قلت : وهذا معنى قوله تعالى : إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا
قال : حدثنا البخاري ، حدثنا عثمان بن أبي شيبة عبدة ، عن ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة عائشة إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار قالت : ذلك يوم الخندق .
[ ص: 35 ] قال ولما نزل موسى بن عقبة الأحزاب حول المدينة أغلق بنو قريظة حصنهم دونهم .
قال ابن إسحاق وخرج حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب عقدهم وعهدهم ، فلما سمع به كعب أغلق باب حصنه دون حيي ، فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له ، فناداه : ويحك يا كعب ! افتح لي . قال : ويحك يا حيي ! محمدا ، فلست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا . قال : ويحك! افتح لي أكلمك . قال : ما أنا بفاعل . قال : والله إن أغلقت دوني إلا خوفا على جشيشتك أن آكل معك منها . فأحفظ الرجل ، ففتح له ، فقال : ويحك يا إنك امرؤ مشئوم ، وإني قد عاهدت كعب ! جئتك بعز الدهر وبحر طام . قال : وما ذاك ؟ قال : جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد قد عاهدوني وعاقدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه . فقال كعب : جئتني والله بذل الدهر ، وبجهام قد هراق ماءه ، يرعد ويبرق ، وليس فيه [ ص: 36 ] شيء ، ويحك يا حيي ! فدعني وما أنا عليه ؛ فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء . وقد تكلم عمرو بن سعد القرظي فأحسن ، فيما ذكره ذكرهم ميثاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده ، ومعاقدتهم إياه على نصره ، وقال : إذا لم تنصروه فاتركوه وعدوه . قال موسى بن عقبة ابن إسحاق فلم يزل حيي بكعب يفتل في الذروة والغارب حتى سمح له - يعني في نقض عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي محاربته معالأحزاب - على أن أعطاه حيي عهد الله وميثاقه : لئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا ؛ أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك . فنقض كعب بن أسد عهده ، وبرئ مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال وأمر موسى بن عقبة كعب بن أسد وبنو قريظة حيي بن أخطب أن يأخذ لهم من قريش وغطفان رهائن تكون عندهم . يعني لئلا ينالهم ضيم إن هم رجعوا ولم يناجزوا محمدا . قالوا : وتكون الرهائن تسعين رجلا من أشرافهم . فنازلهم حيي على ذلك ، فعند ذلك نقضوا العهد ، ومزقوا [ ص: 37 ] الصحيفة التي كان فيها العهد ، إلا بني سعية أسد وأسيد وثعلبة ، فإنهم خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال ابن إسحاق فلما انتهى الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى المسلمين ، ، ، وهو يومئذ سيد سعد بن معاذ الأوس ، ، وهو يومئذ سيد وسعد بن عبادة الخزرج ، ومعهما عبد الله بن رواحة وخوات بن جبير ، قال : " انطلقوا حتى تأتوا هؤلاء القوم فتنظروا أحق ما بلغنا عنهم ، فإن كان حقا فالحنوا لي لحنا أعرفه ، ولا تفتوا في أعضاد المسلمين ، وإن كانوا على الوفاء فاجهروا به للناس " . قال : فخرجوا حتى أتوهم . بعث
قال فدخلوا معهم حصنهم ، فدعوهم إلى الموادعة وتجديد الحلف ، فقالوا : الآن وقد كسر جناحنا وأخرجهم ؟! يريدون موسى بن عقبة بني النضير ، ونالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل سعد بن عبادة يشاتمهم ، فأغضبوه ، فقال له إنا والله ما جئنا لهذا ، ولما بيننا أكبر من المشاتمة . ثم ناداهم سعد بن معاذ فقال : إنكم قد علمتم الذي بيننا وبينكم يا سعد بن معاذ بني قريظة ، وأنا خائف عليكم مثل يوم بني النضير أو أمر منه . فقالوا : أكلت أير أبيك . فقال : غير هذا من القول كان أجمل بكم وأحسن .
[ ص: 38 ] وقال ابن إسحاق : نالوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : من رسول الله ؟ لا عهد بيننا وبين محمد ولا عقد . فشاتمهم وشاتموه ، وكان رجلا فيه حدة ، فقال له سعد بن معاذ سعد بن عبادة : دع عنك مشاتمتهم ، لما بيننا وبينهم أربى من المشاتمة . ثم أقبل السعدان ومن معهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه ، ثم قالوا : عضل والقارة . أي كغدرهم بأصحاب الرجيع ، خبيب وأصحابه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الله أكبر ، أبشروا يا معشر المسلمين " .
