ذكره أبو جعفر بن جرير في هذه السنة عن رواية سيف بن عمر ، وملخص ما ذكره ، هو وغيره ، أن أبا عبيدة لما فرغ من دمشق ، كتب إلى أهل إيلياء يدعوهم إلى الله وإلى الإسلام ، أو يبذلون الجزية أو يؤذنون بحرب . فأبوا أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه . فركب إليهم في جنوده ، واستخلف على دمشق سعيد بن زيد ، ثم حاصر بيت المقدس وضيق عليهم حتى أجابوا إلى الصلح بشرط أن يقدم إليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب . فكتب إليه أبو عبيدة بذلك فاستشار عمر الناس في ذلك ، فأشار عثمان بن عفان بأن لا يركب إليهم ; ليكون أحقر [ ص: 656 ] لهم وأرغم لأنوفهم ، وأشار علي بن أبي طالب بالمسير إليهم ; ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم بينهم ، فهوي ما قال علي ولم يهو ما قال عثمان . وسار بالجيوش نحوهم ، واستخلف على المدينة علي بن أبي طالب ، وسار على مقدمته ، فلما وصل إلى العباس بن عبد المطلب الشام تلقاه أبو عبيدة ورءوس الأمراء ، كخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان ، فترجل أبو عبيدة وترجل عمر ، فأشار أبو عبيدة ليقبل يد عمر ، فهم عمر بتقبيل رجل أبي عبيدة ، فكف أبو عبيدة ، فكف عمر . ثم سار حتى صالح نصارى بيت المقدس ، واشترط عليهم إجلاء الروم إلى ثلاث ، ثم دخلها إذ دخل المسجد من الباب الذي دخل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . ويقال : إنه لبى حين دخل بيت المقدس ، فصلى فيه تحية المسجد بمحراب داود ، وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد ، فقرأ في الأولى بسورة " ص " وسجد فيها والمسلمون معه ، وفي الثانية بسورة " بني إسرائيل " ثم جاء إلى الصخرة فاستدل على مكانها من كعب الأحبار ، وأشار عليه كعب أن يجعل المسجد من ورائه ، فقال : ضاهيت اليهودية . ثم جعل المسجد في قبلي بيت المقدس ، وهو العمري اليوم ، ثم نقل التراب عن الصخرة في طرف ردائه وقبائه ، ونقل المسلمون معه في ذلك . وسخر أهل الأردن في نقل بقيتها ، وقد كانت الروم جعلوا الصخرة مزبلة ; لأنها قبلة اليهود ، حتى إن المرأة كانت ترسل خرقة حيضتها من داخل الحوز لتلقى في الصخرة ، وذلك مكافأة لما كانت اليهود عاملت به القمامة ، وهي المكان الذي كانت اليهود صلبوا فيه المصلوب ، فجعلوا يلقون على قبره القمامة ، فلأجل ذلك سمي ذلك الموضع القمامة ، وانسحب الاسم على الكنيسة التي بناها [ ص: 657 ] النصارى هنالك . وقد كان هرقل حين جاءه الكتاب النبوي وهو بإيلياء ، وعظ النصارى فيما كانوا قد بالغوا في إلقاء الكناسة على الصخرة حتى وصلت إلى محراب داود ، قال لهم : إنكم لخليق أن تقتلوا على هذه الكناسة مما امتهنتم هذا المسجد ، كما قتلت بنو إسرائيل على دم يحيى بن زكريا . ثم أمروا بإزالتها ، فشرعوا في ذلك ، فما أزالوا ثلثها حتى فتحها المسلمون فأزالها عمر بن الخطاب . وقد استقصى هذا كله بأسانيده ومتونه في كتابه " المستقصى في فضائل المسجد الأقصى " . الحافظ بهاء الدين ابن الحافظ أبي القاسم بن عساكر
وذكر سيف في سياقه أن عمر رضي الله عنه ، ركب من المدينة على فرس ; ليسرع السير بعدما استخلف عليها علي بن أبي طالب ، فسار حتى قدم الجابية ، فنزل بها وخطب بالجابية خطبة طويلة بليغة ، منها : أيها الناس ، أصلحوا سرائركم تصلح علانيتكم ، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم ، واعلموا أن رجلا ليس بينه وبين آدم أب حي ولا بينه وبين الله هوادة ، فمن أراد لحب وجه الجنة فليلزم الجماعة ; فإن ، وهو مع الاثنين أبعد ، ولا يخلون أحدكم بامرأة ; فإن الشيطان ثالثهما ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن . وهي خطبة طويلة اختصرناها . ثم صالح الشيطان مع الواحد عمر أهل الجابية ورحل إلى بيت المقدس .
