[ ص: 431 ] باب بيان الموضع الذي أهل منه عليه الصلاة والسلام  ، واختلاف الناقلين لذلك ، وترجيح الحق في ذلك 
ذكر من قال أنه أحرم من المسجد الذي بذي الحليفة  بعد الصلاة 
تقدم الحديث الذي رواه  البخاري  من حديث الأوزاعي  ، عن  يحيى بن أبي كثير  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  ، عن عمر    : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي العقيق  يقول : " أتاني آت من ربي فقال : صل في هذا الوادي المبارك وقل : عمرة في حجة " . 
وقال  البخاري    : باب الإهلال عند مسجد ذي الحليفة ،  حدثنا علي بن عبد الله  ، ثنا سفيان  ، ثنا  موسى بن عقبة  ، سمعت  سالم بن عبد الله  ، سمعت بن عمر  ، رضي الله عنهما . وحدثنا عبد الله بن مسلمة  ، ثنا مالك  ، عن  موسى بن عقبة  ، عن  سالم بن عبد الله  أنه سمع أباه يقول : ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد . يعني مسجد ذي الحليفة    . وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه  من طرق ، عن  موسى بن عقبة  وفي رواية لمسلم  ، عن موسى بن   [ ص: 432 ] عقبة  ، عن سالم  ونافع  وحمزة بن عبد الله بن عمر  ، ثلاثتهم عن عبد الله بن عمر  فذكره ، وزاد : فقال : " لبيك اللهم لبيك " . وفي رواية لهما من طريق مالك  عن  موسى بن عقبة  عن سالم  قال : قال عبد الله بن عمر    : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، ما أهل رسول الله إلا من عند المسجد . 
وقد روي عن ابن عمر  خلاف هذا كما يأتي في الشق الآخر ، وهو ما أخرجاه في " الصحيحين " من طريق مالك  ، عن سعيد المقبري  ، عن عبيد بن جريج  ، عن ابن عمر  ، فذكر حديثا فيه أن عبد الله  قال : وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته . 
وقال الإمام أحمد    : حدثنا يعقوب  ، حدثنا أبي ، عن ابن إسحاق  حدثني  خصيف بن عبد الرحمن الجزري  ، عن سعيد بن جبير  قال : قلت  لعبد الله بن عباس    : يا أبا العباس  ، عجبا لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب! فقال : إني لأعلم الناس بذلك ، إنما كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة واحدة ، فمن هناك اختلفوا ; خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا ، فلما صلى في مسجده بذي الحليفة  ركعتيه أوجب في مجلسه ، فأهل بالحج حين فرغ من ركعتيه . فسمع ذلك منه أقوام ، فحفظوا عنه ، ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام ، وذلك أن الناس إنما كانوا يأتون أرسالا ، فسمعوه   [ ص: 433 ] حين استقلت به ناقته يهل ، فقالوا : إنما أهل رسول الله حين استقلت به ناقته . ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا شرف البيداء أهل ، وأدرك ذلك منه أقوام ، فقالوا : إنما أهل رسول الله حين علا شرف البيداء . وايم الله لقد أوجب في مصلاه ، وأهل حين استقلت به ناقته ، وأهل حين علا شرف البيداء . فمن أخذ بقول  عبد الله بن عباس  أهل في مصلاه إذا فرغ من ركعتيه . وقد رواه الترمذي   والنسائي  جميعا ، عن قتيبة  ، عن عبد السلام بن حرب  ، عن خصيف  به نحوه ، وقال الترمذي    : حسن غريب لا نعرف أحدا رواه غير عبد السلام    . كذا قال ، وقد تقدم رواية  الإمام أحمد  له من طريق محمد بن إسحاق  عنه ، وكذلك رواه الحافظ  البيهقي  ، عن  الحاكم  ، عن القطيعي  ، عن عبد الله بن أحمد  ، عن أبيه ، ثم قال : خصيف الجزري  غير قوي ، وقد رواه الواقدي  بإسناد له عن ابن عباس    . قال  البيهقي    : إلا أنه لا ينفع متابعة الواقدي  ، والأحاديث التي وردت في ذلك عن ابن عمر  وغيره أسانيدها قوية ثابتة ، والله تعالى أعلم . 
