قال : هو الحافظ ابن عساكر سليمان بن داود بن إيشا بن عويد بن باعز بن سلمون بن نحشون بن عميناذب بن إرم بن حصرون بن فارص بن يهودا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، أبو الربيع ، نبي الله ، ابن نبي الله .
جاء في بعض الآثار أنه دخل دمشق . قال ابن ماكولا : فارص بالصاد المهملة . وذكر نسبه قريبا مما ذكره . قال الله تعالى : ابن عساكر وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين [ النمل : 16 ] . أي : ورثه في النبوة والملك . وليس المراد وراثة المال ; لأنه قد كان له بنون غيره ، فما كان ليخص بالمال دونهم . ولأنه قد ثبت في " الصحاح " من غير وجه ، عن جماعة من الصحابة ، أن [ ص: 324 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : وفي لفظ : لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة فأخبر الصادق المصدوق أن إنا معاشر الأنبياء لا نورث ، بل تكون أموالهم صدقة من بعدهم على الفقراء والمحاويج ، لا يخصون بها أقرباءهم ; لأن الدنيا كانت أهون عليهم وأحقر عندهم من ذلك ، كما هي عند الذي أرسلهم واصطفاهم وفضلهم . وقال : الأنبياء لا تورث أموالهم عنهم كما يورث غيرهم يا أيها الناس علمنا منطق الطير يعني أنه ، عليه السلام ، كان يعرف ما تتخاطب به الطيور بلغاتها ، ويعبر للناس عن مقاصدها وإراداتها .
وقد قال : أنبأنا الحافظ أبو بكر البيهقي أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن حمشاذ ، حدثنا إسماعيل بن قتيبة ، حدثنا علي بن قدامة ، حدثنا أبو جعفر الأسواني - يعني محمد بن عبد الرحمن - عن يعقوب القمي ، حدثني أبو مالك ، قال : مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة ، فقال لأصحابه : أتدرون ما يقول ؟ قالوا : وما يقول يا نبي الله ؟ قال يخطبها إلى نفسه ، ويقول : زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت . قال سليمان ، عليه السلام : لأن غرف دمشق مبنية بالصخر ، لا يقدر أن يسكنها أحد ، ولكن كل [ ص: 325 ] خاطب كذاب . رواه عن ابن عساكر أبي القاسم زاهر بن طاهر ، عن به . وكذلك ما عداها من الحيوانات وسائر صنوف المخلوقات ; والدليل على هذا قوله بعد هذا من الآيات : البيهقي وأوتينا من كل شيء أي : من كل ما يحتاج الملك إليه ، من العدد ، والآلات ، والجنود ، والجيوش ، والجماعات من الجن ، والإنس ، والطيور ، والوحوش ، والشياطين السارحات ، والعلوم ، والفهوم ، والتعبير عن ضمائر المخلوقات من الناطقات والصامتات . ثم قال : إن هذا لهو الفضل المبين أي : من بارئ البريات وخالق الأرض والسماوات ، كما قال تعالى : وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين [ النمل : 17 - 19 ] . يخبر تعالى عن عبده ونبيه وابن نبيه سليمان بن داود ، عليهما الصلاة والسلام ، أنه ركب يوما في جيشه جميعه من الجن والإنس والطير ، فالجن والإنس يسيرون معه ، والطير سائرة معه تظله بأجنحتها من الحر وغيره ، وعلى كل من هذه الجيوش الثلاثة وزعة ، أي [ ص: 326 ] نقباء يردون أوله على آخره ، فلا يتقدم أحد عن موضعه الذي يسير فيه ولا يتأخر عنه ، قال الله تعالى : حتى إذا أتوا على وادي النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون فأمرت ، وحذرت ، واعتذرت عن سليمان وجنوده بعدم الشعور . وقد ذكر وهب أنه مر وهو على البساط بواد بالطائف ، وأن هذه النملة كان اسمها " جرس " وكانت من قبيلة يقال لهم : بنو الشيصبان ، وكانت عرجاء ، وكانت بقدر الذئب . وفي هذا كله نظر ، بل في هذا السياق دليل على أنه كان في موكبه راكبا في خيوله وفرسانه ، لا كما زعم بعضهم من أنه كان إذ ذاك على البساط ; لأنه لو كان كذلك لم ينل النمل منه شيء ولا وطء ; لأن البساط كان عليه جميع ما يحتاجون إليه من الجيوش والخيول والجمال والأثقال والخيام والأنعام ، والطير من فوق ذلك كله ، كما سنبينه بعد ذلك ، إن شاء الله تعالى .
والمقصود أن سليمان ، عليه السلام ، فهم ما خاطبت به تلك النملة لأمتها من الرأي السديد والأمر الحميد ، وتبسم من ذلك على وجه الاستبشار والفرح والسرور بما أطلعه الله عليه دون غيره ، وليس كما يقوله بعض الجهلة ، من أن الدواب كانت تنطق قبل سليمان ، وتخاطب الناس حتى أخذ عليهم سليمان بن داود العهد وألجمها ، فلم تتكلم مع الناس بعد ذلك ، فإن هذا لا يقوله إلا الذين لا يعلمون ، ولو كان هذا هكذا لم يكن لسليمان في فهم لغاتها مزية على غيره ; إذ قد كان الناس كلهم يفهمون ذلك ، ولو كان قد أخذ عليها العهد أن لا تتكلم مع غيره ، وكان هو يفهمها ، لم يكن في هذا أيضا [ ص: 327 ] فائدة يعول عليها ، ولهذا قال : رب أوزعني أي : ألهمني وأرشدني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين فطلب من الله أن يقيضه للشكر على ما أنعم به عليه ، وعلى ما خصه به من المزية على غيره ، وأن ييسر عليه العمل الصالح ، وأن يحشره إذا توفاه مع عباده الصالحين ، وقد استجاب الله تعالى له . والمراد بوالديه داود ، عليه السلام ، وأمه ، وكانت من العابدات الصالحات كما قال ، عن سنيد بن داود يوسف بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه ، عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : قالت أم سليمان بن داود : يا بني لا تكثر النوم بالليل ; فإن كثرة النوم بالليل تدع العبد فقيرا يوم القيامة رواه ابن ماجه عن أربعة من مشايخه ، عنه به نحوه . وقال عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري : إن سليمان بن داود ، عليه السلام ، خرج هو وأصحابه يستسقون ، فرأى نملة قائمة رافعة إحدى قوائمها تستسقي ، فقال لأصحابه : ارجعوا فقد سقيتم ، إن هذه النملة استسقت فاستجيب لها . قال : وقد روي مرفوعا ولم يذكر فيه ابن عساكر سليمان . ثم ساقه من طريق محمد بن عزيز عن سلامة بن روح بن خالد ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، حدثني أبو سلمة ، عن أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أبي هريرة وقال خرج نبي من الأنبياء بالناس يستسقون الله ، فإذا هم بنملة رافعة بعض قوائمها إلى [ ص: 328 ] السماء فقال النبي : ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل هذه النملة : أصاب الناس قحط على عهد السدي سليمان ، عليه السلام ، فأمر الناس فخرجوا ، فإذا بنملة قائمة على رجليها ، باسطة يديها وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ولا غناء بنا عن فضلك . قال : فصب الله عليهم المطر .
قال تعالى : وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون [ النمل : 20 - 37 ] . [ ص: 329 ] يذكر تعالى سليمان والهدهد ; وذلك أن الطيور كان على كل صنف منها مقدمون يقومون بما يطلب منهم ، ويحضرون عنده بالنوبة ، كما هي عادة الجنود مع الملوك ، وكانت وظيفة الهدهد على ما ذكره ما كان من أمر ابن عباس وغيره ، أنهم كانوا إذا أعوزوا الماء في القفار في حال الأسفار ، يجيء فينظر لهم هل بهذه البقاع من ماء ، وفيه من القوة التي أودعها الله تعالى فيه ، أن ينظر إلى الماء تحت تخوم الأرض ، فإذا دلهم عليه حفروا عنه واستنبطوه وأخرجوه ، واستعملوه لحاجتهم ، فلما تطلبه سليمان - عليه السلام - ذات يوم ، فقده ولم يجده في موضعه من محل خدمته فقال ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين أي : ما له أمفقود من هاهنا ، أو قد غاب عن بصري فلا أراه بحضرتي ؟ لأعذبنه عذابا شديدا توعده بنوع من العذاب اختلف المفسرون فيه ، والمقصود حاصل على كل تقدير . أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين أي بحجة تنجيه من هذه الورطة . قال الله تعالى : فمكث غير بعيد أي : فغاب الهدهد غيبة ليست بطويلة ثم قدم منها فقال لسليمان : أحطت بما لم تحط به أي اطلعت على ما لم تطلع عليه . وجئتك من سبإ بنبإ يقين أي : بخبر صادق . [ ص: 330 ] إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم يذكر ما كان عليه ملوك سبأ في بلاد اليمن من المملكة العظيمة والتبابعة المتوجين ، وكان الملك قد آل في ذلك الزمان إلى امرأة منهم ابنة ملكهم ، لم يخلف غيرها فملكوها عليهم .
وذكر الثعلبي وغيره أن قومها ملكوا عليهم بعد أبيها رجلا ، فعم به الفساد فأرسلت إليه تخطبه فتزوجها ، فلما دخلت عليه سقته خمرا ، ثم حزت رأسه ونصبته على بابها ، فأقبل الناس عليها وملكوها عليهم . وهي بلقيس بنت البشرخ ، وهو الهذهاذ . وقيل : شراحيل بن ذي جدن بن البشرخ بن الحارث بن قيس بن صيفي بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان . وكان أبوها من أكابر الملوك ، وكان تأبى أن يتزوج من أهل اليمن فيقال : إنه تزوج بامرأة من الجن ، اسمها ريحانة بنت الشكر ، فولدت له هذه المرأة ، واسمها بلعمة ويقال لها : بلقيس .
