[ ص: 269 ] ثم دخلت سنة سبع وسبعين 
فيها أخرج الحجاج  مقاتلة أهل الكوفة   ، وكانوا أربعين ألفا ، وانضاف عليهم عشرة آلاف ، فصاروا خمسين ألفا ، وأمر عليهم عتاب بن ورقاء  ، وأمره أن يقصد  لشبيب بن يزيد  أين كان ، وأن يصمم عليه ، وعلى من معه ، وكانوا قد تجمعوا ألف رجل ، وأن لا يفعلوا كما كانوا يفعلون قبلها من الفرار والهزيمة . 
ولما بلغ شبيبا  ما بعث به الحجاج  إليه من الجنود ، لم يعبأ بهم شيئا ، بل قام في أصحابه خطيبا ، فوعظهم وذكرهم ، وحثهم على الصبر عند اللقاء ، ومناجزة الأعداء ، ثم سار شبيب  بأصحابه نحو عتاب بن ورقاء  ، فالتقيا في آخر النهار عند غروب الشمس ، فأمر شبيب  مؤذنه سلام بن سيار الشيباني  فأذن المغرب ، ثم صلى شبيب  بأصحابه المغرب ، وصف عتاب  أصحابه - وكان قد خندق حول جيشه من أول النهار - فلما صلى شبيب  بأصحابه المغرب انتظر حتى طلع القمر وأضاء ، تأمل الميمنة والميسرة ، ثم حمل على أصحاب رايات عتاب  ، وهو يقول : أنا شبيب أبو المدله  ، لا حكم إلا لله . فهزمهم ، وقتل أميرهم قبيصة بن والق  ، وجماعة من الأمراء معه ، ثم كر على الميمنة وعلى الميسرة ، ففرق شمل كل واحدة منهما ، ثم قصد القلب ، فما زال حتى قتل الأمير عتاب بن ورقاء  ،   [ ص: 270 ] وزهرة بن حوية  ، وولى عامة الجيش مدبرين ، وداسوا الأمير عتابا  ، وزهرة  ، فوطئته الخيل ، وقتل في المعركة عمار بن يزيد الكلبي  ، ثم قال شبيب  لأصحابه : لا تتبعوا منهزما . وانهزم جيش الحجاج  عن بكرة أبيهم راجعين إلى الكوفة    . 
وكان شبيب  لما احتوى على المعسكر أخذ ممن بقي منهم البيعة له بالإمارة وقال لهم : إلى ساعة تهربون ؟ ثم احتوى على ما في المعسكر من الأموال والحواصل ، واستدعى بأخيه مصاد من المدائن ، ثم قصد نحو الكوفة  ، وقد وفد إلى الحجاج  سفيان بن الأبرد الكلبي  ، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي  من مذحج  في ستة آلاف فارس ، ومعهما خلق من أهل الشام  ، فاستغنى الحجاج  بهم عن نصرة أهل الكوفة   ، وقام في الناس خطيبا ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، يا أهل الكوفة   لا أعز الله من أراد بكم العز ، ولا نصر من أراد بكم النصر ، اخرجوا عنا فلا تشهدوا معنا قتال عدونا ، الحقوا بالحيرة فانزلوا مع اليهود  والنصارى  ، فلا يقاتلن معنا إلا من كان لنا عاملا ، ومن لم يشهد قتال عتاب بن ورقاء    . وعزم الحجاج  على قتال شبيب  بنفسه ، وسار شبيب  حتى بلغ الصراة ، وخرج إليه الحجاج  بمن معه من الشاميين  وغيرهم ، فلما تواجه الفريقان نظر الحجاج  إلى شبيب  وهو في ستمائة من أصحابه ، فخطب الحجاج  أهل الشام   وقال : يا أهل الشام   ،   [ ص: 271 ] أنتم أهل السمع والطاعة ، والصبر واليقين ، لا يغلبن باطل هؤلاء الأرجاس حقكم ، غضوا الأبصار ، واجثوا على الركب ، واستقبلوا بأطراف الأسنة . ففعلوا ذلك . 
وأقبل شبيب  وقد عبأ أصحابه ثلاث فرق ; واحدة معه ، وأخرى مع سويد بن سليم  ، وأخرى مع المجلل بن وائل  ، وأمر شبيب  سويدا أن يحمل ، فحمل على جيش الحجاج  ، فصبروا له حتى إذا دنا منهم وثبوا إليه وثبة واحدة ، فانهزم عنهم ، فنادى الحجاج    : يا أهل السمع والطاعة ، هكذا فافعلوا . ثم أمر الحجاج  فقدم كرسيه الذي هو جالس عليه إلى الأمام ، ثم أمر شبيب المجلل  أن يحمل ، فحمل ، ففعلوا به كما فعلوا بسويد  ، وقال لهم الحجاج  كما قال لأولئك ، وقدم كرسيه إلى أمام ، ثم إن شبيبا  حمل عليهم في كتيبته فثبتوا له ، حتى إذا غشى أطراف الأسنة وثبوا في وجهه فقاتلهم طويلا ، ثم إن أهل الشام   طاعنوه قدما حتى ألحقوه بأصحابه ، فلما رأى صبرهم نادى : يا سويد  ، احمل في خيلك على أهل هذه السكة ; لعلك تزيل أهلها عنها ، فأت الحجاج  من ورائه ، ونحمل نحن عليه من أمامه . فحمل فلم يفد ذلك شيئا ، وذلك أن الحجاج  كان قد جعل عروة بن المغيرة بن شعبة  في ثلاثمائة فارس ردءا له من ورائه ; لئلا يؤتوا من خلفهم ، وكان الحجاج  بصيرا بالحرب أيضا ، فعند ذلك حرض شبيب  أصحابه على الحملة ، وأمرهم بها ، ففهم ذلك الحجاج  ، فنادى : يا أهل السمع والطاعة ، اصبروا لهذه الشدة الواحدة ، ثم ورب السماء والأرض ما شيء دون الفتح . فجثوا على الركب ، وحمل عليهم شبيب  بجميع أصحابه ، فلما غشيهم نادى   [ ص: 272 ] الحجاج  بجماعة الناس ، فوثبوا في وجهه ، فما زالوا يطعنون ويطعنون ، وهم مستظهرون على شبيب  وأصحابه حتى ردوهم عن مواقفهم إلى ما وراءها ، فنادى شبيب  في أصحابه : يا أولياء الله ، الأرض الأرض . ثم نزل ونزل أصحابه ، ونادى الحجاج    : يا أهل الشام  ، يا أهل السمع والطاعة ، هذا أول النصر والذي نفسي بيده . وصعد مسجدا هنالك لشبيب  ، ومعه نحو من عشرين رجلا معهم النبل ، واقتتل الناس قتالا شديدا عامة النهار ، من أشد قتال في الأرض ، حتى أقر كل واحد من الفريقين لصاحبه ، والحجاج  ينظر إلى الفريقين من مكانه ، ثم إن خالد بن عتاب  استأذن الحجاج  في أن يركب في جماعة فيأتي الخوارج  من ورائهم ، فأذن له ، فانطلق في جماعة معه نحو من أربعة آلاف ، فدخل عسكر الخوارج  من ورائهم ، فقتل مصادا  أخا شبيب  ، وغزالة  امرأة شبيب ;  قتلها رجل يقال له : فروة بن دفان الكلبي    . وخرق في جيش شبيب  ، ففرح بذلك الحجاج  وأصحابه وكبروا ، وانصرف شبيب  وأصحابه كل منهم على فرس ، فأمر الحجاج  الناس أن ينطلقوا في تطلبهم ، فشدوا عليهم فهزموهم ، وتخلف شبيب  في حامية الناس ، ثم انطلق واتبعه الطلب ، فجعل ينعس وهو على فرسه حتى يخفق برأسه ، ودنا منه الطلب ، فجعل بعض أصحابه ينهاه عن النعاس في هذه الساعة ، فجعل لا يكترث بهم ، ويعود فتخفق رأسه ، فلما طال ذلك بعث الحجاج  إلى أصحابه يقول : دعوه في   [ ص: 273 ] حرق النار . فتركوه ورجعوا . 
ثم دخل الحجاج  الكوفة  ، فخطب الناس ، فقال في خطبته : إن شبيبا  لم يهزم قبلها . ثم قصد شبيب  الكوفة  ، فخرجت إليه سرية من جيش الحجاج  ، فالتقوا معه يوم الأربعاء ، فهزم الخوارج  يوم الجمعة ، وسارت الخوارج  هاربين . 
وكان على سرية الحجاج  الحارث بن معاوية الثقفي  في ألف فارس معه ، فحمل شبيب  على الحارث بن معاوية  ، فكسره ومن معه ، وقتل منهم طائفة ، ودخل الناس الكوفة  هاربين ، وحصن الناس السكك ، فخرج إليه أبو الورد مولى الحجاج  في طائفة من الجيش ، فقاتل حتى قتل ، ثم هرب أصحابه ، ودخلوا الكوفة  ، ثم خرج إليه أمير آخر فانكسر أيضا ، ثم سار شبيب  بأصحابه نحو السواد  ، فمروا بعامل الحجاج  على تلك البلاد فقتلوه ، ثم خطب أصحابه وقال : اشتغلتم بالدنيا عن الآخرة . ثم رمى بالمال في الفرات ،  ثم سار بهم حتى افتتح بلادا كثيرة ، ولا يبرز له أحد إلا قتله ، ثم خرج إليه بعض الأمراء الذين على بعض المدن ، فقال له : يا شبيب  ابرز إلي وأبرز إليك - وكان صديقه - فقال له شبيب    : إني لا أحب قتلك . فقال له : لكني أحب قتلك ، فلا تغرنك نفسك وما تقدم من الوقائع . ثم حمل عليه فضربه شبيب  على رأسه ، فهمس رأسه حتى اختلط دماغه بلحمه وعظمه ، ثم كفنه ودفنه ، ثم إن الحجاج  أنفق أموالا كثيرة على الجيوش والعساكر في طلب شبيب  فلم يطيقوه ولم يقدروا عليه ، وإنما سلط الله عليه موتا قدرا   [ ص: 274 ] من غير صنعهم ، ولا صنعه في هذه السنة . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					