قال ، ثم تقنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه حين جاءه الخبر عن موسى بن عقبة بني قريظة ، فاضطجع ومكث طويلا ، فاشتد على الناس البلاء والخوف حين رأوه اضطجع ، وعرفوا أنه لم يأته عن بني قريظة خير ، ثم إنه رفع رأسه فقال : " أبشروا بفتح الله ونصره " . فلما أن أصبحوا ، دنا القوم بعضهم من بعض ، وكان بينهم رمي بالنبل والحجارة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سعيد بن المسيب اللهم إني أسألك عهدك ووعدك اللهم إن تشأ لا تعبد " .
قال ابن إسحاق وعظم عند ذلك البلاء ، واشتد الخوف ، وأتاهم [ ص: 39 ] عدوهم من فوقهم ومن أسفل منهم ، حتى ظن المؤمنون كل ظن ، حتى قال ونجم النفاق ، معتب بن قشير أخو بني عمرو بن عوف : كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط . وحتى قال أوس بن قيظي : يا رسول الله ، إن بيوتنا عورة من العدو - وذلك عن ملأ من رجال قومه - فأذن لنا أن نرجع إلى دارنا ؛ فإنها خارج من المدينة .
قلت : هؤلاء وأمثالهم المرادون بقوله تعالى : وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا ( الأحزاب : 12 - 13 ) .
قال ابن إسحاق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني مرابطا - وأقام المشركون يحاصرونه بضعا وعشرين ليلة ، قريبا من شهر ، ولم يكن بينهم حرب إلا الرميا بالنبل ، فلما اشتد على الناس البلاء ، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم - كما حدثني ، ومن لا أتهم ، عن عاصم بن عمر بن قتادة الزهري - إلى عيينة بن حصن والحارث بن عوف المري ، وهما قائدا غطفان ، المدينة على أن يرجعا بمن معهما عنه وعن أصحابه ، فجرى بينه وبينهم [ ص: 40 ] الصلح ، حتى كتبوا الكتاب ، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصلح إلا المراوضة ، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك ، بعث إلى السعدين ، فذكر لهما ذلك ، واستشارهما فيه ، فقالا : يا رسول الله ، أمرا تحبه فنصنعه ، أم شيئا أمرك الله به ولا بد لنا من العمل به ، أم شيئا تصنعه لنا . فقال : " بل شيء أصنعه لكم ، والله ما أصنع ذلك إلا أني رأيت العرب رمتكم عن قوس واحدة ، وكالبوكم من كل جانب ، فأردت أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما " . فقال له : يا رسول الله ، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان ، لا نعبد الله ولا نعرفه ، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة واحدة إلا قرى أو بيعا ، أفحين أكرمنا الله بالإسلام ، وهدانا له وأعزنا بك وبه ، نعطيهم أموالنا! ما لنا بهذا من حاجة ، والله لا نعطيهم إلا السيف ، حتى يحكم الله بيننا وبينهم . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنت وذاك " . فتناول سعد بن معاذ الصحيفة ، فمحا ما فيها من الكتاب ، ثم قال : ليجهدوا عليها سعد بن معاذ . فأعطاهما ثلث ثمار
قال ابن إسحاق : فأقام النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه محاصرين ، ولم يكن بينهم وبين عدوهم قتال ، إلا أن فوارس من قريش منهم عمرو بن عبد ود بن أبي قيس ، أحد بني عامر بن لؤي ، وعكرمة بن أبي جهل وهبيرة بن أبي وهب المخزوميان ، وضرار بن الخطاب بن مرداس ، أحد بني محارب بن فهر ، تلبسوا للقتال ثم خرجوا على خيلهم ، حتى مروا بمنازل بني كنانة فقالوا : تهيئوا يا بني كنانة للحرب ، فستعلمون من الفرسان اليوم . ثم أقبلوا تعنق بهم [ ص: 41 ] خيلهم ، حتى وقفوا على الخندق ، فلما رأوه قالوا : والله إن هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها . ثم تيمموا مكانا من الخندق ضيقا ، فضربوا خيلهم فاقتحمت منه ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع ، وخرج علي بن أبي طالب في نفر معه من المسلمين ، حتى أخذوا عليه الثغرة التي أقحموا منها خيلهم ، وأقبلت الفرسان تعنق نحوهم ، وكان عمرو بن عبد ود قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة ، فلم يشهد يوم أحد فلما كان يوم الخندق ، خرج معلما ليرى مكانه ، فلما وقف هو وخيله قال : من يبارز ؟ فبرز له علي بن أبي طالب ، رضي الله عنه فقال له : يا عمرو ، إنك كنت عاهدت الله لا يدعوك رجل من قريش إلى إحدى خلتين إلا أخذتها منه . قال : أجل قال له علي : فإني أدعوك إلى الله وإلى رسوله وإلى الإسلام . قال : لا حاجة لي بذلك . قال : فإني أدعوك إلى النزال . قال له : لم يا ابن أخي ، فوالله ما أحب أن أقتلك . قال له علي : لكني والله أحب أن أقتلك . فحمي عمرو عند ذلك ، فاقتحم عن فرسه ، فعقره وضرب وجهه ، ثم أقبل على علي ، فتنازلا وتجاولا ، فقتله علي ، رضي الله عنه وخرجت خيلهم منهزمة ، حتى اقتحمت من الخندق هاربة .