وقد روى الثعلبي من طريق ، عن سعيد بن بشير قتادة ، عن النضر بن أنس ، عن بشير بن نهيك ، عن ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه [ ص: 331 ] قال : أبي هريرة كان أحد أبوي بلقيس جنيا وهذا حديث غريب ، وفي سنده ضعف .
وقال الثعلبي : أخبرني أبو عبد الله بن قبحونة ، حدثنا أبو بكر بن جرجة ، حدثنا ابن أبي الليث ، حدثنا أبو كريب ، حدثنا أبو معاوية ، عن إسماعيل بن مسلم ، عن الحسن ، عن أبي بكرة قال : ذكرت بلقيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة إسماعيل بن مسلم هذا هو المكي ، ضعيف .
وقد ثبت في " صحيح " من حديث البخاري عوف ، عن الحسن ، عن أبي بكرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه أن أهل فارس ملكوا عليهم ابنة كسرى ، قال : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ورواه الترمذي من حديث والنسائي حميد عن الحسن ، عن أبي بكرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الترمذي : حسن صحيح . وقوله : وأوتيت من كل شيء أي : مما من شأنه أن تؤتاه الملوك ولها عرش عظيم يعني سرير مملكتها ، كان مزخرفا بأنواع الجواهر واللآلئ والذهب والحلي الباهر . ثم ذكر كفرهم بالله وعبادتهم الشمس من دون الله ، وإضلال الشيطان لهم وصده إياهم عن عبادة الله وحده لا شريك له الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون أي : يعلم السرائر والظواهر من المحسوسات والمعنويات الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم [ ص: 332 ] أي : له العرش العظيم ، الذي لا أعظم منه في المخلوقات . فعند ذلك بعث معه سليمان ، عليه السلام ، كتابه يتضمن دعوته لهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله ، والإنابة والإذعان إلى الدخول في الخضوع لملكه وسلطانه ; ولهذا قال لهم : ألا تعلوا علي أي : لا تستكبروا عن طاعتي وامتثال أوامري . وأتوني مسلمين أي : وأقدموا علي سامعين مطيعين بلا معاودة ولا مراودة ، فلما جاءها الكتاب مع الطير ، ومن ثم اتخذ الناس البطائق ، ولكن أين الثريا من الثرى ؟! تلك البطاقة كانت مع طائر سامع مطيع فاهم عالم بما يقول ويقال له . فذكر غير واحد من المفسرين وغيرهم ، أن الهدهد حمل الكتاب وجاء إلى قصرها فألقاه إليها وهي في خلوة لها ، ثم وقف ناحية ينتظر ما يكون من جوابها عن كتابها ، فجمعت أمراءها ووزراءها وأكابر دولتها وأولي مشورتها قالت يا أيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم ثم قرأت عليهم عنوانه أولا : إنه من سليمان ثم قرأته : وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين ثم شاورتهم في أمرها وما قد حل بها ، وتأدبت معهم ، وخاطبتهم وهم يسمعون : قالت يا أيها الملأ أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون تعني : ما كنت لأبت أمرا إلا وأنتم حاضرون : قالوا نحن أولو قوة وأولو بأس شديد يعنون : لنا قوة وقدرة على الجلاد والقتال ومقاومة الأبطال ، فإن أردت منا ذلك فإنا عليه من القادرين و مع هذا [ ص: 333 ] الأمر إليك فانظري ماذا تأمرين فبذلوا لها السمع والطاعة ، وأخبروها بما عندهم من الاستطاعة ، وفوضوا إليها في ذلك الأمر ; لترى فيه ما هو الأرشد لها ولهم ، فكان رأيها أتم وأسد من رأيهم ، وعلمت أن صاحب هذا الكتاب لا يغالب ولا يمانع ولا يخالف ولا يخادع . قالت إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون تقول برأيها السديد : إن هذا الملك لو قد غلب على هذه المملكة ، لم يخلص الأمر من بينكم إلا إلي ولم تكن الحدة الشديدة والسطوة البليغة إلا علي . وإني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون أرادت أن تصانع عن نفسها وأهل مملكتها بهدية ترسلها ، وتحف تبعثها ، ولم تعلم أن سليمان ، عليه السلام ، لا يقبل منهم - والحالة هذه - صرفا ولا عدلا ; لأنهم كافرون ، وهو وجنوده عليهم قادرون ، ولهذا فلما جاء سليمان قال أتمدونني بمال فما آتاني الله خير مما آتاكم بل أنتم بهديتكم تفرحون ، هذا وقد كانت تلك الهدايا مشتملة على أمور عظيمة ، كما ذكره المفسرون . ثم قال لرسولها إليه ووافدها الذي قدم عليه ، والناس حاضرون يسمعون : ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون يقول : ارجع بهديتك - التي قدمت بها - إلى من قد من بها ، فإن عندي مما قد أنعم الله علي وأسداه إلي من الأموال والتحف والرجال ، ما هو أضعاف هذا ، وخير من هذا الذي أنتم تفرحون به وتفخرون على أبناء جنسكم بسببه . فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها أي : فلأبعثن إليهم بجنود لا يستطيعون دفاعهم ولا نزالهم ولا ممانعتهم ولا قتالهم ، ولأخرجنهم من بلدهم وحوزتهم ومعاملتهم ودولتهم أذلة وهم صاغرون ، عليهم الصغار والعار والدمار . فلما بلغهم ذلك عن نبي الله ، لم يكن لهم بد [ ص: 334 ] من السمع والطاعة ، فبادروا إلى إجابته في تلك الساعة ، وأقبلوا صحبة الملكة أجمعين سامعين مطيعين خاضعين ، فلما سمع بقدومهم عليه ووفودهم إليه ، قال لمن بين يديه ممن هو مسخر له من الجان ، ما قصه الله عنه في القرآن : قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين [ النمل : 38 - 44 ] . لما طلب سليمان من الجان أن يحضروا له عرش بلقيس ، وهو سرير مملكتها الذي تجلس عليه وقت حكمها ، قبل قدومها عليه قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك يعني : قبل أن ينقضي مجلس حكمك ، وكان - فيما يقال - من أول النهار إلى قريب الزوال يتصدى لمهمات بني إسرائيل وما لهم من الأشغال : وإني عليه لقوي أمين أي : وإني لذو قوة على إحضاره [ ص: 335 ] إليك ، وأمانة على ما فيه من الجواهر النفيسة لديك . قال الذي عنده علم من الكتاب المشهور أنه آصف بن برخيا ، وهو ابن خالة سليمان . وقيل : هو رجل من مؤمني الجان ، كان فيما يقال يحفظ الاسم الأعظم . وقيل : رجل من بني إسرائيل ، من علمائهم . وقيل : إنه سليمان . وهذا غريب جدا . وضعفه السهيلي بأنه لا يصح في سياق الكلام . قال : وقد قيل فيه قول رابع ، أنه جبريل . أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك قيل : معناه قبل أن تبعث رسولا إلى أقصى ما ينتهي إليه طرفك من الأرض ، ثم يعود إليك . وقيل : قبل أن يصل إليك أبعد من تراه من الناس . وقيل : قبل أن يكل طرفك إذا أدمت النظر به قبل أن تطبق جفنك . وقيل : قبل أن يرجع إليك طرفك إذا نظرت به إلى أبعد غاية منك ثم أغمضته . وهذا أقرب ما قيل . فلما رآه مستقرا عنده أي : فلما رأى عرش بلقيس مستقرا عنده في هذه المدة القريبة من بلاد اليمن إلى بيت المقدس ، في طرفة عين قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر أي : هذا من فضل الله علي وفضله على عبيده ; ليختبرهم على الشكر أو خلافه . ومن شكر فإنما يشكر لنفسه أي : إنما يعود نفع ذلك عليه . ومن كفر فإن ربي غني كريم أي : غني عن شكر الشاكرين ، ولا يتضرر بكفر الكافرين . ثم أمر سليمان عليه السلام أن يغير حلي هذا العرش وينكر لها ; ليختبر فهمها وعقلها ، ولهذا قال : ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو [ ص: 336 ] وهذا من فطنتها وغزارة فهمها ; لأنها استبعدت أن يكون عرشها ; لأنها خلفته وراءها بأرض اليمن ولم تكن تعلم أن أحدا يقدر على هذا الصنع العجيب الغريب .
قال الله تعالى إخبارا عن سليمان وقومه : وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين أي : ومنعها عبادة الشمس التي كانت تسجد لها هي وقومها من دون الله ، اتباعا لدين آبائهم وأسلافهم لا لدليل قادهم إلى ذلك ولا حداهم على ذلك ، وكان سليمان قد أمر ببناء صرح من زجاج ، وعمل في ممره ماء ، وجعل عليه سقفا من زجاج وجعل فيه من السمك وغيرها من دواب الماء ، وأمرت بدخول الصرح وسليمان جالس على سريره فيه فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وقد قيل : إن الجن أرادوا أن يبشعوا منظرها عند سليمان ، وأن تبدي عن ساقيها ليرى ما عليها من الشعر فينفره ذلك منها ، وخشوا أن يتزوجها ; لأن أمها من الجان فتتسلط عليهم معه . وذكر بعضهم أن حافرها كان كحافر الدابة . وهذا ضعيف . وفي الأول أيضا نظر ، والله أعلم . إلا أن سليمان قيل : إنه لما أراد إزالته حين عزم على تزوجها سأل الإنس عن زواله ، فذكروا له الموسى ، فامتنعت من ذلك ، فسأل الجان فصنعوا له النورة ، ووضعوا له الحمام ، فكان أول من دخل الحمام ، فلما وجد مسه قال : أوه من عذاب الله أوه أوه قبل [ ص: 337 ] أن لا ينفع أوه . رواه مرفوعا . وفيه نظر . الطبراني
وقد ذكر الثعلبي وغيره ، أن سليمان لما تزوجها ، أقرها على مملكة اليمن وردها إليه ، وكان يزورها في كل شهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة أيام ، ثم يعود على البساط ، وأمر الجان فبنوا له ثلاثة قصور باليمن : غمدان ، وسالحين ، وبنيون ، فالله أعلم .
