[ ص: 337 ] فصل في أهل الطائف يدعوهم إلى دين الله ، وإلى نصرة دينه ، فردوا عليه ذلك ، ولم يقبلوه منه ، فرجع إلى ذهابه صلى الله عليه وسلم إلى مكة
قال ابن إسحاق : فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تناله منه في حياة عمه أبي طالب ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس من ثقيف النصرة والمنعة بهم من قومه ، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى ، فخرج إليهم وحده ، فحدثني ، عن يزيد بن أبي زياد ، قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محمد بن كعب القرظي الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف ، هم سادة ثقيف وأشرافهم ، وهم إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب ، بنو عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم ، فدعاهم إلى الله ، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على [ ص: 338 ] الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه ، فقال أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك . وقال الآخر : أما وجد الله أحدا أرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله لا أكلمك أبدا; لئن كنت رسولا من الله كما تقول ، لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله ، ما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - : " إن فعلتم ما فعلتم ، فاكتموا علي " . وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه ، فلم يفعلوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم ، يسبونه ويصيحون به ، حتى اجتمع عليه الناس ، وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة ، وشيبة بن ربيعة ، وهما فيه ، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما يلقى من سفهاء أهل الطائف - وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيما ذكر لي ، المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : " ماذا لقينا من أحمائك! " . فلما اطمأن ، قال - فيما ذكر لي - : " . هكذا أورد اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا [ ص: 339 ] والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك ابن إسحاق في كتابه " السيرة " هذا الدعاء من غير إسناد ، بل ذكره معلقا بصيغة البلاغ ، فقال : فيما ذكر لي .
وقد روي الحافظ ، في ترجمة ابن عساكر القاسم بن الليث الرسعني ، شيخ النسائي وغير واحد ، بسنده من حديثه ، حدثني والطبراني محمد بن أبي صفوان الثقفي ، حدثنا ، حدثنا أبي ، عن وهب بن جرير بن حازم محمد بن إسحاق ، عن ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة عبد الله بن جعفر ، قال : لما توفي أبو طالب ، خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ماشيا على قدميه . قال : فدعاهم إلى الإسلام فلم يجيبوه ، فانصرف إلى ظل شجرة فصلى ركعتين ، ثم قال : " " . اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أرحم الراحمين ، أنت أرحم بي ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أم إلى قريب ملكته أمري ؟ إن لم تكن غضبان علي فلا أبالي ، غير أن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك ، أو تحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك
قال ابن إسحاق : فلما رآه ابنا ربيعة عتبة وشيبة وما لقي ، تحركت له [ ص: 340 ] رحمهما ، فدعوا غلاما نصرانيا يقال له : عداس . فقالا له : خذ قطفا من هذا العنب ، فضعه في هذا الطبق ، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل عداس ، ثم ذهب به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال له : كل . فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فيه ، قال : " بسم الله " ، ثم أكل ، فنظر عداس في وجهه ، ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ومن أهل أي بلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ " . قال : نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ " . فقال له عداس : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ ! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذلك أخي ، كان نبيا وأنا نبي " . فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : يقول ابناء ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك . فلما جاءهما عداس ، قالا له : ويلك يا عداس ، ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ، ما في الأرض شيء خير من هذا ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي . قالا له : ويحك يا عداس ، لا يصرفنك عن دينك; فإن دينك خير من دينه .
وقد ذكر نحوا من هذا السياق ، إلا أنه لم يذكر الدعاء ، وزاد : وقعد له موسى بن عقبة أهل الطائف صفين على طريقه ، فلما مر جعلوا لا يرفع رجليه ، ولا يضعهما ، إلا رضخوهما بالحجارة حتى أدموه ، فخلص منهم وهما يسيلان الدماء ، فعمد إلى ظل حبلة ، وهو مكروب ، وفي ذلك الحائط عتبة وشيبة ابنا [ ص: 341 ] ربيعة فكره مكانهما; لعداوتهما الله ورسوله . ثم ذكر قصة عداس النصراني كنحو ما تقدم .
وقد روى ، عن الإمام أحمد أبي بكر بن أبي شيبة ، حدثنا ، عن مروان بن معاوية الفزاري عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي ، عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي جبل العدواني ، عن أبيه ، أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف ، وهو قائم على قوس - أو عصى - حين أتاهم يبتغي عندهم النصر ، فسمعته يقرأ : والسماء والطارق [ الطارق : 1 ] حتى ختمها . قال : فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ، ثم قرأتها في الإسلام . قال فدعتني ثقيف ، فقالوا : ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم ، فقال من معهم من قريش : نحن أعلم بصاحبنا ، لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه .
وثبت في " الصحيحين " من طريق ، أخبرني عبد الله بن وهب ، عن يونس بن يزيد ابن شهاب ، قال : أخبرني عروة بن الزبير ، أن عائشة حدثته أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : " لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال ، فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل ، عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك ، وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال [ ص: 342 ] لتأمره بما شئت فيهم . ثم ناداني ملك الجبال ، فسلم علي ، ثم قال : يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال قد بعثني إليك ربك; لتأمرني بأمرك ، فما شئت ؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئا " .