركا ، وهذا مؤمن ، ويكون قد جعل هذا الصنيع سببا مستقلا في دخوله النار ، وإن كان شركه مستقلا ، إلا أنه نبه على هذا لتعتبر أمته . الثاني : قد يكون [ ص: 249 ] هذاك عالما بالتحريم ، وهذا غير عالم لحداثة عهده بالإسلام . الثالث : قد يكون ذاك فعله مستحلا له ، وهذا لم يكن مستحلا ، بل مخطئا . الرابع : قد يكون أراد ذاك بصنيعه المذكور ، أن يقتل نفسه ، بخلاف هذا ، فإنه يجوز أنه لم يقصد قتل نفسه ، وإنما أراد غير ذلك . الخامس : قد يكون هذاك قليل الحسنات ، فلم تقاوم كبر ذنبه المذكور ، فدخل النار ، وهذا قد يكون كثير الحسنات ، فقاومت الذنب ، فلم يلج النار ، بل غفر له بالهجرة إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - ولكن بقي الشين في يده فقط ، وحسنت هيئة سائره ، فغطى الشين منه ، فلما رآه " كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ، فجزع ، فأخذ سكينا فحز بها يده ، فما رقأ الدم حتى مات ، فقال الله عز وجل : عبدي بادرني بنفسه ، فحرمت عليه الجنة " . الطفيل بن عمرو مغطيا يديه ، قال له : ما لك ؟ قال : قيل لي : لن يصلح منك ما أفسدت . فلما قصها الطفيل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا له فقال : " اللهم ، وليديه فاغفر " . أي فأصلح منها ما كان فاسدا . والمحقق أن الله استجاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صاحب الطفيل بن عمرو .