[ ص: 94 ] فصل
ومن تأمل ما ذكرناه ظهر له والأنصار - على تقديم أبي بكر ، وظهر برهان قوله عليه الصلاة والسلام : إجماع الصحابة - المهاجرين منهم أبا بكر " . وظهر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينص على الخلافة عينا لأحد من الناس ، لا " يأبى الله والمؤمنون إلا لأبي بكر كما قد زعمه طائفة من أهل السنة ، ولا لعلي كما يقوله طائفة الرافضة ، ولكن أشار إشارة قوية يفهمها كل ذي لب وعقل إلى الصديق ، كما قدمنا وكما سنذكره . ولله الحمد .
كما ثبت في " الصحيحين " من حديث عن أبيه عن هشام بن عروة ، ابن عمر أن عمر بن الخطاب لما طعن قيل له : ألا تستخلف يا أمير المؤمنين ؟ فقال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني - يعني أبا بكر - وإن أترك فقد ترك من هو خير مني . يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن عمر : فعرفت حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غير مستخلف .
وقال عن سفيان الثوري الأسود بن قيس عن عمرو بن سفيان قال : لما ظهر علي على الناس يوم الجمل قال : أيها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 95 ] لم يعهد إلينا في هذه الإمارة شيئا ، حتى رأينا من الرأي أن نستخلف أبا بكر ، فأقام واستقام حتى مضى لسبيله ، ثم إن أبا بكر رأى من الرأي أن يستخلف عمر فأقام واستقام حتى مضى لسبيله . أو قال : حتى ضرب الدين بجرانه إلى آخره .
وقال : ثنا الإمام أحمد أبو نعيم ثنا شريك عن الأسود بن قيس عن عمرو بن سفيان قال : خطب رجل يوم البصرة حين ظهر علي ، فقال علي : هذا الخطيب الشحشح ! سبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصلى أبو بكر ، وثلث عمر ، ثم خبطتنا فتنة بعدهم يصنع الله فيها ما يشاء .
وقال الحافظ : أنبأنا البيهقي أبو عبد الله الحافظ أنبأنا أبو بكر محمد بن أحمد المزكي بمرو ثنا عبد الله بن روح المدائني ، ثنا شبابة بن سوار ثنا شعيب بن ميمون عن حصين بن عبد الرحمن عن الشعبي ، عن أبي وائل قال : قيل لعلي بن أبي طالب : ألا تستخلف علينا ؟ فقال : ما استخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستخلف ، ولكن إن يرد الله بالناس خيرا فسيجمعهم بعدي على خيرهم ، كما جمعهم بعد نبيهم على خيرهم . إسناد جيد ولم يخرجوه . وقد [ ص: 96 ] قدمنا ما ذكره من حديث البخاري الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن ابن عباس أن عباسا وعليا رضي الله عنهما ، لما خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رجل : كيف أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال علي : أصبح بحمد الله بارئا . فقال العباس : إنك والله بعد ثلاث عبد العصا ، إني لأعرف في وجوه بني هاشم الموت ، وإني لأرى في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت ، فاذهب بنا إليه فنسأله فيمن هذا الأمر ، فإن كان فينا عرفناه ، وإن كان في غيرنا أمرناه فوصاه بنا . فقال علي إني لا أسأله ذلك ، والله إن منعناها لا يعطيناها الناس بعده أبدا .
وقد رواه محمد بن إسحاق عن الزهري به ، فذكره . وقال في آخره : فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الضحى من ذلك اليوم .
قلت : فهذا يكون في يوم الاثنين يوم الوفاة . فدل على أنه ، عليه الصلاة والسلام ، . وفي " الصحيحين " عن توفي عن غير وصية في الإمارة ابن عباس : إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب ذلك الكتاب . وقد قدمنا أنه ، عليه الصلاة والسلام ، كان طلب أن يكتب لهم كتابا لن يضلوا بعده ، فلما أكثروا اللغط والاختلاف عنده قال " قوموا [ ص: 97 ] عني فما أنا فيه خير مما تدعونني إليه " وقد قدمنا أنه قال بعد ذلك أبا بكر " . " يأبى الله والمؤمنون إلا
وفي " الصحيحين " من حديث عبد الله بن عون ، عن عن إبراهيم النخعي الأسود قال : قيل : إنهم يقولون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إلى لعائشة علي . فقالت : بم أوصى إلى علي ؟ ! لقد دعا بطست ليبول فيها وأنا مسندته إلى صدري ، فانخنث ، فمات وما شعرت ; فيم يقول هؤلاء إنه أوصى إلى علي ؟ ! .
وفي " الصحيحين " من حديث عن مالك بن مغول ، طلحة بن مصرف قال : سألت عبد الله بن أبي أوفى : هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : لا . قلت : فلم أمرنا بالوصية ؟ قال : أوصى بكتاب الله ، عز وجل . قال طلحة بن مصرف : وقال هزيل بن شرحبيل : أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! [ ص: 98 ] ود أبو بكر أنه وجد عهدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخزم أنفه بخزامة .
