[ ص: 196 ] ذكر بناء قبة الزمان
قال أهل الكتاب : وقد أمر الله موسى ، عليه السلام ، بعمل قبة من خشب الشمشار ، وجلود الأنعام ، وشعر الأغنام ، وأمر بزينتها بالحرير المصبغ ، والذهب ، والفضة ، على كيفيات مفصلة عند أهل الكتاب ، ولها عشر سرادقات ، طول كل واحد ثمانية وعشرون ذراعا ، وعرضه أربعة أذرع ، ولها أربعة أبواب ، وأطناب من حرير ، ودمقس مصبغ ، وفيها رفوف وصفائح ، من ذهب وفضة ، ولكل زاوية بابان ، وأبواب أخر كبيرة ، وستور من حرير مصبغ ، وغير ذلك مما يطول ذكره ، وبعمل تابوت من خشب الشمشار ، يكون طوله ذراعين ونصفا ، وعرضه ذراعين ، وارتفاعه ذراعا ونصفا ، ويكون مضببا بذهب خالص من داخله وخارجه ، وله أربع حلق ، في أربع زواياه ، ويكون على حافتيه كروبيان من ذهب ، يعنون صفة ملكين بأجنحة ، وهما متقابلان صنعه رجل اسمه بصليال . وأمره أن يعمل مائدة من خشب الشمشار ، طولها ذراعان ، وعرضها ذراع ونصف ، لها ضباب ذهب ، وإكليل ذهب بشفة مرتفعة ، بإكليل من ذهب ، وأربع حلق من نواحيها من ذهب; خرزه مثل الرمان من خشب ملبس ذهبا ، واعمل صحافا ومصافي وقصاعا على المائدة ، واصنع منارة من ذهب دلي فيها ست قصبات من ذهب ، من كل [ ص: 198 ] جانب ثلاث ، على كل قصبة ثلاث سرج ، وليكن في المنارة أربع قناديل ، ولتكن هي وجميع هذه الآنية من قنطار من ذهب ، صنع ذلك بصليال أيضا ، وهو الذي عمل المذبح أيضا ، ونصب هذه القبة أول يوم من سنتهم ، وهو أول يوم من الربيع ونصب تابوت الشهادة ، وهو - والله أعلم - المذكور في قوله تعالى : إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين .
[ البقرة : 248 ] . وقد بسط هذا الفصل في كتابهم مطولا جدا ، وفيه شرائع لهم وأحكام ، وصفة قربانهم ، وكيفيته ، وفيه أن قبة الزمان كانت موجودة قبل عبادتهم العجل ، الذي هو متقدم على مجيئهم بيت المقدس ، وأنها كانت لهم كالكعبة يصلون فيها وإليها ، ويتقربون عندها ، وأن موسى ، عليه السلام ، كان إذا دخلها يقفون عندها ، وينزل عمود الغمام على بابها فيخرون عند ذلك سجدا لله ، عز وجل ، ويكلم الله موسى ، عليه السلام ، من ذلك العمود الغمام ، الذي هو نور ويخاطبه ، ويناجيه ، ويأمره ، وينهاه ، وهو واقف عند التابوت صامد إلى ما بين الكروبيين ، فإذا فصل الخطاب ، يخبر بني إسرائيل بما أوحاه الله ، عز وجل ، إليه من الأوامر والنواهي ، وإذا تحاكموا إليه في شيء ، ليس عنده من الله فيه شيء ، يجيء إلى قبة الزمان ، ويقف عند التابوت ، ويصمد لما بين ذينك الكروبيين ، فيأتيه الخطاب بما فيه فصل تلك الحكومة ، وقد كان هذا مشروعا لهم في زمانهم ، أعني استعمال الذهب والحرير المصبغ ، [ ص: 199 ] واللآليء في معبدهم ، وعند مصلاهم ، فأما في شريعتنا فلا ، بل قد نهينا عن زخرفة المساجد وتزيينها; لئلا تشغل المصلين ، كما قال عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، لما وسع في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذي وكله على عمارته : ابن للناس ما يكنهم وإياك أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس . وقال ابن عباس : لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى كنائسهم .
وهذا من باب التشريف والتكريم والتنزيه ، فهذه الأمة غير مشابهة من كان قبلهم من الأمم; إذ جمع الله همهم في صلاتهم على التوجه إليه ، والإقبال عليه ، وصان أبصارهم وخواطرهم عن الاشتغال والتفكر في غير ما هم بصدده من العبادة العظيمة ، فلله الحمد والمنة .
وقد كانت قبة الزمان هذه مع بني إسرائيل في التيه ، يصلون إليها ، وهي قبلتهم وكعبتهم ، وإمامهم كليم الله موسى ، عليه السلام ، ومقدم القربان أخوه هارون ، عليه السلام .
فلما مات هارون ، ثم موسى ، عليهما السلام ، استمرت بنو هارون في الذي كان يليه أبوهم من أمر القربان ، وهو فيهم إلى الآن ، وقام بأعباء النبوة بعد موسى وتدبير الأمر بعده ، فتاه يوشع بن نون ، عليه السلام ، وهو الذي دخل بهم بيت المقدس; كما سيأتي بيانه .
[ ص: 200 ] والمقصود هنا أنه لما استقرت يده على البيت المقدس ، نصب هذه القبة على صخرة بيت المقدس ، فكانوا يصلون إليها ، فلما بادت صلوا إلى محلتها ، وهي الصخرة ، فلهذا كانت قبلة الأنبياء بعده إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد صلى إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة وكان يجعل الكعبة بين يديه ، فلما هاجر أمر بالصلاة إلى بيت المقدس ، فصلى إليها ستة عشر وقيل : سبعة عشر شهرا . ثم حولت القبلة إلى الكعبة ، وهي قبلة إبراهيم في شعبان سنة ثنتين ، في وقت صلاة العصر . وقيل : الظهر ، كما بسطنا ذلك في " التفسير " ، عند قوله تعالى : سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها إلى قوله : قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام [ البقرة : 142 - 144 ] .