قلت : فلو صح هذا الحديث لكان فيه جمع لما بين الأحاديث من الاختلاف ، وبسط العذر لمن نقل خلاف الواقع ، ولكن في إسناده ضعف ، ثم قد روي عن ابن عباس   وابن عمر  خلاف ما تقدم عنهما ، كما سننبه عليه ونبينه ، وهكذا ذكر من قال أنه ، عليه الصلاة والسلام ، أهل حين استوت به راحلته . 
 [ ص: 434 ] قال  البخاري    : حدثنا عبد الله بن محمد  ، ثنا هشام بن يوسف  ، أنبأنا  ابن جريج  حدثني محمد بن المنكدر  ، عن أنس بن مالك  قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة أربعا ، وبذي الحليفة  ركعتين ، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة  ، فلما ركب راحلته واستوت به أهل وقد رواه  البخاري  ، ومسلم  ، وأهل السنن ، من طرق ، عن محمد بن المنكدر  وإبراهيم بن ميسرة  ، عن أنس    . 
وثابت في " الصحيحين " من حديث مالك  ، عن سعيد المقبري  ، عن عبيد بن جريج  ، عن ابن عمر  قال : وأما الإهلال فإني لم أر رسول الله يهل حتى تنبعث به راحلته   . 
وأخرجاه في " الصحيحين " من رواية ابن وهب  ، عن يونس  ، عن الزهري  ، عن سالم  ، عن أبيه أن رسول الله كان يركب راحلته بذي الحليفة  ، ثم يهل حين تستوي به قائمة 
وقال  البخاري    : باب من أهل حين استوت به راحلته ، حدثنا أبو عاصم  ، ثنا  ابن جريج  أخبرني صالح بن كيسان  عن نافع ، عن ابن عمر  ، رضي الله عنهما ، قال : أهل النبي صلى الله عليه وسلم حين استوت به راحلته قائمة    . وقد رواه مسلم  ،  والنسائي  ، من حديث  ابن جريج  به . 
 [ ص: 435 ] وقال مسلم    : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة  ، ثنا علي بن مسهر  ، عن عبيد الله  ، عن نافع  ، عن ابن عمر  قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وضع رجله في الغرز وانبعثت به راحلته قائمة أهل من ذي الحليفة    . انفرد به مسلم  من هذا الوجه ، وأخرجاه من وجه آخر ، عن عبيد الله بن عمر  ، عن نافع  عنه . 
ثم قال  البخاري    : باب الإهلال مستقبل القبلة ، قال أبو معمر    : حدثنا عبد الوارث  ، حدثنا أيوب  ، عن نافع  قال : كان ابن عمر  إذا صلى الغداة بذي الحليفة  أمر براحلته فرحلت ، ثم ركب ، فإذا استوت به استقبل القبلة قائما ، ثم يلبي حتى يبلغ الحرم ،  ثم يمسك ، حتى إذا جاء ذا طوى بات به حتى يصبح ، فإذا صلى الغداة اغتسل ، وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك . ثم قال : تابعه إسماعيل  ، عن أيوب  في الغسل . وقد علق  البخاري  أيضا هذا الحديث في كتاب الحج عن محمد بن عيسى  ، عن حماد بن زيد    . وأسنده فيه عن  يعقوب بن إبراهيم الدورقي  ، عن إسماعيل هو ابن علية    . ورواه مسلم  ، عن  زهير بن حرب  ، عن إسماعيل  ، وعن أبي الربيع الزهراني  وغيره ، عن حماد بن زيد  ، ثلاثتهم عن  أيوب بن أبي تميمة السختياني  به . ورواه أبو داود  ، عن أحمد بن   [ ص: 436 ] حنبل  ، عن إسماعيل بن علية  به . 
ثم قال  البخاري    : حدثنا سليمان أبو الربيع  ، ثنا فليح  ، عن نافع  قال : كان ابن عمر  ، رضي الله عنهما ، إذا أراد الخروج إلى مكة  ادهن بدهن ليس له رائحة طيبة ، ثم يأتي مسجد ذي الحليفة  فيصلي ، ثم يركب فإذا استوت به راحلته قائمة أحرم ، ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل . تفرد به  البخاري  من هذا الوجه . 
وروى مسلم  ، عن قتيبة  ، عن حاتم بن إسماعيل  ، عن  موسى بن عقبة  عن سالم  ، عن أبيه قال : بيداؤكم هذه التي تكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، والله ما أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا من عند المسجد حين قام به بعيره . وهذا الحديث يجمع بين رواية ابن عمر  الأولى وهذه الروايات عنه ، وهو أن الإحرام كان من عند المسجد ، ولكن بعدما ركب راحلته واستوت به على البيداء - يعني الأرض - وذلك قبل أن يصل إلى المكان المعروف بالبيداء    . 