وفي " الصحيحين " أيضا من حديث الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : خطبنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فقال من زعم أن عندنا شيئا نقرؤه ليس كتاب الله وهذه الصحيفة - لصحيفة معلقة في سيفه فيها أسنان الإبل وأشياء من الجراحات - فقد كذب . وفيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المدينة حرم ما بين عير إلى ثور ، من أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا ، وذمة المسلمين واحدة ، يسعى بها أدناهم ، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا " .
وهذا الحديث الثابت في " الصحيحين " وغيرهما ، عن علي ، رضي الله ، عنه يرد على فرقة الرافضة في زعمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى إليه بالخلافة ، ولو كان الأمر كما زعموا لما رد ذلك أحد من الصحابة ، فإنهم كانوا أطوع لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد وفاته من أن يفتاتوا عليه ، فيقدموا غير من [ ص: 99 ] قدمه ، ويؤخروا من قدمه بنصه ، حاشا وكلا ولما ، ومن ظن بالصحابة ، رضوان الله عليهم ذلك فقد نسبهم بأجمعهم إلى الفجور والتواطئ على معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم ومضادتهم في حكمه ونصه ، ومن وصل من الناس إلى هذا المقام فقد خلع ربقة الإسلام ، وكفر بإجماع الأئمة الأعلام ، وكان إراقة دمه أحل من إراقة المدام . ثم لو كان مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، نص فلم لا كان يحتج به على الصحابة على إثبات إمارته عليهم وإمامته لهم ؟ فإن لم يقدر على تنفيذ ما معه من النص فهو عاجز ، والعاجز لا يصلح للإمارة ، وإن كان يقدر ولم يفعله فهو خائن ، والخائن الفاسق مسلوب معزول عن الإمارة ، وإن لم يعلم بوجود النص فهو جاهل ، ثم وقد عرفه وعلمه من بعده فهذا محال وافتراء وجهل وضلال ، وإنما يحسن هذا في أذهان الجهلة الطغام والمغترين من الأنام ، يزينه لهم الشيطان بلا دليل ولا برهان ، بل بمجرد التحكم والهذيان والإفك والبهتان عياذا بالله مما هم فيه من التخليط والخذلان والتخبيط والكفران ، وملاذا بالله بالتمسك بالسنة والقرآن ، والوفاة على الإسلام والإيمان ، والموافاة على الثبات والإيقان وتثقيل الميزان ، والنجاة من النيران والفوز بالجنان ، إنه كريم منان رحيم رحمن .
وفي هذا الحديث الثابت في " الصحيحين " عن علي الذي قدمناه رد على متقولة كثير من الطرقية والقصاص الجهلة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى إلى علي بأشياء كثيرة يسوقونها مطولة : يا علي افعل كذا ، يا علي لا تفعل كذا ، يا علي ، من فعل كذا كان كذا وكذا . بألفاظ ركيكة ، ومعاني أكثرها سخيفة ، [ ص: 100 ] وكثير منها ضعيفة لا تساوي تسويد الصحيفة . والله أعلم .
وقد أورد الحافظ من طريق البيهقي حماد بن عمرو النصيبي - وهو أحد الكذابين الوضاعين - عن السري بن خلاد ، عن عن أبيه ، عن جده ، عن جعفر بن محمد ، علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " يا علي أوصيك بوصية فاحفظها فإنك لا تزال بخير ما حفظتها ; يا علي إن للمؤمن ثلاث علامات ; الصلاة والصيام والزكاة " قال : فذكر حديثا طويلا في الرغائب والآداب وهو حديث موضوع ، وقد شرطت في أول الكتاب أن لا أخرج فيه حديثا أعلمه موضوعا . ثم روى من طريق البيهقي حماد بن عمرو هذا ، عن زيد بن رفيع ، عن قال : هذا ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مكحول الشامي لعلي بن أبي طالب حين رجع من غزوة حنين ، وأنزلت عليه سورة النصر . قال فذكر حديثا طويلا في الفتنة ، وهو أيضا حديث منكر ليس له أصل ، وفي الأحاديث الصحيحة كفاية . وبالله التوفيق . البيهقي :
ولنذكر هاهنا ترجمة حماد بن عمرو أبي إسماعيل النصيبي ; روى عن الأعمش وغيره وعنه إبراهيم بن موسى ، ومحمد بن مهران ، وموسى بن أيوب وغيرهم . قال : هو ممن يكذب ويضع الحديث . وقال يحيى بن معين عمرو بن علي الفلاس وأبو حاتم : منكر الحديث ، ضعيف جدا . وقال إبراهيم بن [ ص: 101 ] يعقوب الجوزجاني : كان يكذب . وقال : منكر الحديث . وقال البخاري أبو زرعة : واهي الحديث . وقال : متروك . وقال النسائي : يضع الحديث وضعا . وقال ابن حبان : عامة حديثه مما لا يتابعه أحد من الثقات عليه . وقال ابن عدي : ضعيف . وقال الدارقطني : يروي عن الثقات أحاديث موضوعة . وهو ساقط الحاكم أبو عبد الله بمرة .