وقد روى ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن ، أن وهب بن منبه سليمان لم يتزوجها بل زوجها بملك همدان ، وأقرها على ملك اليمن وسخر زوبعة ملك جن اليمن فبنى لها القصور الثلاثة التي ذكرناها باليمن والأول أشهر وأظهر ، والله أعلم .
وقال تعالى في سورة " ص " : ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنه أواب إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب قال رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب [ ص: 338 ] [ ص : 30 - 40 ] . يذكر تعالى أنه وهب لداود سليمان ، عليهما السلام ، ثم أثنى الله تعالى عليه فقال : نعم العبد إنه أواب أي : رجاع مطيع لله . ثم ذكر تعالى ما كان من أمره في الخيل الصافنات - وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة - الجياد ; وهي المضمرة السراع : فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب يعني الشمس . وقيل : الخيل . على ما سنذكره من القولين . ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق قيل : مسح عراقيبها وأعناقها بالسيوف . وقيل : مسح عنها العرق لما أجراها وسابق بينها وبين يديه ، على القول الآخر . والذي عليه أكثر السلف الأول ; فقالوا اشتغل بعرض تلك الخيول حتى خرج وقت العصر وغربت الشمس . روي هذا عن علي بن أبي طالب وغيره . والذي يقطع به ، أنه لم يترك الصلاة عمدا من غير عذر ، اللهم إلا أن يقال : إنه كان سائغا في شريعتهم تأخير الصلاة لأجل أسباب الجهاد ، وعرض الخيل من ذلك . وقد ادعى طائفة من العلماء في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم الخندق أن هذا كان مشروعا إذ ذاك ، حتى نسخ بصلاة الخوف . قاله وغيره . وقال الشافعي مكحول : بل هو حكم محكم إلى اليوم ، أنه يجوز تأخيرها لعذر القتال الشديد . كما ذكرنا تقرير ذلك في سورة " النساء " عند صلاة الخوف . وقال آخرون : بل كان تأخير النبي صلى الله عليه وسلم صلاة العصر يوم والأوزاعي الخندق نسيانا . وعلى هذا فيحمل فعل سليمان ، عليه السلام ، على هذا . [ ص: 339 ] والله أعلم . وأما من قال : الضمير في قوله : فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب عائد على الخيل ، وإنه لم يفته وقت صلاة ، وإن المراد بقوله : ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق يعني : مسح العرق عن عراقيبها وأعناقها . فهذا القول اختاره ابن جرير ، ورواه الوالبي عن ابن عباس في مسح العرق . ووجه هذا القول ابن جرير ; بأنه ما كان ليعذب الحيوان بالعرقبة ، ويهلك مالا بلا سبب ولا ذنب لها . وهذا الذي قاله فيه نظر ; لأنه قد يكون هذا سائغا في ملتهم . وقد ذهب بعض علمائنا إلى أنه جاز ذبحها وإهلاكها لئلا يتقووا بها ، وعليه حمل صنيع إذا خاف المسلمون أن يظفر الكفار على شيء من الحيوانات من أغنام ونحوها ; يوم عقر فرسه بموته . وقد قيل : إنها كانت خيلا عظيمة ; قيل : كانت عشرة آلاف فرس . وقيل : عشرين ألف فرس . وقيل : كان فيها عشرون فرسا من ذوات الأجنحة . جعفر بن أبي طالب
وقد روى أبو داود في " سننه " : حدثنا محمد بن عوف ، حدثنا أنبأنا سعيد بن أبي مريم يحيى بن أيوب ، حدثني عمارة بن غزية أن [ ص: 340 ] محمد بن إبراهيم ، حدثه عن محمد بن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، عن عائشة قالت : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك - أو خيبر - وفي سهوتها ستر ، فهبت الريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعب ، فقال : ما هذا يا لعائشة عائشة ! فقالت : بناتي . ورأى بينهن فرسا له جناحان من رقاع ، فقال : ما هذا الذي أرى وسطهن ؟ قالت : فرس . قال : وما الذي عليه هذا ؟ قالت : جناحان . قال : فرس له جناحان ؟ قالت : أما سمعت أن لسليمان خيلا لها أجنحة! قالت : فضحك حتى رأيت نواجذه صلى الله عليه وسلم . وقال بعض العلماء : لما ترك الخيل لله ، عوضه الله عنها بما هو خير له منها ، وهو الريح التي كان غدوها شهرا ورواحها شهرا ، كما سيأتي الكلام عليها ، كما قال : حدثنا الإمام أحمد إسماعيل ، حدثنا ، عن سليمان بن المغيرة حميد بن هلال ، عن أبي قتادة وأبي الدهماء وكانا يكثران السفر نحو البيت ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي : أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يعلمني مما علمه الله ، عز وجل ، وقال : إنك لا تدع شيئا اتقاء الله عز وجل إلا أعطاك الله خيرا منه .