ثم قال  البخاري  في موضع آخر : حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي  ، ثنا فضيل بن سليمان  ، ثنا  موسى بن عقبة  ، حدثني كريب  ، عن  عبد الله بن عباس  ،   [ ص: 437 ] رضي الله عنهما ، قال : انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة  بعدما ترجل وادهن ولبس إزاره ورداءه ، هو وأصحابه ، فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس إلا المزعفرة التي تردع على الجلد ، فأصبح بذي الحليفة  ركب راحلته ، حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه ، وقلد بدنه ، وذلك لخمس بقين من ذي القعدة ، فقدم مكة  لأربع ليال خلون من ذي الحجة ، فطاف بالبيت ، وسعى بين الصفا  والمروة  ، ولم يحل من أجل بدنه ; لأنه قلدها ، ثم نزل بأعلى مكة  عند الحجون  وهو مهل بالحج ، ولم يقرب الكعبة  بعد طوافه بها حتى رجع من عرفة  ، وأمر أصحابه أن يطوفوا بالبيت وبين الصفا  والمروة  ، ثم يقصروا من رءوسهم ، ثم يحلوا ، وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها ، ومن كانت معه امرأته فهي له حلال ، والطيب والثياب انفرد به  البخاري    . 
وقد روى الإمام أحمد  ، عن بهز بن أسد  وحجاج  ،  وروح بن عبادة  ،  وعفان بن مسلم  ، كلهم عن شعبة  قال : أخبرني قتادة  قال : سمعت أبا حسان الأعرج الأجرد وهو مسلم بن عبد الله البصري  ، عن ابن عباس  قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر بذي الحليفة  ، ثم دعا ببدنته فأشعر صفحة سنامها الأيمن ، وسلت الدم عنها ، وقلدها نعلين ، ثم دعا براحلته ، فلما استوت به على البيداء أهل بالحج . ورواه أيضا ، عن هشيم  ، أنبأنا أصحابنا ، منهم شعبة  ، فذكر نحوه . ثم رواه الإمام أحمد  أيضا عن روح  ،  وأبي داود الطيالسي  ، ووكيع   [ ص: 438 ] بن الجراح  ، كلهم عن  هشام الدستوائي  ، عن قتادة  به نحوه . ومن هذا الوجه رواه مسلم  في " صحيحه " وأهل السنن في كتبهم . 
فهذه الطرق عن ابن عباس  من أنه ، ( عليه الصلاة والسلام ، أهل حين استوت به راحلته أصح وأثبت من رواية خصيف الجزري  عن سعيد بن جبير  عنه . والله أعلم . وهكذا الرواية المثبتة المفسرة أنه أهل حين استوت به الراحلة مقدمة على الأخرى ، لاحتمال أنه أحرم من عند المسجد حين استوت به راحلته ، ويكون رواية ركوبه الراحلة فيها زيادة علم على الأخرى . والله أعلم . 
ورواية أنس  في ذلك سالمة عن المعارض ، وهكذا رواية  جابر بن عبد الله  في " صحيح مسلم    " من طريق جعفر الصادق  ، عن أبيه محمد بن علي  ، عن أبي الحسين زين العابدين  ، عن جابر  في حديثه الطويل الذي سيأتي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل حين استوت به راحلته . سالمة عن المعارض . والله أعلم . 
وروى  البخاري  من طريق الأوزاعي  ، سمعت عطاء  ، عن  جابر بن عبد الله  ، أن إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت به راحلته . 
 [ ص: 439 ] فأما الحديث الذي رواه محمد بن إسحاق بن يسار  ، عن  أبي الزناد  ، عن عائشة بنت سعد  قالت : قال سعد    : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ طريق الفرع أهل إذا استقلت به راحلته ، وإذا أخذ طريق أحد أهل إذا علا على شرف البيداء . فرواه أبو داود   والبيهقي  ، من حديث ابن إسحاق  ، وفيه غرابة ونكارة . والله أعلم . فهذه الطرق كلها دالة - على القطع أو الظن الغالب - أنه ، عليه الصلاة والسلام ، أحرم بعد الصلاة وبعدما ركب راحلته وابتدأت به السير . زاد ابن عمر  في روايته : وهو مستقبل القبلة . 
				
						
						
