[ ص: 47 ] فصل في البحار والأنهار
قال الله تعالى : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات وبالنجم هم يهتدون أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذكرون وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم [ النحل : 14 18 ] . وقال تعالى : وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون [ فاطر : 12 ] . وقال تعالى : وهو الذي مرج البحرين هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج وجعل بينهما برزخا وحجرا محجورا [ الفرقان : 53 ] . وقال تعالى : مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان [ الرحمن : 19 ، 20 ] . فالمراد بالبحرين : البحر الملح المر وهو الأجاج ، والبحر العذب هو هذه الأنهار السارحة بين أقطار الأمصار لمصالح العباد قاله ، [ ص: 48 ] وغير واحد من الأئمة . وقال تعالى : ابن جريج ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير [ الشورى : 32 - 34 ] . وقال تعالى : ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور [ لقمان : 31 ، 32 ] . وقال تعالى : إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون [ البقرة : 164 ] . فامتن تعالى على عباده بما خلق لهم من البحار والأنهار فالبحر المحيط بسائر أرجاء الأرض ، وما ينبثق منه في جوانبها الجميع مالح الطعم مر ، وفي هذا حكمة عظيمة لصحة الهواء ; إذ لو كان حلوا لأنتن الجو وفسد الهواء ; بسبب ما يموت فيه من الحيوانات العظام فكان يؤدي إلى تفاني بني آدم وفساد معايشهم ، فاقتضت الحكمة البالغة أن يكون على هذه الصفة لهذه المصلحة . ولهذا لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحر ؟ قال : . هو [ ص: 49 ] الطهور ماؤه الحل ميتته
وأما الأنهار فاقتضت الحكمة أن يكون ماؤها حلوا عذبا جاريا فراتا سائغا للشاربين ، وجعلها جارية سارحة ينبعها تعالى في أرض ، ويسوقها إلى أخرى رزقا للعباد ، ومنها كبار ومنها صغار بحسب الحاجة والمصلحة .
وقد تكلم أصحاب علم الهيئة والتسيير على تعداد البحار والأنهار الكبار ، وأصول منابعها ، وإلى أين ينتهي سيرها بكلام فيه حكم ، ودلالات على قدرة الخالق تعالى ، وأنه فاعل بالاختيار والحكمة . وقوله تعالى : والبحر المسجور [ الطور : 6 ] . فيه قولان ; أحدهما : أن المراد به البحر الذي تحت العرش المذكور في حديث الأوعال ، وأنه فوق السماوات السبع بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ، وهو الذي ينزل منه المطر قبل البعث فتحيا منه الأجساد من قبورها ، وهذا القول هو اختيار الربيع بن أنس ، والثاني : أن البحر اسم جنس يعم سائر البحار التي في الأرض ، وهو قول الجمهور .
واختلفوا في معنى البحر المسجور فقيل : المملوء . وقيل : يصير يوم القيامة نارا تؤجج فيحيط بأهل الموقف . كما ذكرناه في [ ص: 50 ] التفسير عن علي بن أبي طالب ، ، وابن عباس ، وسعيد بن جبير ومجاهد ، وغيرهم . وقيل المراد به : الممنوع المكفوف المحروس عن أن يطغى فيغمر الأرض ومن عليها فيغرقوا . رواه الوالبي عن ابن عباس ، وهو قول وغيره . ويؤيده الحديث الذي رواه السدي حدثنا الإمام أحمد : يزيد ، حدثنا العوام ، حدثني شيخ كان مرابطا بالساحل قال : لقيت أبا صالح مولى عمر بن الخطاب فقال : حدثنا عمر بن الخطاب ، . ورواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله عز وجل أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل إسحاق بن راهويه ، عن ، عن يزيد بن هارون العوام بن حوشب حدثني شيخ مرابط قال : خرجت ليلة لمحرس لم يخرج أحد من الحرس غيري فأتيت الميناء فصعدت فجعل يخيل إلي أن البحر يشرف يحاذي برءوس الجبال فعل ذلك مرارا وأنا مستيقظ فلقيت أبا صالح فقال : حدثنا عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . في إسناده رجل مبهم ، والله أعلم . ما من ليلة إلا والبحر يشرف ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضخ عليهم فيكفه الله عز وجل