وقوله تعالى : ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب ذكر ابن جرير وغيرهما من المفسرين ، هاهنا ، آثارا كثيرة عن جماعة من السلف ، وأكثرها أو كلها متلقاة من الإسرائيليات ، وفي كثير منها نكارة شديدة ، [ ص: 341 ] وقد نبهنا على ذلك في كتابنا " التفسير " ، واقتصرنا هاهنا على مجرد التلاوة . ومضمون ما ذكروه أن وابن أبي حاتم سليمان عليه السلام غاب عن سريره أربعين يوما ، ثم عاد إليه ، ولما عاد أمر ببناء بيت المقدس ، فبناه بناء محكما ، وقد قدمنا أنه جدده وأن أول من جعله مسجدا إسرائيل ، عليه السلام ، كما ذكرنا ذلك عند قول أبي ذر : قلت : بيت المقدس قلت : كم بينهما ؟ قال : أربعون سنة ومعلوم أن بين يا رسول الله أي مسجد وضع أول ؟ قال : المسجد الحرام قلت : ثم أي ؟ قال : مسجد إبراهيم الذي بنى المسجد الحرام وبين سليمان بن داود عليهما السلام ، أزيد من ألف سنة ، دع أربعين سنة ، وكان سؤاله الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، بعد إكماله بناء البيت المقدس ، كما قال ، الإمام أحمد ، والنسائي ، وابن ماجه وابن خزيمة ، ، وابن حبان ، بأسانيدهم عن والحاكم عبد الله بن فيروز الديلمي ، عن ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : عبد الله بن عمرو بن العاص " إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ، عز وجل ، خلالا ثلاثا ، فأعطاه اثنتين ، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة ; سأله حكما يصادف حكمه ، فأعطاه إياه ، وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا [ ص: 342 ] الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمه ، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها " . فأما الحكم الذي يوافق حكم الله تعالى ، فقد أثنى الله تعالى عليه وعلى أبيه في قوله : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وقد ذكر شريح القاضي ، وغير واحد من السلف ، أن هؤلاء القوم كان لهم كرم فنفشت فيه غنم قوم آخرين أي رعته بالليل فأكلت شجره بالكلية ، فتحاكموا إلى داود عليه السلام ، فحكم لأصحاب الكرم بقيمته ، فلما خرجوا على سليمان قال : بما حكم لكم نبي الله ؟ فقالوا : بكذا وكذا . فقال : أما لو كنت أنا لما حكمت إلا بتسليم الغنم إلى أصحاب الكرم ، فيستغلونها نتاجا ودرا حتى يصلح أصحاب الغنم كرم أولئك ويردوه إلى ما كان عليه ، ثم يتسلموا غنمهم . فبلغ داود عليه السلام ، ذلك فحكم به .
وقريب من هذا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة داود فحكم به للكبرى ، فخرجتا على سليمان ، فقال : ائتوني [ ص: 343 ] بالسكين أشقه نصفين ، لكل واحدة منكما نصفه . فقالت الصغرى : لا تفعل ، يرحمك الله ، هو ابنها . فقضى به لها ولعل كلا من الحكمين كان سائغا في شريعتهم ، ولكن ما قاله بينما امرأتان معهما ابناهما ، إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما فتنازعتا في الآخر ، فقالت الكبرى : إنما ذهب بابنك . وقالت الصغرى : إنما ذهب بابنك . فتحاكمتا إلى سليمان أرجح ، ولهذا أثنى الله عليه بما ألهمه إياه ، ومدح بعد ذلك أباه فقال : وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون ثم قال : ولسليمان الريح عاصفة أي : وسخرنا لسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين ومن الشياطين من يغوصون له ويعملون عملا دون ذلك وكنا لهم حافظين [ الأنبياء : 80 - 82 ] . وقال في سورة " ص " : فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب لما ترك الخيل ابتغاء وجه الله عوضه الله منها الريح ، التي هي أسرع سيرا وأقوى وأعظم ، ولا كلفة عليه لها . تجري بأمره رخاء حيث أصاب أي : حيث أراد من أي البلاد . كان له بساط مركب من أخشاب ، بحيث إنه يسع جميع ما يحتاج إليه من الدور المبنية والقصور والخيام والأمتعة والخيول والجمال والأثقال والرجال من الأنس والجان ، وغير ذلك من الحيوانات والطيور ، فإذا أراد سفرا أو مستنزها ، أو قتال ملك أو أعداء من أي بلاد الله شاء ، فإذا حمل هذه الأمور المذكورة على البساط ، أمر الريح فدخلت تحته فرفعته ، فإذا استقل [ ص: 344 ] بين السماء والأرض أمر الرخاء فسارت به ، فإن أراد أسرع من ذلك أمر العاصفة فحملته أسرع ما يكون ، فوضعته في أي مكان شاء ، بحيث إنه كان يرتحل في أول النهار من بيت المقدس ، فتغدو به الريح فتضعه بإصطخر ، مسيرة شهر ، فيقيم هناك إلى آخر النهار ، ثم يروح من آخره ، فترده إلى بيت المقدس ، كما قال تعالى : ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر وأسلنا له عين القطر ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور [ سبأ : 12 ، 13 ] . قال : كان يغدو من الحسن البصري دمشق ، فينزل بإصطخر فيتغدى بها ، ويذهب رائحا منها فيبيت بكابل ، وبين دمشق وبين إصطخر مسيرة شهر ، وبين إصطخر وكابل مسيرة شهر . قلت : قد ذكر المتكلمون على العمران والبلدان ، أن إصطخر بنتها الجان لسليمان وكان فيها قرار مملكة الترك قديما ، وكذلك غيرها من بلدان شتى; كتدمر ، وبيت المقدس ، وباب جيرون ، وباب البريد ، اللذين بدمشق ، على أحد الأقوال . وأما القطر ، فقال ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وقتادة ، وغير واحد : هو النحاس . قال قتادة : وكانت باليمن ; أنبعها الله له . قال : ثلاثة أيام فقط ، أخذ منها جميع ما يحتاج إليه للبنايات وغيرها . السدي
