فيها قصد الملك الجواد أن يدخل مصر ليكون في خدمة الصالح أيوب ، فلما وصل إلى الرمل توهم منه دخلت سنة تسع وثلاثين وستمائة الصالح أيوب ، وأرسل إليه كمال الدين بن الشيخ ليقبض عليه ، فرجع الجواد ، فاستجار بالناصر داود ، وكان إذ ذاك بالقدس الشريف ، وبعث معه جيشا ، فالتقوا مع ابن الشيخ ، فكسروه وأسروه ، فوبخه الناصر داود ، ثم أطلقه ، وأقام الجواد في خدمة الناصر حتى توهم منه ، فقيده وأرسله تحت الحوطة إلى بغداد ، فأطلقه بطن من العرب عن قوة ، فلجأ إلى صاحب دمشق مدة ، ثم انتقل إلى الفرنج ، ثم عاد إلى دمشق ، فحبسه الصالح إسماعيل بعزتا إلى أن مات في سنة إحدى وأربعين كما سيأتي .
وفيها شرع الصالح أيوب في بناء المدارس بمصر ، وبنى قلعة بالجزيرة غرم عليها شيئا كثيرا من بيت المال ، وأخذ أملاك الناس ، وخرب نيفا وثلاثين مسجدا ، وقطع ألف نخلة ، ثم أخربها الترك في سنة إحدى وخمسين كما سيأتي بيانه .
وفيها ركب الملك المنصور بن إبراهيم بن الملك المجاهد صاحب حمص ، ومعه [ ص: 256 ] الحلبيون ، فاقتتلوا مع الخوارزمية بأرض حران ، فكسروهم ومزقوهم كل ممزق ، وعادوا منصورين إلى بلادهم ، فاصطلح شهاب الدين غازي صاحب ميافارقين مع الخوارزمية ، وآواهم إلى بلده ليكونوا من حزبه .
قال أبو شامة : وفيها كان عز الدين إلى الديار المصرية فأكرمه صاحبها ، وولاه الخطابة دخول الشيخ بالقاهرة وقضاء القضاة بمصر ، بعد وفاة القاضي شرف الدين الموقع ، ثم عزل نفسه مرتين وانقطع في بيته ، رحمه الله تعالى .
قال : بالموصل الشمس بن الخباز النحوي الضرير في سابع رجب . وفيها توفي والكمال بن يونس الفقيه في النصف من شعبان ، وكانا فاضلي بلدهما في فنهما .
قلت : أما الشمس بن الخباز ، فهو أبو عبد الله أحمد بن الحسين بن أحمد بن معالي بن منصور بن علي ، الضرير النحوي الموصلي ، المعروف بابن الخباز ، اشتغل بعلم العربية وحفظ " المفصل " و " الإيضاح والتكملة " والعروض والحساب ، وكان يحفظ " المجمل " في اللغة وغير ذلك ، وكان شافعي المذهب ، كثير النوادر والملح ، وله أشعار جيدة ، وكانت وفاته العاشر من رجب ، وله من العمر خمسون سنة - رحمه الله تعالى - .
[ ص: 257 ] وأما الكمال بن يونس ، فهو موسى بن يونس بن محمد بن منعة بن مالك العقيلي ، أبو الفتح الموصلي ، شيخ الشافعية بها ، ومدرس بعدة مدارس فيها ، وكانت له معرفة تامة بالأصول والفروع والمعقولات والمنطق والحكمة ، ورحل إليه الطلبة من البلدان ، وبلغ ثمانية وثمانين عاما ، وله شعر حسن ، فمن ذلك ما امتدح به البدر لؤلؤا صاحب الموصل ، وهو قوله :
لئن شرفت أرض بمالك رقها فمملكة الدنيا بكم تتشرف بقيت بقاء الدهر أمرك نافذ
وسعيك مشكور وحكمك منصف
قال أبو شامة : وفيها توفي بدمشق :
عبد الواحد الصوفي
الذي كان قسا راهبا بكنيسة مريم سبعين سنة ، أسلم قبل موته بأيام ، ثم توفي شيخا كبيرا بعد أن أقام بخانقاه السميساطية أياما ، ودفن بمقابر الصوفية ، وكانت له جنازة حافلة ، حضرت دفنه والصلاة عليه ، رحمه الله تعالى .
[ ص: 258 ] أبو الفضل أحمد بن إسفنديار ، بن الموفق بن أبي علي البوشنجي الواعظ ، شيخ رباط الأرجوانية .
قال ابن الساعي : كان جميل الصورة ، حسن الأخلاق ، كثير التودد والتواضع ، متكلما مفوها منطقيا ، حسن العبارة ، جيد الوعظ ، طيب الإنشاد ، عذب الإيراد ، له نظم حسن . ثم ساق عنه قصيدة يمدح بها الخليفة المستنصر .
أبو بكر محمد بن يحيى ، بن المظفر بن علي بن نعيم ، المعروف بابن الحبير السلامي ، شيخ عالم فاضل ، كان حنبليا ، ثم صار شافعيا ، ودرس بعدة مدارس ببغداد للشافعية ، وكان أحد المعدلين بها ، تولى مباشرات كثيرة ، وكان فقيها أصوليا عالما بالخلاف ، وتقدم ببلده وعظم كثيرا ، ثم استنابه ابن فضلان بدار الحريم ، ثم صار من أمره أن درس بالنظامية ، وخلع عليه ببغلة ، وحضر عنده الأعيان ، وما زال بها حتى توفي عن ثمانين سنة ، ودفن بباب حرب .
ببغداد
أبو المعالي عبد الرحمن بن مقبل بن علي الواسطي الشافعي ، اشتغل قاضي القضاة ببغداد ، وحصل وأعاد في بعض المدارس ، ثم استنابه قاضي القضاة عماد الدين أبو صالح نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر ، في أيام الخليفة [ ص: 259 ] الظاهر بن الناصر ، ثم ولي قضاء القضاة مستقلا ، ثم ولي تدريس المستنصرية بعد موت أول من درس بها محيي الدين محمد بن فضلان ، ثم عزل عن ذلك كله ، وعين لمشيخة بعض الربط ، ثم كانت وفاته في هذا العام ، وكان فاضلا دينا متواضعا ، رحمه الله تعالى وعفا عنه .