[ ص: 51 ] وهذا من نعمه تعالى على عباده أن كف شر البحر عن أن يطغى عليهم ، وسخره لهم يحمل مراكبهم ليبلغوا عليها إلى الأقاليم النائية بالتجارات وغيرها ، وهداهم فيه بما خلقه في السماء والأرض من النجوم ، والجبال التي جعلها لهم علامات يهتدون بها في سيرهم ، وبما خلق لهم فيه حلية يلبسونها من اللآلئ والجواهر النفيسة العزيزة الحسنة الثمينة التي لا توجد إلا فيه ، وبما خلق فيه من الدواب الغريبة ، وأحلها لهم حتى ميتتها كما قال تعالى : أحل لكم صيد البحر وطعامه [ المائدة : 96 ] . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : . وفي الحديث الآخر : هو الطهور ماؤه الحل ميتته . رواه أحلت لنا ميتتان ودمان ; السمك والجراد ، والكبد والطحال أحمد ، ، وفي إسناده نظر . وابن ماجه
وقد قال في مسنده : وجدت في كتابي عن الحافظ أبو بكر البزار محمد بن معاوية البغدادي ، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن رفعه قال : أبي هريرة . ثم قال : لا نعلم أحدا رواه عن كلم الله هذا البحر الغربي ، وكلم البحر الشرقي فقال للغربي : إني حامل فيك عبادا من عبادي فكيف أنت صانع بهم ؟ قال : أغرقهم . قال : بأسك في [ ص: 52 ] نواحيك . وحرمه الحلية والصيد ، وكلم هذا البحر الشرقي فقال : إني حامل فيك عبادا من عبادي فما أنت صانع بهم ؟ قال : أحملهم على يدي ، وأكون لهم كالوالدة لولدها . فأثابه الحلية والصيد سهيل إلا عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر ، وهو منكر الحديث . قال : وقد رواه سهيل عن النعمان بن أبي عياش ، عن عبد الله بن عمرو موقوفا قلت الموقوف على أشبه فإنه قد كان وجد يوم عبد الله بن عمرو بن العاص اليرموك زاملتين مملوءتين كتبا من علوم أهل الكتاب فكان يحدث منهما بأشياء كثيرة من الإسرائيليات منها المعروف والمشهور والمنكور والمردود ; فأما المرفوع فتفرد به عبد الرحمن بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب أبو القاسم المدني قاضيها قال فيه ليس بشيء ، وقد سمعته منه ، ثم مزقت حديثه كان كذابا وأحاديثه مناكير . وكذا ضعفه الإمام أحمد : ابن معين ، وأبو زرعة ، وأبو حاتم ، والجوزجاني ، ، والبخاري وأبو داود ، ، وقال والنسائي عامة أحاديثه مناكير ، وأفظعها حديث البحر . ابن عدي
[ ص: 53 ] قال علماء التسيير المتكلمون على العروض ، والأطوال ، والبحار ، والأنهار ، والجبال ، والمساحات ، وما في الأرض من المدن والخراب والعمارات ، والأقاليم السبعة الحقيقية في اصطلاحهم ، والأقاليم المتعددة العرفية ، وما في البلدان والأقاليم من الخواص والنباتات ، وما يوجد في كل قطر من صنوف المعادن والتجارات قالوا : الأرض مغمورة بالماء العظيم إلا مقدار الربع منها ، وهو تسعون درجة ، والعناية الإلهية اقتضت انحسار الماء عن هذا القدر منها ; لتعيش الحيوانات عليه ، وينبت الزرع ، والثمار فيه كما قال تعالى : والأرض وضعها للأنام فيها فاكهة والنخل ذات الأكمام والحب ذو العصف