[ ص: 658 ] وقد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه في اليوم الفلاني إلى الجابية ، فتوافوا أجمعون في ذلك اليوم إلى الجابية ، فكان أول من تلقاه يزيد بن أبي سفيان ، ثم أبو عبيدة ، ثم خالد بن الوليد في خيول المسلمين وعليهم يلامق الديباج ، فسار إليهم عمر ليحصبهم ، فاعتذروا إليه بأن عليهم السلاح ، وأنهم يحتاجون إليه في حروبهم ، فسكت عنهم واجتمع الأمراء كلهم بعدما استخلفوا على أعمالهم سوى عمرو بن العاص وشرحبيل فإنهما موافقان الأرطبون بأجنادين ، فبينما عمر في الجابية إذا بكردوس من الروم بأيديهم سيوف مسللة ، فسار إليهم المسلمون بالسلاح ، فقال عمر : إن هؤلاء قوم يستأمنون . فساروا نحوهم ، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه ، فأجابهم عمر ، رضي الله عنه ، إلى ما سألوا ، وكتب لهم كتاب أمان ومصالحة ، وضرب عليهم الجزية ، واشترط عليهم شروطا ذكرها ابن جرير ، وشهد في الكتاب خالد بن الوليد ، ، وعمرو بن العاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وهو كاتب الكتاب ، وذلك في سنة خمس عشرة . ومعاوية بن أبي سفيان
ثم كتب لأهل لد ومن هنالك من الناس كتابا آخر ، وضرب عليهم الجزية ، ودخلوا فيما صالح عليه أهل إيلياء . وفر الأرطبون إلى بلاد مصر ، فكان بها حتى فتحها عمرو بن العاص ، ثم فر إلى البحر ، فكان يلي بعض السرايا الذين يقاتلون المسلمين ، فظفر به رجل من قيس ، فقطع يد القيسي ، وقتله القيسي ، وقال في ذلك :
فإن يكن أرطبون الروم أفسدها فإن فيها بحمد الله منتفعا [ ص: 659 ] وإن يكن أرطبون الروم قطعها
فقد تركت بها أوصاله قطعا .
قال سيف : ثم سار عمر إلى بيت المقدس من الجابية ، وقد توجى فرسه ، فأتوه ببرذون ، فركبه فجعل يهملج به ، فنزل عنه وضرب وجهه ، وقال : لا علم الله من علمك ، هذا من الخيلاء . ثم لم يركب برذونا قبله ولا بعده ، ففتحت إيلياء وأرضها على يديه ما خلا أجنادين فعلى يدي عمرو ، وقيسارية فعلى يدي معاوية . هذا سياق سيف بن عمر ، وقد خالفه غيره من أئمة السير ، فذهبوا إلى أن فتح بيت المقدس كان في سنة ست عشرة .
قال محمد بن عائذ عن ، عن الوليد بن مسلم عثمان بن حصن بن علاق قال : قال يزيد بن عبيدة : فتحت بيت المقدس سنة ست عشرة ، وفيها قدم عمر بن الخطاب الجابية . .
وقال أبو زرعة الدمشقي عن ، عن دحيم قال : ثم عاد في سنة سبع عشرة ، فرجع من الوليد بن مسلم سرع ، ثم قدم سنة ثماني عشرة ، فاجتمع إليه [ ص: 660 ] الأمراء ، وسلموا إليه ما اجتمع عندهم من الأموال فقسمها وجند الأجناد ومصر الأمصار ثم عاد إلى المدينة .