قال ابن إسحاق وقال علي بن أبي طالب في ذلك :
نصر الحجارة من سفاهة رأيه ونصرت رب محمد بصواب [ ص: 42 ] فصددت حين تركته متجدلا
كالجذع بين دكادك وروابي وعففت عن أثوابه ولو انني
كنت المقطر بزني أثوابي لا تحسبن الله خاذل دينه
ونبيه يا معشر الأحزاب
قال ابن هشام : وألقى عكرمة رمحه يومئذ وهو منهزم عن عمرو ، فقال في ذلك حسان بن ثابت
فر وألقى لنا رمحه لعلك عكرم لم تفعل
ووليت تعدو كعدو الظلي م ما أن تحور عن المعدل
ولم تلق ظهرك مستأنسا كأن قفاك قفا فرعل
وذكر في " دلائل النبوة " عن الحافظ البيهقي ابن إسحاق في موضع [ ص: 43 ] آخر غير " السيرة " قال : خرج عمرو بن عبد ود وهو مقنع بالحديد ، فنادى : من يبارز ؟ فقام علي بن أبي طالب فقال : أنا لها يا نبي الله . فقال : عمرو ، اجلس " . ثم نادى " إنه عمرو : ألا رجل يبرز ؟ فجعل يؤنبهم ويقول : أين جنتكم التي تزعمون أنه من قتل منكم دخلها ، أفلا تبرزون إلي رجلا ؟ فقام علي فقال : أنا يا رسول الله ، فقال : " . ثم نادى الثالثة فقال : " اجلس
ولقد بححت من الندا ء بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبن المشج ع موقف القرن المناجز
ولذاك إني لم أزل متسرعا قبل الهزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز
لا تعجلن فقد أتا ك مجيب صوتك غير عاجز
في نية وبصيرة والصدق منجي كل فائز
[ ص: 44 ] إني لأرجو أن أقي م عليك نائحة الجنائز
من ضربة نجلاء يب قى ذكرها عند الهزاهز
أعلي تقتحم الفوارس هكذا عني وعنهم أخروا أصحابي
اليوم تمنعني الفرار حفيظتي ومصمم في الرأس ليس بنابي
عبد الحجارة من سفاهة رأيه وعبدت رب محمد بصواب
وذكر ابن إسحاق فيما حكاه عنه ، أن البيهقي عليا طعنه في ترقوته حتى أخرجها من مراقه ، فمات في الخندق ، وبعث المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف ، فقال : " هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى " .
وقال : حدثنا الإمام أحمد نصر بن باب ، حدثنا حجاج ، عن الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس أنه قال : الخندق رجلا من المشركين ، فأعطوا بجيفته مالا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ادفعوا إليهم جيفته ، فإنه خبيث الجيفة خبيث الدية " . فلم يقبل منهم شيئا . قتل المسلمون يوم
وقد رواه من حديث البيهقي حماد بن سلمة ، عن ، عن حجاج ، هو ابن أرطاة الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس : الأحزاب ، فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابعث إلينا بجسده ونعطيك اثني عشر ألفا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا خير في جسده ولا في ثمنه " . وقد رواه أن رجلا من المشركين قتل يوم الترمذي من حديث ، عن سفيان الثوري ، [ ص: 46 ] عن ابن أبي ليلى الحكم ، عن مقسم ، عن ابن عباس ، وقال : غريب .
