قال الله تعالى : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون [ آل عمران : 54 ، 55 ] . وقال تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا [ النساء : 155 - 159 ] . [ ص: 508 ] فأخبر تعالى أنه رفعه إلى السماء بعد ما توفاه بالنوم على الصحيح المقطوع به ، وخلصه ممن كان أراد أذيته من اليهود الذين وشوا به إلى بعض الملوك الكفرة في ذلك الزمان .
قال ، الحسن البصري : كان اسمه ومحمد بن إسحاق داود بن يورا فأمر بقتله وصلبه فحصروه في دار ببيت المقدس ، وذلك عشية الجمعة ليلة السبت ، فلما حان وقت دخولهم ألقي شبهه على بعض أصحابه الحاضرين عنده ، ورفع عيسى من روزنة من ذلك البيت إلى السماء ، وأهل البيت ينظرون ، ودخل الشرط فوجدوا ذلك الشاب الذي ألقي عليه شبهه ، فأخذوه ظانين أنه عيسى ، فصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه إهانة له ، وسلم لليهود عامة النصارى الذين لم يشاهدوا ما كان من أمر عيسى أنه صلب ، وضلوا بسبب ذلك ضلالا مبينا كثيرا فاحشا بعيدا ، وأخبر تعالى بقوله : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته أي : بعد ، قبل قيام الساعة ، فإنه ينزل ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام ، كما بينا ذلك بما ورد فيه من الأحاديث عند تفسير هذه الآية الكريمة من سورة " النساء " وكما سنورد ذلك مستقصى [ ص: 509 ] في كتاب " الفتن والملاحم " عند أخبار المسيح الدجال ، فنذكر ما ورد في نزول نزوله إلى الأرض في آخر الزمان المسيح المهدي ، عليه السلام من ذي الجلال ; لقتل المسيح الدجال الكذاب الداعي إلى الضلال . وهذا ذكر ما ورد في الآثار في صفة رفعه إلى السماء .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عن المنهال بن عمرو ، سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء ، خرج على أصحابه ، وفي البيت اثنا عشر رجلا منهم - من الحواريين يعني - فخرج عليهم من عين في البيت ، ورأسه يقطر ماء فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي . ثم قال : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ، ويكون معي في درجتي ؟ فقام شاب من أحدثهم سنا ، فقال له : اجلس . ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال : اجلس . ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال : أنا . فقال : أنت هو ذاك . فألقي عليه شبه عيسى ، ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء . قال : وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت طائفة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء . وهؤلاء اليعقوبية ، وقالت [ ص: 510 ] فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ، ثم رفعه الله إليه . وهؤلاء النسطورية ، وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ، ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء المسلمون ، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : وذلك قوله تعالى : فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين [ الصف : 14 ] . وهذا إسناد صحيح - إلى ابن عباس - على شرط مسلم ، ورواه ، عن النسائي أبي كريب ، عن أبي معاوية به نحوه ، ورواه ابن جرير عن سلم بن جنادة ، عن أبي معاوية ، وهكذا ذكر غير واحد من السلف ، وممن ذكر ذلك مطولا محمد بن إسحاق بن يسار ، قال : وجعل عيسى ، عليه السلام ، يدعو الله ، عز وجل ، أن يؤخر أجله ، يعني ليبلغ الرسالة ، ويكمل الدعوة ، ويكثر الناس الدخول في دين الله ، عز وجل . قيل : وكان عنده من الحواريين اثنا عشر رجلا ; بطرس ، ويعقوب بن زبدي ، ويحنس أخو يعقوب ، وأندراوس ، وفليبس ، وأبرثلما ، ومتى ، وتوماس ، ويعقوب بن حلقيا ، وتداوس ، وفتاتيا ، يودس زكريا يوطا ، وهذا هو الذي دل اليهود على عيسى . قال ابن إسحاق وكان فيهم رجل آخر اسمه سرجس ، كتمته [ ص: 511 ] النصارى ، وهو الذي ألقي شبه المسيح عليه ، فصلب عنه . قال : وبعض النصارى يزعم أن الذي صلب عن المسيح وألقي عليه شبهه ، يودس زكريا يوطا . والله أعلم .