والريحان فبأي آلاء ربكما تكذبان [ الرحمن : 10 - 13 ] . قالوا : المعمور من هذا البادي منها قريب الثلثين منه أو أكثر قليلا وهو خمس وستون درجة قالوا : فالبحر المحيط الغربي ، ويقال له أوقيانوس ، وهو الذي يتاخم بلاد المغرب ، وفيه الجزائر الخالدات ، وبينها وبين ساحله عشر درج مسافة شهر تقريبا ، وهو بحر لا يمكن سلوكه ، ولا ركوبه لكثرة هيجه واغتلامه وما فيه من الرياح ، والأمواج ، وليس فيه صيد ، ولا يستخرج منه شيء ، ولا يسافر فيه لمتجر [ ص: 54 ] ولا لغيره ، وهو آخذ في ناحية الجنوب حتى يسامت الجبال القمر ، ويقال جبال القمر التي منها أصل منبع نيل مصر ، ويتجاوز خط الاستواء ، ثم يمتد شرقا ، ويصير جنوبي الأرض ، وفيه هناك جزائر الزنج ، وعلى سواحله خراب كثير ، ثم يمتد شرقا ، وشمالا حتى يتصل ببحر الصين والهند ، ثم يمتد شرقا حتى يسامت نهاية الأرض الشرقية المكشوفة ، وهناك بلاد الصين ، ثم ينعطف في شرق الصين إلى جهة الشمال حتى يجاوز بلاد الصين ، ويسامت سد يأجوج ومأجوج ، ثم ينعطف ويستدير على أرض غير معلومة الأحوال ، ثم يمتد مغربا في شمال الأرض ، ويسامت بلاد الروس ويتجاوزها ، ويعطف مغربا وجنوبا ، ويستدير على الأرض ، ويعود إلى جهة الغرب ، وينبثق من الغربي إلى متن الأرض الزقاق الذي ينتهي أقصاه إلى أطراف الشام من الغرب ، ثم يأخذ في بلاد الروم حتى يتصل بالقسطنطينية ، وغيرها من بلادهم .
وينبعث من المحيط الشرقي بحار أخر فيها جزائر كثيرة حتى إنه يقال إن في بحر الهند ألف جزيرة وسبعمائة جزيرة فيها مدن وعمارات سوى الجزائر العاطلة ، ويقال لها : البحر الأخضر . فشرقيه بحر الصين ، وغربيه بحر اليمن ، وشماله بحر الهند ، وجنوبيه غير معلوم .
وذكروا أن بين بحر الهند ، وبحر الصين جبالا فاصلة بينهما ، وفيها فجاج تسلك المراكب بينها يسيرها لهم الذي خلقها ، كما جعل مثلها في البر أيضا [ ص: 55 ] قال الله تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون [ الأنبياء : 31 ] . وقد ذكر بطليموس أحد ملوك الهند في كتابه المسمى بالمجسطي الذي عرب في زمان المأمون ، وهو أصل هذه العلوم أن البحار المتفجرة من المحيط الغربي ، والشرقي والجنوبي ، والشمالي كثيرة جدا فمنها ما هو واحد ، ولكن يسمى بحسب البلاد المتاخمة له فمن ذلك بحر القلزم ، والقلزم قرية على ساحله قريب من أيلة ، وبحر فارس ، وبحر الخزر ، وبحر ورنك ، وبحر الروم ، وبحر بنطش ، وبحر الأزرق مدينة على ساحله ، وهو بحر القرم أيضا ، ويتضايق حتى يصب في بحر الروم عند جنوبي القسطنطينية ، وهو خليج القسطنطينية ; ولهذا تسرع المراكب في سيرها من القرم إلى بحر الروم ، وتبطيء إذا جاءت من الإسكندرية إلى القرم لاستقبالها جريان الماء ، وهذا من العجائب في الدنيا فإن كل ماء جار فهو حلو إلا هذا ، وكل بحر راكد فهو ملح أجاج إلا ما يذكر عن بحر الخزر وهو بحر جرجان ، وبحر طبرستان أن فيه قطعة كبيرة ماء حلوا فراتا على ما أخبر به المسافرون عنه . قال أهل الهيئة : وهو بحر مستدير الشكل إلى الطول ما هو . وقيل : إنه مثلث كالقلع وليس هو متصلا بشيء من البحر المحيط بل منفرد وحده ، وطوله ثمانمائة ميل ، وعرضه ستمائة . وقيل : أكثر من ذلك ، والله أعلم .
[ ص: 56 ] ومن ذلك البحر الذي يخرج منه المد والجزر عند البصرة ، وفي بلاد المغرب نظيره أيضا يتزايد الماء من أول الشهر ، ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشر منه وهو المد ثم يشرع في النقص وهو الجزر إلى آخر الشهر .