وقد ذكر ، أن المشركين إنما بعثوا يطلبون جسد موسى بن عقبة نوفل بن عبد الله المخزومي حين قتل ، وعرضوا عليه الدية فقال : " " . إنه خبيث خبيث الدية ، فلعنه الله ولعن ديته ، فلا أرب لنا في ديته ، ولسنا نمنعكم أن تدفنوه
وذكر ، عن يونس بن بكير ابن إسحاق ، قال : وخرج نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزومي يسأل المبارزة ، فخرج إليه ، فضربه ، فشقه باثنتين ، حتى فل في سيفه فلا ، وانصرف وهو يقول : الزبير بن العوام
إني امرؤ أحمي وأحتمي عن النبي المصطفى الأمي
وقد روى ، من طريق البيهقي حماد بن زيد ، عن ، عن أبيه ، عن هشام بن عروة عبد الله بن الزبير ، قال : جعلت يوم الخندق مع النساء والصبيان في الأطم ، ومعي عمر بن أبي سلمة ، فجعل يطأطئ لي فأصعد على ظهره [ ص: 47 ] ، فأنظر . قال : فنظرت إلى أبي وهو يحمل مرة هاهنا ومرة هاهنا ، فما يرتفع له شيء إلا أتاه ، فلما أمسى جاءنا إلى الأطم ، قلت : يا أبت ، رأيتك اليوم وما تصنع . قال : ورأيتني يا بني ؟ قلت : نعم . قال : فدى لك أبي وأمي .
قال ابن إسحاق وحدثني أبو ليلى عبد الله بن سهل بن عبد الرحمن بن سهل الأنصاري ، أخو بني حارثة ، أن عائشة أم المؤمنين كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق ، وكان من أحرز حصون المدينة . قال : وكانت أم سعد بن معاذ معها في الحصن ، قالت عائشة : وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب . قالت : فمر سعد وعليه درع مقلصة ، قد خرجت منها ذراعه كلها ، وفي يده حربته يرقد بها ويقول :
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
[ ص: 48 ] قال ابن إسحاق : حدثني قال : رماه عاصم بن عمر بن قتادة حبان بن قيس بن العرقة ، أحد بني عامر بن لؤي ، فلما أصابه قال : خذها مني وأنا ابن العرقة . فقال له سعد : عرق الله وجهك في النار ، اللهم إن كنت أبقيت من حرب قريش شيئا فأبقني لها ، فإنه لا قوم أحب إلي أن أجاهد من قوم آذوا رسولك وكذبوه وأخرجوه ، اللهم وإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعلها لي شهادة ، ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة .
قال ابن إسحاق : وحدثني من لا أتهم ، عن عبد الله بن كعب بن مالك أنه كان يقول : ما أصاب سعدا يومئذ إلا أبو أسامة الجشمي ، حليف بني مخزوم . وقد قال أبو أسامة في ذلك شعرا ، قاله : لعكرمة بن أبي جهل
أعكرم هلا لمتني إذ تقول لي فداك بآطام المدينة خالد
ألست الذي ألزمت سعدا مرشة لها بين أثناء المرافق عاند
قضى نحبه منها سعيد فأعولت عليه مع الشمط العذارى النواهد
وأنت الذي دافعت عنه وقد دعا عبيدة جمعا منهم إذ يكابد
[ ص: 49 ] على حين ما هم جائر عن طريقه
وآخر مرعوب عن القصد قاصد
قلت : وقد استجاب الله دعوة وليه في سعد بن معاذ بني قريظة ، أقر الله عينه ؛ فحكم فيهم بقدرته وتيسيره ، وجعلهم هم الذين يطلبون ذلك ، كما سيأتي بيانه ، فحكم بقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم حتى قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة .
قال ابن إسحاق : وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه عباد ، قال : صفية بنت عبد المطلب في فارع حصن حسان بن ثابت ، قالت : وكان كانت حسان معنا فيه مع النساء والصبيان . قالت صفية : فمر بنا رجل من يهود ، فجعل يطيف بالحصن ، وقد حاربت بنو قريظة ، وقطعت ما بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس بيننا وبينهم أحد يدفع عنا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في نحور عدوهم ، لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا إن [ ص: 50 ] أتانا آت ، فقلت : يا حسان ، إن هذا اليهودي كما ترى يطيف بالحصن ، وإني والله ما آمنه أن يدل على عورتنا من وراءنا من يهود ، وقد شغل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فانزل إليه فاقتله . قال : يغفر الله لك يا ابنة عبد المطلب ، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا . قالت : فلما قال لي ذلك ولم أر عنده شيئا ، احتجزت ثم أخذت عمودا ، ثم نزلت من الحصن إليه ، فضربته بالعمود حتى قتلته فلما فرغت منه ، رجعت إلى الحصن ، فقلت : يا حسان ، انزل فاسلبه ، فإنه لم يمنعني من سلبه إلا أنه رجل . قال : ما لي بسلبه حاجة يا ابنة عبد المطلب .
حكى السهيلي عن بعضهم أنه قال : كان حسان جبانا شديد الجبن .
قال : وأنكر آخرون ذلك ، وطعنوا في الخبر ، فقالوا : هو منقطع قالوا : وقد كان يهاجي المشركين من الشعراء ؛ كابن الزبعرى ، وضرار بن الخطاب ، وغيرهما ، فلم يعيره واحد منهم بالجبن قال : وممن أنكر ذلك قالوا : وبتقدير صحة الخبر ، لعله كان منقطعا في الآطام لعلة عارضة ، ومال إلى هذا الشيخ أبو عمر النمري السهيلي والله أعلم قال وأحاط المشركون بالمسلمين حتى جعلوهم في مثل [ ص: 51 ] الحصن بين كتائبهم ، فحاصروهم قريبا من عشرين ليلة ، وأخذوا بكل ناحية ، حتى لا يدري الرجل أتم صلاته أم لا . قال : ووجهوا نحو منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم كتيبة غليظة ، فقاتلوهم يوما إلى الليل ، فلما حانت صلاة العصر ، دنت الكتيبة ، فلم يقدر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه الذين كانوا معه أن يصلوا الصلاة على نحو ما أرادوا ، فانكفأت الكتيبة مع الليل ، فزعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " موسى بن عقبة . فلما اشتد البلاء ، نافق ناس كثير ، وتكلموا بكلام قبيح ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بالناس من البلاء والكرب ، جعل يبشرهم ويقول : " شغلونا عن صلاة العصر ، ملأ الله بطونهم وقلوبهم - وفي رواية : وقبورهم - نارا " والذي نفسي بيده ليفرجن عنكم ما ترون من الشدة ، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنا ، وأن يدفع الله إلي مفاتيح الكعبة ، وليهلكن الله كسرى وقيصر ، ولتنفقن كنوزهما في سبيل الله "
وقد قال : حدثنا البخاري إسحاق ، حدثنا روح ، حدثنا هشام ، عن محمد ، عن عبيدة ، عن علي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الخندق : " ملأ الله عليهم بيوتهم وقبورهم نارا ؛ كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس وهكذا رواه بقية الجماعة إلا ابن ماجه من طرق ، عن هشام بن [ ص: 52 ] حسان ، عن ، عن محمد بن سيرين عبيدة ، عن علي ، به . ورواه مسلم من طريق والترمذي ، عن سعيد بن أبي عروبة قتادة ، عن أبي حسان الأعرج ، عن عبيدة ، عن علي ، به . وقال الترمذي : حسن صحيح .
ثم قال : حدثنا البخاري المكي بن إبراهيم ، حدثنا هشام ، عن يحيى ، عن أبي سلمة ، عن ، جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب جاء يوم الخندق بعدما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ، وقال : يا رسول الله ، ما كدت أن أصلي حتى كادت الشمس أن تغرب . قال النبي صلى الله عليه وسلم : " والله ما صليتها " . فنزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بطحان ، فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب . وقد رواه أيضا البخاري ومسلم والترمذي ، من طرق ، عن والنسائي ، عن يحيى بن أبي كثير أبي سلمة ، به .
وقال : حدثنا الإمام أحمد عبد الصمد ، حدثنا ثابت ، حدثنا هلال ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : قاتل النبي صلى الله عليه وسلم عدوا ، فلم يفرغ منهم حتى أخر العصر عن وقتها ، فلما رأى ذلك ، قال : " اللهم من حبسنا عن الصلاة الوسطى ، فاملأ بيوتهم نارا واملأ قبورهم نارا " . ونحو ذلك . تفرد به [ ص: 53 ] أحمد ، وهو من رواية هلال بن خباب العبدي الكوفي ، وهو ثقة ، يصحح له الترمذي وغيره .