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : استخلف عيسى شمعون ، وقتلت اليهود يودس زكريا يوطا الذي ألقي عليه الشبه . وقال أحمد بن مروان : حدثنا محمد بن الجهم . قال : سمعت الفراء يقول في قوله : ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين قال : إن عيسى غاب عن خالته زمانا ، فأتاها فقام رأس الجالوت اليهودي ، فضرب على عيسى ، حتى اجتمعوا على باب داره ، فكسروا الباب ، ودخل رأس الجالوت ليأخذ عيسى ، فطمس الله عينيه عن عيسى ثم خرج إلى أصحابه فقال : لم أره . ومعه سيف مسلول ، فقالوا : أنت عيسى . وألقى الله شبه عيسى عليه ، فأخذوه ، فقتلوه ، وصلبوه ، فقال جل ذكره : وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وقال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي ، عن هارون بن عنترة ، عن ، قال : أتى وهب بن منبه عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت ، فأحاطوا بهم ، فلما دخلوا عليهم صورهم الله كلهم على صورة عيسى ، فقالوا لهم : سحرتمونا ، لتبرزن لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعا ، فقال [ ص: 512 ] عيسى لأصحابه : من يشتري منكم نفسه اليوم بالجنة . فقال رجل : أنا . فخرج إليهم ، فقال : أنا عيسى . وقد صوره الله على صورة عيسى ، فأخذوه فقتلوه وصلبوه ، فمن ثم شبه لهم ، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى ، وظنت النصارى مثل ذلك ، أنه عيسى ، ورفع الله عيسى من يومه ذلك .
قال ابن جرير : وحدثنا المثنى ، حدثنا إسحاق ، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهبا يقول : إن عيسى ابن مريم لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا جزع من الموت ، وشق عليه ، فدعا الحواريين وصنع لهم طعاما فقال : احضروني الليلة ; فإن لي إليكم حاجة . فلما اجتمعوا إليه من الليل عشاهم ، وقام يخدمهم ، فلما فرغوا من الطعام ، أخذ يغسل أيديهم ويوضئهم بيده ، ويمسح أيديهم بثيابه ، فتعاظموا ذلك وتكارهوه ، فقال : ألا من رد علي شيئا الليلة مما أصنع فليس مني ولا أنا منه . فأقروه حتى إذا فرغ من ذلك قال : أما ما صنعت بكم الليلة مما خدمتكم على الطعام ، وغسلت أيديكم بيدي ، فليكن لكم بي أسوة ، فإنكم ترون أني خيركم فلا يتعظم بعضكم على بعض ، وليبذل بعضكم لبعض نفسه كما بذلت نفسي لكم ، وأما حاجتي التي استعنتكم عليها ، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء أن يؤخر أجلي . فلما نصبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا ، أخذهم النوم حتى لم يستطيعوا دعاء ، فجعل يوقظهم ويقول : سبحان الله ، [ ص: 513 ] أما تصبرون لي ليلة واحدة ، تعينوني فيها ؟ فقالوا : والله ما ندري ما لنا ، والله لقد كنا نسمر فنكثر السمر ، وما نطيق الليلة سمرا ، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه . فقال : يذهب بالراعي وتتفرق الغنم . وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعى به نفسه . ثم قال : الحق ليكفرن بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات ، وليبيعني أحدكم بدراهم يسيرة ، وليأكلن ثمني . فخرجوا وتفرقوا ، وكانت اليهود تطلبه فأخذوا شمعون - أحد الحواريين - فقالوا : هذا من أصحابه . فجحد وقال : ما أنا بصاحبه . فتركوه ثم أخذه آخرون فجحد كذلك ، ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه . فلما أصبح أتى أحد الحواريين إلى اليهود ، فقال : ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح . فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلهم عليه . وكان شبه عليهم قبل ذلك فأخذوه واستوثقوا منه ، وربطوه بالحبل وجعلوا يقودونه ، ويقولون : أنت كنت تحيي الموتى وتنتهر الشيطان ، وتبرئ المجنون ، أفلا تنجي نفسك من هذا الحبل ؟ ويبصقون عليه ، ويلقون عليه الشوك ، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها ، فرفعه الله إليه وصلبوا ما شبه لهم ، فمكث سبعا . ثم إن أمه والمرأة التي كان يداويها عيسى ، فأبرأها الله من الجنون ، جاءتا تبكيان حيث كان المصلوب ، فجاءهما عيسى ، فقال : علام تبكيان . قالتا : عليك . فقال : إني قد رفعني الله إليه ، ولم يصبني إلا خير ، وإن هذا شيء شبه لهم ، فأمرا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا . فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر ، وفقد الذي كان باعه ودل عليه اليهود ، فسأل عنه أصحابه فقالوا : إنه [ ص: 514 ] ندم على ما صنع ، فاختنق وقتل نفسه . فقال : لو تاب لتاب الله عليه . ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له : يحنا . فقال : هو معكم فانطلقوا فإنه سيصبح كل إنسان منكم يحدث بلغة قوم فلينذرهم وليدعهم . وهذا إسناد غريب عجيب ، وهو أصح مما ذكره النصارى ، لعنهم الله ، من أن المسيح جاء إلى مريم ، وهي جالسة تبكي عند جذعه ، فأراها مكان المسامير من جسده ، وأخبرها أن روحه رفعت ، وأن جسده صلب ، وهذا بهت وكذب واختلاق وتحريف وتبديل وزيادة باطلة في الإنجيل على خلاف الحق ومقتضى النقل .