وقد ذكروا تحديد هذه البحار ومبتداها ومنتهاها . وذكروا ما في الأرض من البحيرات المجتمعة من الأنهار ، وغيرها من السيول ، وهي البطائح . وذكروا ما في الأرض من الأنهار المشهورة الكبار ، وذكروا ابتداءها ، وانتهاءها .
ولسنا بصدد بسط ذلك والتطويل فيه ، وإنما نتكلم على ما يتعلق بالأنهار الوارد ذكرها في الحديث . وقد قال الله تعالى : الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار [ إبراهيم : 32 - 34 ] . ففي الصحيحين من طريق قتادة ، عن أنس بن مالك ، عن مالك بن صعصعة : فالنيل والفرات . وفي لفظ في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر سدرة المنتهى قال : فإذا يخرج من أصلها نهران باطنان ، ونهران ظاهران ; فأما الباطنان ففي الجنة ، وأما الظاهران " عنصرهما " أي : مادتهما أو شكلهما ، وعلى صفتهما ونعتهما ، وليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء ، وفي صحيح البخاري مسلم من حديث عبد الله بن عمر ، عن [ ص: 57 ] خبيب بن عبد الرحمن ، عن حفص بن عاصم ، عن أبي هريرة سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
وقال : حدثنا الإمام أحمد ابن نمير ، ويزيد ، أنبأنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة الفرات والنيل وسيحان وجيحان . وهذا إسناد صحيح على شرط قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فجرت أربعة أنهار من الجنة مسلم . وكأن المراد ، والله أعلم ، من هذا أن هذه الأنهار تشبه أنهار الجنة في صفائها وعذوبتها وجريانها ، ومن جنس تلك في هذه الصفات ، ونحوها كما قال في الحديث الآخر الذي رواه الترمذي ، وصححه من طريق سعيد بن عامر ، عن محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة . أي تشبه ثمر الجنة لا أنها مجتناة من الجنة فإن الحس يشهد بخلاف ذلك فتعين أن المراد غيره ، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم : العجوة من الجنة ، وفيها شفاء من السم . وكذا قوله : الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء . وهكذا هذه الأنهار أصل منبعها مشاهد من الأرض . شدة الحر من فيح جهنم
[ ص: 58 ] أما النيل ; وهو النهر الذي ليس في أنهار الدنيا له نظير في خفته ، ولطافته ، وبعد مسراه فيما بين مبتداه إلى منتهاه فمبتداه من الجبال القمر أي البيض . ومنهم من يقول : جبال القمر بالإضافة إلى الكوكب . وهي في غربي الأرض وراء خط الاستواء إلى الجانب الجنوبي . ويقال : إنها حمر تنبع من بينها عيون ، ثم تجتمع من عشر مسيلات متباعدة ، ثم تجتمع كل خمسة منها في بحر ، ثم تخرج منها أنهار ستة ، ثم تجتمع كلها في بحيرة أخرى ، ثم يخرج منها نهر واحد هو النيل فيمر على بلاد السودان بالحبشة ، ثم على النوبة ، ومدينتها العظمى دمقلة ، ثم على أسوان ، ثم يفد على ديار مصر ، وقد تحمل إليها من بلاد الحبشة زيادات أمطارها ، واجترف من ترابها ، وهي محتاجة إليهما معا ; لأن مطرها قليل لا يكفي زروعها وأشجارها ، وتربتها رمال لا تنبت شيئا حتى يجيء النيل بزيادته وطينه فينبت فيه ما يحتاجون إليه ، وهي من أحق الأراضي بدخولها في قوله تعالى : أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون [ السجدة : 27 ] .