[ ص: 345 ] وقوله : ومن الجن من يعمل بين يديه بإذن ربه ومن يزغ منهم عن أمرنا نذقه من عذاب السعير أي : وسخر الله له من الجن عمالا يعملون له ما يشاء ، لا يفترون ولا يخرجون عن طاعته ، ومن خرج منهم عن الأمر عذبه ونكل به . يعملون له ما يشاء من محاريب وهي الأماكن الحسنة وصدور المجالس . وتماثيل وهي الصور في الجدران ، وكان هذا سائغا في شريعتهم وملتهم . وجفان كالجواب قال ابن عباس : الجفنة كالجوبة من الأرض . وعنه : كالحياض . وكذا قال مجاهد ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وغيرهم . وعلى هذه الرواية يكون ( الجواب ) : جمع جابية ; وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، كما قال الأعشى :
نفى الذم عن آل المحلق جفنة كجابية السيح العراقي تفهق
وأما القدور الراسيات ، فقال عكرمة : أثافيها منها . يعني أنهن ثوابت لا يزلن عن أماكنهن . وهكذا قال مجاهد وغير واحد . ولما كان هذا بصدد إطعام الطعام ، والإحسان إلى الخلق من إنس وجان ، قال تعالى : اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور وقال تعالى : والشياطين كل بناء وغواص وآخرين مقرنين في الأصفاد [ ص : 37 ، 38 ] . يعني أن منهم من قد سخره في البناء ، ومنهم من يأمره بالغوص في الماء لاستخراج ما هنالك من [ ص: 346 ] الجواهر والللآلئ ، وغير ذلك مما لا يوجد إلا هنالك . وقوله : وآخرين مقرنين في الأصفاد أي : قد عصوا فقيدوا مقرنين اثنين اثنين في الأصفاد ، وهي القيود . هذا كله من جملة ما هيأ الله وسخر له من الأشياء التي هي من تمام الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ، ولم يكن أيضا لمن كان قبله . وقد قال : حدثنا البخاري ، حدثنا محمد بن بشار محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، عن محمد بن زياد ، عن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة إن عفريتا من الجن تفلت البارحة ليقطع علي صلاتي فأمكنني الله منه ، فأخذته فأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد ; حتى تنظروا إليه كلكم ، فذكرت دعوة أخي سليمان : " رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي " [ ص : 35 ] . فرددته خاسئا وكذا رواه مسلم ، من حديث والنسائي ، شعبة .
وقال مسلم : حدثنا محمد بن سلمة المرادي ، حدثنا عن عبد الله بن وهب معاوية بن صالح ، حدثني عن ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني قال : أبي الدرداء قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى ، فسمعناه يقول : أعوذ بالله منك ألعنك بلعنة الله . ثلاثا ، وبسط يده كأنه يتناول شيئا ، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك ، ورأيناك بسطت يدك . قال : إن عدو الله إبليس جاء بشهاب [ ص: 347 ] من نار ليجعله في وجهي فقلت : أعوذ بالله منك - ثلاث مرات - ثم قلت : ألعنك بلعنة الله التامة . فلم يستأخر - ثلاث مرات - ثم أردت أخذه ، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به ولدان أهل المدينة وكذا رواه عن النسائي به . محمد بن سلمة
وقال أحمد : حدثنا أبو أحمد ، حدثنا مسرة بن معبد ، ثنا أبو عبيد صاحب سليمان ، قال : رأيت عطاء بن يزيد الليثي قائما يصلي ، فذهبت أمر بين يديه ، فردني ثم قال : حدثني أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فصلى صلاة الصبح وهو خلفه ، فقرأ فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال : لو رأيتموني وإبليس ، فأهويت بيدي ، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين - الإبهام والتي تليها - ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سواري المسجد ، يتلاعب به صبيان المدينة ، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل روى أبو داود منه : فمن استطاع ، إلى آخره ، عن أحمد بن سريج عن به . أبي أحمد الزبيري
[ ص: 348 ] وقد ذكر غير واحد من السلف ، أنه لسليمان من النساء ألف امرأة ; سبعمائة بمهور ، وثلاثمائة سراري . وقيل بالعكس : ثلاثمائة حرائر وسبعمائة من الإماء . كانت
وقد كان يطيق من التمتع بالنساء أمرا عظيما جدا .