وقال يعقوب بن سفيان : ثم كان الجابية فتح وبيت المقدس سنة ست عشرة . وقال أبو معشر : ثم كان عمواس والجابية في سنة ست عشرة ثم كانت سرع في سنة سبع عشرة ، ثم كان في سنة ثماني عشرة . قال : وكان فيها عام الرمادة عمواس . يعني فتح البلدة المعروفة بعمواس ، فأما الطاعون المنسوب إليها ، فكان في سنة ثماني عشرة . كما سيأتي قريبا ، إن شاء الله تعالى . طاعون
قال أبو مخنف : لما قدم عمر الشام فرأى غوطة دمشق ، ونظر إلى المدينة والقصور والبساتين تلا قوله تعالى : كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين [ الدخان : 25 - 28 ] . ثم أنشد قول النابغة : .
هما فتيا دهر يكر عليهما نهار وليل يلحقان التواليا
إذا ما هما مرا بحي بغبطة أناخا بهم حتى يلاقوا الدواهيا
وقال الواقدي : أما رواية أهل الشام أن عمر دخل الشام مرتين ، ورجع الثالثة من سرع ، فليس بمعروف ، وإنما قدم مرة واحدة عام الجابية حين صالح أهل بيت المقدس سنة ست عشرة ، ورجع من سرع سنة سبع عشرة ، وهم يقولون : دخل في الثالثة دمشق وحمص ، وأنكر الواقدي ذلك .
قلت : ولا يعرف أنه دخل دمشق إلا في الجاهلية قبل إسلامه كما بسطنا ذلك في " سيرته " .
وقد روينا أن عمر حين دخل بيت المقدس سأل كعب الأحبار ، عن مكان الصخرة ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أذرع من الحائط الذي يلي وادي جهنم ، كذا وكذا ذراعا فهي ثم . فذرعوا فوجدوها وقد اتخذها النصارى مزبلة كما فعلت اليهود بمكان القمامة ، وهو المكان الذي صلب فيه المصلوب الذي شبه بعيسى ، فاعتقدت النصارى واليهود أنه المسيح ، وقد كذبوا في اعتقادهم هذا كما نص الله تعالى على خطإهم في ذلك .
والمقصود أن النصارى لما حكموا على بيت المقدس قبل البعثة بنحو من ثلاثمائة سنة ، طهروا مكان القمامة ، واتخذوه كنيسة هائلة بنتها أم الملك [ ص: 662 ] قسطنطين باني المدينة المنسوبة إليه ، واسم أمه هيلانة الحرانية الفندقانية ، وأمرت ابنها فبنى للنصارى بيت لحم على موضع الميلاد ، وبنت هي على موضع القبر ، فيما يزعمون . والغرض أنهم اتخذوا مكان قبلة اليهود مزبلة أيضا ، في مقابلة ما صنعوا في قديم الزمان وحديثه ، فلما فتح عمر بيت المقدس ، وتحقق موضع الصخرة ، أمر بإزالة ما عليها من الكناسة حتى قيل : إنه كنسها بردائه ثم استشار كعبا أين يضع المسجد ؟ فأشار عليه بأن يجعله من وراء الصخرة ، فضرب في صدره ، وقال : يا ابن أم كعب ، ضارعت اليهودية ، وأمر ببنائه في مقدم بيت المقدس .
قال : حدثنا الإمام أحمد أسود بن عامر ، ثنا حماد بن سلمة ، عن أبي سنان ، عن عبيد بن آدم وأبي مريم وأبي شعيب ، أن عمر بن الخطاب كان بالجابية ، فذكر فتح بيت المقدس . قال : قال ابن سلمة : فحدثني أبو سنان ، عن عبيد بن آدم ، سمعت عمر يقول لكعب : أين ترى أن أصلي ؟ قال : إن أخذت عني صليت خلف الصخرة ، فكانت القدس كلها بين يديك . فقال عمر : ضاهيت اليهودية ، لا ولكن أصلي حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فتقدم إلى القبلة فصلى ، ثم جاء فبسط رداءه وكنس الكناسة في ردائه وكنس الناس . وهذا إسناد جيد اختاره الحافظ ضياء الدين المقدسي في كتابه " المستخرج " . وقد تكلمنا على رجاله في كتابنا الذي أفردناه في مسند عمر ، ما [ ص: 663 ] رواه من الأحاديث المرفوعة ، وما روي عنه من الآثار الموقوفة مبوبا على أبواب الفقه ، ولله الحمد والمنة .
وقد روى سيف بن عمر ، عن شيوخه ، عن سالم قال : لما دخل عمر الشام تلقاه رجل من يهود دمشق ، فقال : السلام عليك يا فاروق ، أنت صاحب إيلياء ، لا ها الله لا ترجع حتى يفتح الله عليك إيلياء .
وقد روى أحمد بن مروان الدينوري عن محمد بن عبد العزيز ، عن أبيه ، عن الهيثم بن عدي ، عن أسامة بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جده أسلم مولى عمر ، عن عمر بن الخطاب ، أنه قدم دمشق في تجار من قريش فلما خرجوا تخلف عمر لبعض حاجته فبينما هو في البلد إذا هو ببطريق يأخذ بعنقه ، فذهب ينازعه فلم يقدر ، فأدخله دارا فيها تراب وفأس ومجرفة وزنبيل ، وقال له : حول هذا من ها هنا إلى ها هنا . وغلق عليه الباب وانصرف ، فلم يجئ إلى نصف النهار . قال : وجلست مفكرا ، ولم أفعل مما قال لي شيئا . فلما جاء قال : ما لك لم تفعل ؟ ولكمني في رأسي بيده ، قال : فأخذت الفأس فضربته بها فقتلته ، وخرجت على وجهي فجئت ديرا لراهب ، فجلست عنده من العشي ، فأشرف علي ، فنزل وأدخلني الدير فأطعمني وسقاني ، وأتحفني ، وجعل يحقق النظر في ، وسألني عن أمري ، فقلت : إني أضللت عن أصحابي . فقال : إنك [ ص: 664 ] لتنظر بعين خائف . وجعل يتوسمني ، ثم قال : لقد علم أهل دين النصرانية أني أعلمهم بكتابهم ، وإني لأراك الذي تخرجنا من بلادنا هذه ، فهل لك أن تكتب لي كتاب أمان على ديري هذا ؟ فقلت : يا هذا ، لقد ذهبت غير مذهب . فلم يزل بي حتى كتبت له صحيفة بما طلب مني ، فلما كان وقت الانصراف أعطاني أتانا ، فقال لي : اركبها ، فإذا وصلت إلى أصحابك فابعث إلي بها وحدها فإنها لا تمر بدير إلا أكرموها . ففعلت ما أمرني به ، فلما قدم عمر لفتح بيت المقدس أتاه ذلك الراهب وهو بالجابية بتلك الصحيفة ، فأمضاها له عمر ، واشترط عليه ضيافة من يمر به من المسلمين ، وأن يرشدهم إلى الطريق . رواه وغيره . وقد ساقه ابن عساكر من طريق أخرى في ترجمة ابن عساكر يحيى بن عبد الله بن أسامة القرشي البلقاوي ، عن ، عن أبيه ، فذكر حديثا طويلا عجيبا ، هذا بعضه . وقد ذكرنا الشروط العمرية على نصارى زيد بن أسلم الشام مطولا في كتابنا " الأحكام " وأفردنا له مصنفا على حدة ، ولله الحمد والمنة .
وقد ذكرنا خطبته في الجابية بألفاظها وأسانيدها في الكتاب الذي أفردناه لمسند عمر ، وذكرنا تواضعه في دخوله الشام في السيرة التي أفردناها له .
وقال أبو بكر بن أبي الدنيا : حدثني الربيع بن ثعلب ، نا أبو إسماعيل المؤدب ، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي ، عن أبي العالية الشامي قال : [ ص: 665 ] قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق تلوح صلعته للشمس ، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة ، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب ، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف ، هو وطاؤه إذا ركب ، وفراشه إذا نزل ، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا ، هي حقيبته إذا ركب ، ووسادته إذا نزل ، وعليه قميص من كرابيس قد دسم وتخرق جيبه . فقال : ادعوا لي رأس القوم . فدعوا له الجلومس ، فقال : اغسلوا قميصي وخيطوه ، وأعيروني قميصا أو ثوبا ، فأتي بقميص كتان فقال : ما هذا ؟ قالوا : كتان . قال : وما الكتان ؟ فأخبروه ، فنزع قميصه فغسل ورقع ، وأتي به ، فنزع قميصهم ولبس قميصه . فقال له الجلومس : أنت ملك العرب ، وهذه بلاد لا تصلح بها الإبل . فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل ، فركبه فقال : احبسوا احبسوا ، ما كنت أظن الناس يركبون الشيطان قبل هذا ، هاتوا جملي . فأتي بجمله فركبه .