وقد استدل طائفة من العلماء بهذه الأحاديث على كون كما هو منصوص عليه في هذه الأحاديث . وألزم القاضي الماوردي مذهب الصلاة الوسطى هي صلاة العصر ، بهذا ؛ لصحة الحديث ، وقد حررنا ذلك نقلا واستدلالا عند قوله تعالى : الشافعي حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين ( البقرة : 238 ) . وقد استدل طائفة بهذا الصنيع على كما هو مذهب جواز تأخير الصلاة لعذر القتال ، مكحول ، وقد بوب والأوزاعي على ذلك ، واستدل بهذا الحديث ، وبقوله صلى الله عليه وسلم يوم أمرهم بالذهاب إلى البخاري بني قريظة ، كما سيأتي : بني قريظة " . وكان من الناس من صلى العصر في الطريق ، ومنهم من لم يصل إلا في " لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة بعد الغروب ، ولم يعنف واحدا من الفريقين ، واستدل بما ذكره عن الصحابة ومن معهم في حصار تستر سنة عشرين في زمن عمر ، حيث صلوا الصبح بعد طلوع الشمس ؛ لعذر القتال واقتراب فتح الحصن .
وقال آخرون من العلماء ، وهم الجمهور ، منهم : هذا الصنيع يوم الشافعي الخندق منسوخ بشرعية صلاة الخوف بعد ذلك ، فإنها لم تكن مشروعة إذ [ ص: 54 ] ذاك ، فلهذا أخروها يومئذ . وهو مشكل ، فإن ابن إسحاق وجماعة ذهبوا إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بعسفان ، وقد ذكرها ابن إسحاق ، - وهو إمام في المغازي - قبل الخندق ، وكذلك ذات الرقاع ذكرها قبل الخندق . فالله أعلم .
وأما الذين قالوا : إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسيانا . كما حكاه شراح مسلم عن بعض الناس ، فهو مشكل إذ يبعد أن يقع هذا من جمع كبير ، مع شدة حرصهم على المحافظة على الصلاة ، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء .
قال : حدثنا الإمام أحمد يزيد وحجاج قالا : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن المقبري ، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري ، عن أبيه قال : حبسنا يوم الخندق حتى ذهب هوي من الليل حتى كفينا وذلك قوله : ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا ) ( الأحزاب : 25 ) . قال : بلالا فأمره فأقام ، فصلى الظهر كما كان يصليها في وقتها ، ثم أقام العصر فصلاها كذلك ، ثم أقام المغرب فصلاها كذلك ، ثم أقام العشاء فصلاها كذلك ، وذلك قبل أن [ ص: 55 ] ينزل - قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حجاج : في صلاة الخوف - : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ( البقرة : 239 ) .
وقد رواه ، عن النسائي الفلاس ، عن ، عن يحيى القطان ابن أبي ذئب به : قال : شغلنا المشركون يوم الخندق عن صلاة الظهر حتى غربت الشمس . فذكره .
وقال أحمد : حدثنا هشيم ، حدثنا أبو الزبير ، عن ، عن نافع بن جبير ، عن أبيه أن المشركين شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود الخندق عن أربع صلوات ، حتى ذهب من الليل ما شاء الله . قال : بلالا فأذن ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، ثم أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء . فأمر
وقال : حدثنا الحافظ أبو بكر البزار محمد بن معمر ، حدثنا ، حدثنا مؤمل ، يعني ابن إسماعيل ، عن حماد ، يعني ابن سلمة ، عن عبد الكريم ، يعني ابن أبي المخارق مجاهد ، عن : جابر بن عبد الله الخندق عن صلاة الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، فأمر بلالا فأذن وأقام فصلى الظهر ، ثم أمره فأذن وأقام فصلى العصر ، ثم أمره فأذن وأقام ، فصلى [ ص: 56 ] المغرب ، ثم أمره فأذن وأقام ، فصلى العشاء ، ثم قال : " ما على وجه الأرض قوم يذكرون الله في هذه الساعة غيركم " . تفرد به أن النبي صلى الله عليه وسلم شغل يوم البزار ، وقال لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقد رواه بعضهم عن عبد الكريم ، عن مجاهد ، عن أبي عبيدة ، عن عبد الله .