[ ص: 481 ] ثم دخلت سنة سبع وستين وستمائة
في صفر منها السلطان الظاهر البيعة لولده من بعده جدد الملك السعيد محمد بركة خان ، وأحضر الأمراء كلهم والقضاة والأعيان ، وأركبه ومشى بين يديه ، وكتب له ابن لقمان تقليدا هائلا بالملك من بعد أبيه ، وأن يحكم عنه أيضا في حال حياته ، ثم ركب السلطان في عساكره في جمادى الآخرة قاصدا الشام فلما دخل دمشق جاءته رسل من أبغا ملك التتار ، معهم مكاتبات ومشافهات ، فمن جملة المشافهات : أنت مملوك أبعت بسيواس ، فكيف يصلح لك أن تخالف ملوك الأرض؟! واعلم أنك لو صعدت إلى السماء أو هبطت إلى الأرض ما تخلصت مني فاعمل لنفسك على مصالحة السلطان أبغا . فلم يلتفت إلى ذلك ، ولا عده شيئا ، بل أجاب عنه أتم جواب ، وقال لرسله : أعلموه أني من ورائه بالمطالبة ، ولا أزال حتى أنتزع منه جميع البلاد التي استحوذ عليها من بلاد الخليفة ، وسائر أقطار الأرض .
وفي جمادى الآخرة رسم السلطان الملك الظاهر وتبطيل المفسدات والخواطئ بالبلاد كلها ، بإراقة الخمور ، وكتب إلى جميع البلاد بذلك ، وأسقطت [ ص: 482 ] المكوس التي كانت مرتبة على ذلك ، وعوض من كان محالا على ذلك بغيرها ، ولله الحمد والمنة . فنهبت الخواطئ وسلبن جميع ما كان معهن وحبسن حتى يتزوجن
ثم عاد السلطان بعساكره إلى مصر ، فلما كان في أثناء الطريق عند خربة اللصوص تعرضت له امرأة ، فذكرت له أن ولدها دخل مدينة صور وأن صاحبها الفرنجي غدر به وقتله ، وأخذ ماله ، فركب السلطان وشن الغارة على صور فأخذ منها شيئا كثيرا وقتل خلقا ، فأرسل إليه ملكها : ما سبب هذا؟ فذكر له غدره ومكره بالتجار ، ثم قال السلطان لمقدم الجيوش : أوهم الناس أني مريض وأني بالمحفة ، وأحضر الأطباء ، واستوصف لي منهم ما يصلح لمريض به كذا وكذا ، وإذا وصفوا لك فأحضر الأشربة إلى المحفة ، وأنتم سائرون . ثم ركب السلطان على البريد ، وساق مسرعا حتى دخل الديار المصرية فكشف أحوال ولده ، وكيف الأمر بالديار المصرية بعده ، ثم عاد مسرعا إلى الجيش ، فجلس في المحفة وأظهروا عافيته وتباشروا بذلك . وهذه جرأة عظيمة ، وإقدام هائل .
وفيها الملك الظاهر ، وفي صحبته الأمير حج السلطان بدر الدين الخزندار ، وقاضي القضاة صدر الدين سليمان الحنفي ، وفخر الدين بن لقمان وتاج الدين بن الأثير ، ونحو من ثلاثمائة مملوك ، وأجناد من الحلقة المنصورة فسار على طريق الكرك ونظر في أحوالها ، ثم منها إلى المدينة النبوية فأحسن إلى أهلها ، ونظر في أحوالها ، ثم منها إلى مكة ، فتصدق على المجاورين ، ثم وقف بعرفة ، وطاف طواف الإفاضة ، وفتحت له الكعبة فغسلها بماء الورد ، وطيبها بيده ، ثم [ ص: 483 ] وقف بباب الكعبة ، فتناول أيدي الناس ليدخلوا الكعبة ، وهو بينهم كأحدهم ، ثم رجع فرمى الجمرات ثم تعجل النفر ، فعاد على المدينة النبوية ، فزار القبر الشريف مرة ثانية ، على ساكنه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وعلى آله وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته الكرام أجمعين إلى يوم الدين . ثم سار إلى الكرك فدخلها في التاسع والعشرين من ذي الحجة ، وأرسل البشير إلى دمشق بقدومه سالما ، فخرج الأمير جمال الدين آقوش النجيبي نائبها ليتلقى البشير في ثاني المحرم ، فإذا هو السلطان نفسه يسير في الميدان الأخضر ، وقد سبق الجميع ، فتعجب الناس من سرعة سيره وصبره وجلده ، ثم ساق من فوره حتى دخل حلب في سادس المحرم ليتفقد أحوالها ، ثم عاد إلى حماة ، ثم رجع إلى دمشق ، ثم سار إلى مصر ، فدخلها يوم الثلاثاء ثالث صفر من السنة المقبلة ، رحمه الله .
وفي أواخر ذي الحجة هبت مائتي مركب في النيل ، وهلك فيها خلق كثير ووقع هناك مطر شديد جدا ، وأصاب ريح شديدة أغرقت الشام من ذلك صقعة أهلكت الثمار ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
وفيها أوقع الله تعالى الخلف بين التتار من أصحاب أبغا وأصحاب ابن منكوتمر ابن عمه ، وتفرقوا واشتغلوا ببعضهم بعضا ، ولله الحمد .
وفيها خرج أهل حران منها ، وقدموا الشام وكان فيهم شيخنا العلامة أبو العباس أحمد ابن تيمية صحبة أبيه ، وعمره ست سنين ، وأخوه زين الدين عبد الرحمن وشرف الدين عبد الله ، وهما أصغر منه .