وحكى ، من طريق الحافظ ابن عساكر يحيى بن حبيب ، فيما بلغه أن مريم سألت من بيت الملك - بعد ما صلب المصلوب بسبعة أيام ، وهي تحسب أنه ابنها - أن ينزل جسده ، فأجابهم إلى ذلك ، ودفن هنالك ، فقالت مريم لأم يحيى : ألا تذهبين بنا نزور قبر المسيح . فذهبتا فلما دنتا من القبر ، قالت مريم لأم يحيى : ألا تستترين . فقالت : وممن أستتر . فقالت : من هذا الرجل الذي هو عند القبر . فقالت أم يحيى : إني لا أرى أحدا . فرجت مريم أن يكون جبريل ، وكانت قد بعد عهدها به فاستوقفت أم يحيى وذهبت نحو القبر ، فلما دنت من القبر قال لها جبريل ، وعرفته : يا مريم ، أين تريدين ؟ فقالت : أزور قبر المسيح وأسلم عليه وأحدث عهدا به . فقال : يا مريم ، إن هذا ليس المسيح ، إن الله قد رفع المسيح وطهره من الذين كفروا ، ولكن هذا الفتى الذي ألقي شبهه عليه وصلب وقتل مكانه ، وعلامة ذلك أن أهله قد [ ص: 515 ] فقدوه فلا يدرون ما فعل به ، فهم يبكون عليه ، فإذا كان يوم كذا وكذا ، فأتي غيضة كذا وكذا ، فإنك تلقينالمسيح . قال : فرجعت إلى أختها ، وصعد جبريل فأخبرتها عن جبريل ، وما قال لها من أمر الغيضة . فلما كان ذلك اليوم ، ذهبت فوجدت عيسى في الغيضة ، فلما رآها أسرع إليها فأكب عليها ، فقبل رأسها وجعل يدعو لها كما كان يفعل ، وقال : يا أمه ، إن القوم لم يقتلوني ، ولكن الله رفعني إليه ، وأذن لي في لقائك ، والموت يأتيك قريبا ، فاصبري واذكري الله . ثم صعد عيسى فلم تلقه إلا تلك المرة حتى ماتت . قال : وبلغني أن مريم بقيت بعد عيسى خمس سنين ، وماتت ولها ثلاث وخمسون سنة ، رضي الله عنها وأرضاها .
وقال : كان الحسن البصري عيسى ، عليه السلام ، يوم رفع ، أربعا وثلاثين سنة . وفي الحديث : عمر إن أهل الجنة يدخلونها جردا مردا مكحلين ، أبناء ثلاث وثلاثين سنة وفي الحديث الآخر : على ميلاد عيسى ، وحسن يوسف وكذا قال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن ، أنه قال : رفع سعيد بن المسيب عيسى ، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة .
فأما الحديث الذي رواه في " مستدركه " ، الحاكم في " تاريخه " ، عن ويعقوب بن سفيان الفسوي عن سعيد بن أبي مريم ، نافع بن يزيد ، عن [ ص: 516 ] عمارة بن غزية ، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ، أن أمه فاطمة بنت الحسين ، حدثته أن عائشة كانت تقول : فاطمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرها أنه لم يكن نبي كان بعده نبي إلا عاش الذي بعده نصف عمر الذي كان قبله ، وأنه أخبرني : أن عيسى ابن مريم عاش عشرين ومائة سنة ، فلا أراني إلا ذاهب على رأس ستين هذا لفظ أخبرتني الفسوي ; فهو حديث غريب .
قال : والصحيح أن الحافظ بن عساكر عيسى لم يبلغ هذا العمر ، وإنما أراد به مدة مقامه في أمته ، كما روى سفيان بن عيينة ، عن ، عن عمرو بن دينار يحيى بن جعدة ، قال : قالت فاطمة : عيسى ابن مريم مكث في بني إسرائيل أربعين سنة وهذا منقطع . وقال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن جرير ، ، عن والثوري الأعمش عن إبراهيم : مكث عيسى في قومه أربعين عاما . ويروى عن أمير المؤمنين علي ، أن عيسى ، عليه السلام ، رفع ليلة الثاني والعشرين من رمضان ، وتلك الليلة في مثلها توفي علي بعد طعنه بخمسة أيام . وقد روى الضحاك ، عن ابن عباس أن عيسى لما رفع إلى السماء جاءته سحابة فدنت منه حتى جلس عليها ، وجاءته مريم فودعته وبكت ، ثم رفع وهي تنظر إليه وألقى إليها عيسى بردا له وقال : هذا علامة ما بيني وبينك يوم القيامة . وألقى عمامته إلى شمعون ، وجعلت أمه تودعه بأصبعها ، تشير بها إليه حتى غاب عنها . وكانت تحبه حبا شديدا ; لأنه توفر [ ص: 517 ] عليها حبه من جهتي الوالدين ، إذ لا أب له ، وكانت لا تفارقه سفرا ولا حضرا . قال بعض الشعراء :
وكنت أرى كالموت من بين ساعة فكيف ببين كان موعده الحشر
وذكر عن إسحاق بن بشر مجاهد بن جبر ، أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل الذي شبه لهم ، وهم يحسبونه المسيح ، وسلم لهم أكثر النصارى ; بجهلهم ذلك ، تسلطوا على أصحابه بالقتل والضرب والحبس فبلغ أمرهم إلى صاحب الروم ، وهو ملك دمشق في ذلك الزمان ، فقيل له : إن اليهود قد تسلطوا على أصحاب رجل كان يذكر لهم أنه رسول الله ، وكان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويفعل العجائب ، فعدوا عليه فقتلوه ، وأهانوا أصحابه وحبسوهم . فبعث فجيء بهم وفيهم يحيى بن زكريا ، وشمعون ، وجماعة ، فسألهم عن أمر المسيح ، فأخبروه عنه فتابعهم في دينهم وأعلى كلمتهم ، وظهر الحق على اليهود ، وعلت كلمة النصارى عليهم ، وبعث إلى المصلوب فوضع عن جذعه ، وجيء بالجذع الذي صلب عليه ذلك الرجل فعظمه ، فمن ثم عظمت النصارى الصليب ، ومن هاهنا دخل دين النصرانية في الروم . وفي هذا نظر من وجوه ; أحدها ، أن يحيى بن زكريا نبي ، لا يقر على أن المصلوب عيسى ; فإنه معصوم يعلم ما وقع على جهة الحق . الثاني ، أن الروم لم يدخلوا في دين المسيح إلا بعد ثلاثمائة سنة ، [ ص: 518 ] وذلك في زمان قسطنطين بن قسطس باني المدينة المنسوبة إليه على ما سنذكره . الثالث ، أن اليهود لما صلبوا ذلك الرجل ثم ألقوه بخشبته جعلوا مكانه مطرحا للقمامة والنجاسة وجيف الميتات والقاذورات ، فلم يزل كذلك حتى كان في زمان قسطنطين المذكور ، فعمدت أمه هيلانة الحرانية الفندقانية فاستخرجته من هنالك معتقدة أنه المسيح ، ووجدوا الخشبة التي صلب عليها المصلوب ، فذكروا أنه ما مسها ذو عاهة إلا عوفي . فالله أعلم أكان هذا أم لا ؟ وهل كان هذا لأن ذلك الرجل الذي بذل نفسه كان رجلا صالحا ، أو كان هذا محنة وفتنة لأمة النصارى في ذلك اليوم ؟ حتى عظموا تلك الخشبة وغشوها بالذهب واللآلئ ، ومن ثم اتخذوا الصلبانات وتبركوا بشكلها وقبلوها ، لعنهم الله ، وأمرت أم الملك هيلانة فأزيلت تلك القمامة ، وبني مكانها كنيسة هائلة مزخرفة بأنواع الزينة . فهي هذه المشهورة اليوم ببلدبيت المقدس ، التي يقال لها : القمامة . باعتبار ما كان عندها ، ويسمونها القيامة ، يعنون التي يقوم جسد المسيح منها . ثم أمرت هيلانة بأن توضع قمامة البلد ، وكناسته وقاذوراته على الصخرة التي هي قبلة اليهود ، فلم تزل كذلك حتى فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، بيت المقدس ، فكنس عنها القمامة بردائه ، وطهرها من الأخباث والأنجاس ، ولم يضع المسجد وراءها ، ولكن أمامها ، حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليلة الإسراء بالأنبياء ، وهو الأقصى .