[ ص: 666 ] وقال : حدثنا إسماعيل بن محمد الصفار سعدان بن نصر ، حدثنا سفيان عن أيوب الطائي ، عن ، عن قيس بن مسلم قال : لما قدم طارق بن شهاب عمر الشام عرضت له مخاضة ، فنزل عن بعيره ونزع موقيه ، فأمسكهما بيده وخاض الماء ومعه بعيره ، فقال له أبو عبيدة : قد صنعت اليوم صنيعا عظيما عند أهل الأرض ; صنعت كذا وكذا . قال : فصك في صدره ، وقال : أوه ، لو غيرك يقولها يا أبا عبيدة ! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس ، فأعزكم الله بالإسلام ، فمهما تطلبوا العز بغيره يذلكم الله .
قال ابن جرير : وفي هذه السنة - أعني في قول سنة خمس عشرة - كانت بين المسلمين وفارس وقعات سيف بن عمر .
وقال ابن إسحاق : إنما كان ذلك في سنة ست عشرة . ثم ذكر والواقدي ابن جرير وقعات كثيرة كانت بينهم ، وذلك حين بعث عمر بن الخطاب إلى يأمره بالمسير إلى سعد بن أبي وقاص المدائن ، وأن يخلف النساء والعيال بالعقيق في خيل كثيرة كثيفة ، فلما تفرغ سعد من أمر القادسية بعث على المقدمة زهرة بن حوية ، ثم أتبعه بالأمراء واحدا بعد واحد ، ثم سار في الجيوش ، وقد جعل على خلافته مكان هاشم بن عتبة بن أبي وقاص خالد بن عرفطة ، وجعل خالدا هذا على الساقة ، فساروا في خيول عظيمة ، وسلاح كثير ، وذلك [ ص: 667 ] لأيام بقين من شوال من هذه السنة ، فنزلوا الكوفة ، وارتحل زهرة بين أيديهم نحو المدائن ، فلقيه بها بصبهرى في جيش من فارس ، فهزمهم زهرة ، وذهبت الفرس في هزيمتهم إلى بابل ، وبها جمع كثير ممن انهزم يوم القادسية ، قد جعلوا عليهم الفيرزان ، فبعث زهرة إلى سعد ، فأعلمه باجتماع المنهزمين ببابل ، فسار سعد بالجيوش إلى بابل ، فتقابل هو والفيرزان عند بابل فهزمهم كأسرع من لفة الرداء ، وانهزموا بين يديه فرقتين ، ففرقة ذهبت إلى المدائن ، وأخرى سارت إلى نهاوند ، وأقام سعد ببابل أياما ، ثم سار منها نحو المدائن فلقوا جمعا آخر من الفرس ، فاقتتلوا قتالا شديدا وبارزوا أمير الفرس ، وهو شهريار ، فبرز إليه رجل من المسلمين يقال له : نايل الأعرجي أبو نباتة من شجعان بني تميم فتجاولا ساعة بالرماح ، ثم ألقياها فانتضيا سيفيهما وتصاولا بهما ، ثم تعانقا وسقطا عن فرسيهما إلى الأرض ، فوقع شهريار على صدر أبي نباتة ، وأخرج خنجرا ليذبحه بها ، فوقعت أصبعه في فم أبي نباتة فقضمها حتى شغله عن نفسه ، وأخذ الخنجر فذبح شهريار بها وأخذ فرسه وسواريه وسلبه ، وانكشف أصحابه فهزموا ، فأقسم سعد على نايل ليلبس سواري شهريار وسلاحه ، وليركبن فرسه إذا كان حرب ، فكان يفعل ذلك ، قالوا : وكان أول من تسور بالعراق . وذلك بمكان يقال له كوثى . وزار المكان الذي حبس فيه الخليل ، وصلى عليه وعلى سائر الأنبياء ، وقرأ : وتلك الأيام نداولها بين الناس الآية [ آل عمران : 140 ] .