ثم يتجاوز النيل مصر قليلا فيفترق شطرين عند قرية على شاطئه يقال لها شطنوف فيمر الغربي على رشيد ، ويصب في البحر المالح ، وأما الشرقي فتفترق أيضا عند جوجر فرقتين تمر الغربية منهما على دمياط من غربيها ، ويصب في البحر ، والشرقية منهما [ ص: 59 ] تمر على أشمون طناح فيصب هناك في بحيرة شرقي دمياط يقال لها بحيرة تنيس ، وبحيرة دمياط ، وهذا بعد عظيم فيما بين مبتداه إلى منتهاه ; ولهذا كان ألطف المياه قال : له خصوصيات دون مياه سائر الأرض فمنها أنه أبعدها مسافة من مجراه إلى أقصاه ، ومنها أنه يجري على صخور ، ورمال ليس فيه خز ولا طحلب ولا أوحال ، ومنها أنه لا يخضر فيه حجر ولا حصاة ; وما ذاك إلا لصحة مزاجه ، وحلاوته ولطافته ، ومنها أن زيادته في أيام نقصان سائر الأنهار ، ونقصانه في أيام زيادتها ، وكثرتها ، وأما ما يذكره بعضهم من أن أصل منبع ابن سينا النيل من مكان مرتفع اطلع عليه بعض الناس فرأى هناك هولا عظيما ، وجواري حسانا ، وأشياء غريبة ، وأن الذي اطلع على ذلك لا يمكنه الكلام بعد هذا فهو من خرافات المؤرخين ، وهذيانات الأفاكين .
وقد قال عن عبد الله بن لهيعة قيس بن الحجاج عمن حدثه قال : لما فتحت مصر أتى أهلها عمرو بن العاص حين دخل شهر بؤونة من أشهر العجم القبطية فقالوا : يا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجري إلا بها . فقال لهم : وما ذاك قالوا : إذا كان لثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها ، وجعلنا عليها من الحلي ، والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل . فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإسلام ، وإن الإسلام يهدم ما قبله . فأقاموا بؤونة ، والنيل لا يجري لا قليلا ولا كثيرا . وفي رواية فأقاموا بؤونة ، وأبيب ، ومسرى ، وهو لا يجري حتى هموا بالجلاء ، فكتب عمرو إلى عمر بن الخطاب بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت بالذي فعلت ، وإني قد بعثت إليك [ ص: 60 ] بطاقة داخل كتابي هذا فألقها في النيل . فلما قدم كتابه أخذ عمرو البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل مصر أما بعد فإن كنت إنما تجري من قبل نفسك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك . فألقى عمرو البطاقة في النيل فأصبح يوم السبت ، وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة ، وقطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم .
وأما الفرات فأصلها من شمالي أرزن الروم فتمر إلى قرب ملطية ، ثم تمر على سميساط ، ثم على إلبيرة قبليها ، ثم تشرق إلى بالس ، وقلعة جعبر ، ثم إلى الرقة ، ثم إلى الرحبة شماليها ، ثم إلى عانة ، ثم إلى هيت ، ثم إلى الكوفة ، ثم تخرج إلى فضاء العراق ، وتصب في بطائح كبار أي بحيرات ، وترد إليها ، وتخرج منها أنهار كبار معروفة تصب في البصرة .
وأما سيحان ، ويقال له سيحون أيضا فأوله من بلاد الروم ، ويجري من الشمال ، والغرب إلى الجنوب والشرق ، وهو غربي مجرى [ ص: 61 ] جيحان ، ودونه في القدر ، وهو ببلاد الأرمن التي تعرف اليوم ببلاد سيس ، وقد كانت في أول الدولة الإسلامية في أيدي المسلمين ، فلما تغلب الفاطميون على الديار المصرية وملكوا الشام وأعمالها عجزوا عن صونها ، من الأعداء فتغلب نقفور الأرمني على هذه البلاد أعني بلاد سيس في حدود الثلاثمائة وإلى يومنا هذا ، والله المسؤول عودها إلينا بحوله وقوته . ثم يجتمع سيحان وجيحان عند أذنة فيصيران نهرا واحدا ، ثم يصبان في بحر الروم بين إياس ، وطرسوس .
وأما جيحان ، ويقال له جيحون أيضا ، وتسميه العامة جاهان ، وأصله في بلاد الروم ، ويسير في بلاد سيس من الشمال إلى الجنوب ، وهو يقارب الفرات في القدر ، ثم يجتمع هو وسيحان عند أذنة فيصيران نهرا واحدا ، ثم يصبان في البحر عند إياس ، وطرسوس ، والله أعلم .