فأما الحديث الذي قال الحافظ : أخبرنا البيهقي أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ ، أنبأنا حمزة بن العباس العقبي ببغداد ، ثنا عبد الله بن روح المدائني ، ثنا سلام بن سليمان المدائني ، ثنا سلام بن سليم الطويل ، عن عبد الملك بن عبد الرحمن ، عن الحسن العرني ، عن الأشعث بن طليق ، عن عن مرة بن شراحيل ، قال : عبد الله بن مسعود عائشة ، فنظر إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدمعت عيناه ، ثم قال لنا : " قد دنا الفراق " . ونعى إلينا نفسه ثم قال : " مرحبا بكم ، حياكم الله ، هداكم الله ، نصركم الله ، نفعكم الله ، وفقكم الله ، سددكم الله ، وقاكم الله ، أعانكم الله ، قبلكم الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأوصي الله بكم ، وأستخلفه عليكم ، إني لكم منه [ ص: 102 ] نذير مبين ، أن لا تعلوا على الله في عباده وبلاده ; فإن الله تعالى قال لي ولكم : " تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين " [ القصص : 83 ] وقال : " أليس في جهنم مثوى للمتكبرين " [ الزمر : 60 ] قلنا : فمتى أجلك يا رسول الله ؟ قال قد دنا الأجل ، والمنقلب إلى الله ، والسدرة المنتهى ، والكأس الأوفى ، والفرش الأعلى . قلنا : فمن يغسلك يا رسول الله ؟ قال : رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى ، مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم . قلنا : ففيم نكفنك يا رسول الله ؟ قال في ثيابي هذه إن شئتم ، أو في يمنية ، أو في بياض مصر . قلنا : فمن يصلي عليك يا رسول الله ؟ فبكى وبكينا . وقال : مهلا ، غفر الله لكم ، وجزاكم عن نبيكم خيرا ، إذا غسلتموني وحنطتموني وكفنتموني ، فضعوني على شفير قبري ، ثم اخرجوا عني ساعة ، فإن أول من يصلي علي خليلاي وجليساي ; جبريل وميكائيل ، ثم إسرافيل ، ثم ملك الموت مع جنود من الملائكة ، عليهم السلام ، وليبدأ بالصلاة علي رجال أهل بيتي ، ثم نساؤهم ، ثم ادخلوا علي أفواجا وفرادى ، ولا تؤذوني بباكية ولا برنة ولا بصيحة ، ومن كان غائبا من أصحابي فأبلغوه عني السلام ، وأشهدكم بأني قد سلمت على من دخل في الإسلام ومن تابعني في ديني هذا ، منذ اليوم إلى يوم القيامة قلنا : فمن يدخلك قبرك يا رسول الله ؟ قال رجال أهل بيتي الأدنى فالأدنى مع ملائكة كثيرة يرونكم من حيث لا ترونهم " ثم قال لما ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعنا في بيت : تابعه البيهقي عن أحمد بن يونس سلام الطويل وتفرد به سلام الطويل .
[ ص: 103 ] قلت : وهو سلام بن سلم . ويقال : ابن سليم . ويقال ابن سليمان . والأول أصح ، التميمي السعدي الطويل . يروى عن جعفر الصادق ، وحميد الطويل ، وزيد العمي وجماعة ، وعنه جماعة أيضا منهم ; أحمد بن عبد الله بن يونس ، وأسد بن موسى ، وخلف بن هشام البزار ، وعلي بن الجعد ، . وقد ضعفه وقبيصة بن عقبة علي بن المديني ، وأحمد بن حنبل ، ويحيى بن معين ، والبخاري ، وأبو حاتم ، وأبو زرعة ، والجوزجاني ، وغير واحد ، وكذبه بعض الأئمة ، وتركه آخرون . والنسائي ،
لكن روى هذا الحديث بهذا السياق بطوله الحافظ من غير طريق أبو بكر البزار سلام هذا ، فقال : حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، ثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي ، عن ابن الأصبهاني ، أنه أخبره عن مرة ، عن عبد الله ، فذكر الحديث بطوله . ثم قال البزار : وقد روى هذا عن مرة من غير وجه بأسانيد متقاربة وعبد الرحمن بن الأصبهاني لم يسمع هذا من مرة ، وإنما هو عمن أخبره عن مرة ، ولا أعلم أحدا رواه عن عبد الله غير مرة .