قال : حدثنا البخاري خالد بن مخلد ، حدثنا عن مغيرة بن عبد الرحمن ، ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة ، قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على سبعين امرأة ، تحمل كل امرأة فارسا يجاهد في سبيل الله . فقال له صاحبه : إن شاء الله . فلم يقل ، فلم تحمل شيئا إلا واحدا ساقطا أحد شقيه . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لو قالها لجاهدوا في سبيل الله وقال شعيب : " تسعين " . وهو أصح . تفرد به وابن أبي الزناد من هذا الوجه . البخاري
وقال أبو يعلى : حدثنا زهير ، حدثنا يزيد أنبأنا ، عن هشام بن حسان محمد ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة كل امرأة منهن تلد غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله . ولم يقل : إن شاء الله . فطاف تلك الليلة على مائة امرأة ، فلم تلد منهن امرأة ، إلا امرأة ولدت نصف إنسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قال : [ ص: 349 ] إن شاء الله . لولدت كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله عز وجل إسناده على شرط " الصحيح " ولم يخرجوه من هذا الوجه .
وقال : حدثنا الإمام أحمد هشيم ، ثنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن قال : قال أبي هريرة سليمان بن داود : لأطوفن الليلة على مائة امرأة ، تلد كل واحدة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله . ولم يستثن ; فما ولدت إلا واحدة منهن بشق إنسان . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو استثنى لولد له مائة غلام كلهم يقاتل في سبيل الله ، عز وجل تفرد به أحمد أيضا .
وقال : حدثنا الإمام أحمد عبد الرزاق ، ثنا معمر عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبي هريرة قال سليمان بن داود : لأطوفن الليلة بمائة امرأة ، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله . قال : ونسي أن يقول : إن شاء الله . فأطاف بهن ، قال : فلم تلد منهن امرأة ، إلا واحدة نصف إنسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو قال : إن شاء الله . لم يحنث ، وكان دركا لحاجته وهكذا أخرجاه في " الصحيحين " من حديث عبد الرزاق به مثله .
وقال : أنبأنا إسحاق بن بشر مقاتل ، عن ، أبي الزناد عن أبيه ، عن وابن أبي الزناد عبد الرحمن ، عن أبي هريرة : أن سليمان بن داود كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية ، فقال يوما : لأطوفن الليلة على ألف امرأة ، فتحمل كل [ ص: 350 ] واحدة منهن بفارس يجاهد في سبيل الله . ولم يستثن ، فطاف عليهن فلم تحمل واحدة منهن ، إلا امرأة واحدة منهن جاءت بشق إنسان . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وهذا إسناد ضعيف ; لحال والذي نفسي بيده لو استثنى فقال : إن شاء الله . لولد له ما قال ، فرسان ، ولجاهدوا في سبيل الله ، عز وجل ، فإنه منكر الحديث ، ولا سيما وقد خالف الروايات الصحاح . وقد كان له ، عليه السلام ، من أمور الملك ، واتساع الدولة ، وكثرة الجنود وتنوعها ، ما لم يكن لأحد قبله ، ولا يعطيه الله أحدا بعده ، كما قال : إسحاق بن بشر وأوتينا من كل شيء وقال : رب اغفر لي وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي إنك أنت الوهاب وقد أعطاه الله ذلك بنص الصادق المصدوق . ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليه وأسداه من النعم الكاملة العظيمة إليه ، قال : هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب أي; أعط من شئت واحرم من شئت ، فلا حساب عليك ، أي : تصرف في المال كيف شئت ; فإن الله قد سوغ لك كل ما تفعله من ذلك ولا يحاسبك على ذلك ، وهذا شأن النبي الملك بخلاف العبد الرسول ; فإن من شأنه أن لا يعطي أحدا ولا يمنع أحدا إلا بإذن الله له في ذلك .
وقد خير نبينا محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، بين هذين المقامين فاختار أن يكون عبدا رسولا . وفي بعض الروايات : أنه استشار جبريل في ذلك ، فأشار إليه أن تواضع . فاختار أن يكون عبدا رسولا ، صلوات الله [ ص: 351 ] وسلامه عليه . وقد جعل الله الخلافة والملك من بعده في أمته إلى يوم القيامة ، فلا تزال طائفة من أمته ظاهرين حتى تقوم الساعة . فلله الحمد والمنة .
ولما ذكر تعالى ما وهبه لنبيه سليمان ، عليه السلام ، من خير الدنيا ، نبه على ما أعده له في الآخرة من الثواب الجزيل والأجر الجميل ، والقربة التي تقربه إليه ، والفوز العظيم والإكرام بين يديه ، وذلك يوم المعاد والحساب ، حيث قال تعالى : وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب .