[ ص: 359 ] ثم دخلت سنة خمس وثمانين 
فيها - كما ذكر ابن جرير    - كان مقتل  عبد الرحمن بن الأشعث الكندي   فالله أعلم . وفيها عزل الحجاج  عن إمرة خراسان  يزيد بن المهلب ،  وولى عليها أخاه المفضل بن المهلب ،   وكان سبب ذلك أن الحجاج  وفد مرة على عبد الملك  فلما انصرف مر بدير ، فقيل له : إن فيه شيخا كبيرا من أهل الكتاب عالما . فدعي له فقال : يا شيخ ، هل تجدون في كتبكم ما أنتم فيه وما نحن فيه؟ قال : نعم . قال له : فما تجدون صفة أمير المؤمنين؟ قال : نجده ملكا أقرع من يقم بسبيله يصرع . قال : ثم من؟ قال : ثم رجل يقال له : الوليد    . قال : ثم ماذا؟ قال : ثم رجل اسمه اسم نبي ، يفتح به على الناس . قال : أفتعرفني؟ قال : قد أخبرت بك . قال : أفتعرف ما ألي؟ قال : نعم . قال : فمن يلي العراق  بعدي؟ قال : رجل يقال له : يزيد . قال : أفي حياتي أو بعد موتي؟ قال : لا أدري . قال : أفتعرف صفته؟ قال : يغدر غدرة لا أعرف غيرها . 
 [ ص: 360 ] قال : فوقع في نفس الحجاج  أنه يزيد بن المهلب  ، وسار سبعا وهو وجل من كلام الشيخ ، ثم بعث إلى عبد الملك  يستعفيه من ولاية العراق ;  ليعلم مكانته عنده ، فجاء الكتاب بالتقريع والتأنيب والتوبيخ ، والأمر بالثبات والاستمرار على ما هو عليه ، ثم إن الحجاج  جلس يوما مفكرا ، واستدعى بعبيد بن موهب ،  فدخل عليه وهو ينكت في الأرض ، فرفع رأسه إليه ، فقال : ويحك يا عبيد ،  إن أهل الكتاب يذكرون أن ما تحت يدي سيليه رجل يقال له : يزيد    . وقد تذكرت يزيد بن أبي كبشة  ويزيد بن حصين بن نمير ،  ويزيد بن دينار ،  فليسوا هناك وما هو - إن كان - إلا يزيد بن المهلب  ، فقال عبيد    : لقد شرفتهم ، وعظمت ولايتهم ، وإن لهم لعددا وجلدا وحظا فأخلق به . فأجمع رأي الحجاج  على عزل يزيد بن المهلب  ، فكتب إلى عبد الملك  يذمه ويخوفه غدره ، ويخبره بما أخبره به ذلك الشيخ ، وكتب إليه عبد الملك    : قد أكثرت في شأن يزيد ،  فسم رجلا يصلح لخراسان ،  فوقع اختيار الحجاج  على المفضل بن المهلب ،  فولاه قليلا تسعة أشهر ، فغزا باذغيس  وغيرها ، وغنم مغانم كثيرة ، وامتدحه الشعراء ثم عزله بقتيبة بن مسلم    . 
قال ابن جرير    : وفي هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم  بترمذ    .   [ ص: 361 ] ثم ذكر سبب ذلك ، وملخصه : أنه بعد مقتل أبيه لم يبق بيده بلد يلجأ إليه بمن معه من أصحابه ، فجعل كلما اقترب من بلدة خرج إليه ملكها فقاتله ، فلم يزل ذلك دأبه حتى نزل قريبا من ترمذ  ، وكان ملكها فيه ضعف ، فجعل يهادنه ويبعث إليه بالألطاف والتحف ، حتى جعل يتصيد هو وهو ، ثم عن للملك فعمل له طعاما ، وبعث إلى موسى بن عبد الله بن خازم    : أن ائتني في مائة من أصحابك ، فاختار موسى  من جيشه مائة من شجعانهم ، ثم دخل البلد ، فأكل من طعام الملك ، فلما فرغت الضيافة اضطجع موسى  على جنبه في دار الملك ، وقال : والله لا أقوم من هنا حتى يكون هذا المنزل منزلي ، أو يكون قبري ، فثار أهل القصر إليه فحاجف عنه أصحابه ، ثم وقعت الحرب بينهم وبين أهل ترمذ   ، فاقتتلوا ، فقتل من أهل ترمذ   خلق كثير ، وهرب بقيتهم ، واستدعى موسى  بقية جيشه إليه ، واستحوذ موسى  على البلد فحصنها ومنعها من الأعداء ، وخرج منها ملكها هاربا ، فلجأ إلى إخوانه من الأتراك  فاستنصرهم ، فقالوا له : هؤلاء قوم في نحو من مائة رجل أخرجوكم من بلدكم لا طاقة لنا بقتال هؤلاء . ثم ذهب ملك ترمذ  إلى طائفة أخرى من الترك  فاستصرخهم ، فبعثوا معه قصادا نحو موسى ;  ليسمعوا كلامه ، فلما أحس بقدومهم - وكان ذلك في شدة الحر - أمر أصحابه أن يؤججوا نارا ، ويلبسوا ثياب الشتاء ، ويدنوا أيديهم من النار كأنهم يصطلون بها ، فلما وصلت إليهم الرسل ، رأوا أصحابه وما يصنعون   [ ص: 362 ] في شدة الحر ، فقالوا لهم : ما هذا الذي تفعلونه ؟ فقالوا لهم : إنا نجد البرد في الصيف والكرب في الشتاء ، فرجعوا إلى أنفسهم فقالوا : ما هؤلاء بشر ، ما هؤلاء إلا جن . ثم عادوا إلى ملكهم فأخبروه بما رأوا ، فقالوا : لا طاقة لنا بقتال هؤلاء . ثم ذهب صاحب ترمذ  فاستجاش بطائفة أخرى ، فجاءوا فحاصروهم بترمذ ،  وجاء الخزاعي  فحاصرهم أيضا ، فجعل يقاتل الخزاعي  أول النهار ، ويقاتل آخره العجم ، ثم إن موسى  بيتهم ، فقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأفزع ذلك عمر الخزاعي  فصالحه ، وكان معه ، فدخل يوما عليه وليس عنده أحد ، وليس يرى معه سلاحا ، فقال على وجه النصح : أصلح الله الأمير ، إن مثلك لا ينبغي أن يكون بلا سلاح . فقال : إن عندي سلاحا . ثم رفع صدر فراشه فإذا سيفه منتضى ، فأخذه عمر ،  فضربه به حتى برد ، وخرج هاربا ، ثم تفرق أصحاب موسى بن عبد الله بن خازم    . 
قال ابن جرير    : وفي هذه السنة عزم عبد الملك  على عزل أخيه عبد العزيز بن مروان  عن إمرة الديار المصرية  ، وحسن له ذلك روح بن زنباع  الجذامي ، فبينما هما في ذلك إذ دخل عليهما  قبيصة بن ذؤيب  في الليل ، وكان لا يحجب عنه أي ساعة جاء من ليل أو نهار ، فعزاه في أخيه عبد العزيز ،  فندم على ما كان منه من العزم على عزله ، وإنما حمله على إرادة عزله أنه أراد أن يعهد بالأمر من بعده لأولاده ; الوليد  ثم سليمان  ثم يزيد  ثم هشام ،  وذلك عن رأي الحجاج  وترتيبه ذلك لعبد الملك ،  وكان أبوه مروان   [ ص: 363 ] عهد بالأمر إلى عبد الملك ،  ثم من بعده إلى عبد العزيز ،  فأراد عبد الملك  أن ينحيه عن الإمرة من بعده بالكلية ، ويجعل الأمر في أولاده وعقبه ، وأن تكون الخلافة باقية فيهم ، والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					