المستعين بالله
الخليفة ، أبو العباس ، أحمد بن المعتصم بالله محمد بن هارون الرشيد بن المهدي العباسي ، أخو الواثق والمتوكل . ولد سنة إحدى وعشرين ومائتين . وبويع في ربيع الآخر سنة ثمان وأربعين ، عند موت أخيه المنتصر . وكان أحمر الوجه ، ربع القامة ، خفيف العارضين ، مليح الصورة ، بوجهه أثر جدري ، بمقدم رأسه طول ، يلثغ بالسين كالثاء . وأمه أم ولد . وكان متلافا للمال ، مبذرا ، فرق الجواهر وفاخر الثياب ، اختلت الخلافة بولايته ، واضطربت الأمور . استوزر أبا موسى أوتامش بإشارة كاتبه شجاع بن القاسم ، ثم قتلهما ، واستوزر أحمد بن صالح بن شبرزاذ . ولما قتل باغر التركي الذي قتل المتوكل غضبت له الموالي ، وكان المستعين من تحت أوامر وصيف وبغا ، وكان جيد الأدب ، حسن الفضيلة ، واسم أمه مخارق . [ ص: 47 ] ولما مات المنتصر استوزر الأمراء وابن أبي الخصيب ، فقال لهم أوتامش : متى وليتم أحدا من ولد المتوكل ، لا يبقي منا أحدا . فقالوا : ما لها إلا أحمد بن المفتصد ، هو ابن أستاذنا . فقال محمد بن موسى المنجم سرا : أتولون رجلا يرى أنه أحق بالإمامة من المتوكل . اصطنعوا من يعرف لكم ذاك . فأبوا وبايعوه ، واستقل أياما فبينا هو قد دخل مجلس الخلافة إذا جماعة من الغوغاء والشاكرية والجند نحو الألف في السلاح ، وصاحوا : المعتز يا منصور . فنشبت الحرب ، وقتل جماعة ، ومضى المستعين إلى القصر الهاروني ، فبات به ، ونهبت الغوغاء الدار وعدة دور ، وحازوا سلاحا كثيرا ، فزجرهم بغا الصغير عن دار الخلافة ، وكثرت القتلى ، فبذل المستعين الخزائن ، فسكنوا ، وبويع له ببغداد ، وأميرها محمد بن عبد الله بن طاهر . ثم غضب المستعين بإشارة أوتامش الوزير على أحمد بن الخصيب ، وأخذ أمواله ، ونفاه إلى جزيرة أقريطش . ومات متولي طاهر بن عبد الله خراسان ، فولى المستعين ابنه محمد بن طاهر موضعه ، وولى العراق والحرمين أخاه محمد بن عبد الله . ومات بغا الكبير ، فولى مكانه ولده موسى بن بغا . وسجن المعتز والمؤيد ، وضيق عليهما ، واشترى أملاكهما كرها . وقرر لهما في العام نيفا وعشرين ألف دينار ليس إلا . [ ص: 48 ]
وعقد لأوتامش مع الوزارة الإمرة على مصر وسائر المغرب . ونفى عبيد الله بن يحيى بن خاقان إلى برقة . وأنفق ألفي ألف دينار في الجند ، وقتل علي بن يحيى الأرمني ، وعمر الأقطع ، مجاهدين ببلاد الروم . وكثرت الأتراك ببغداد ، وتمكنوا ، وعسفوا ، وآذوا العامة ، فثارت الشاكرية والجند ، وأحرقوا الجسر ، وانتهبوا الدواوين . وهاج مثلهم بسامراء ، فركب بغا وأوتامش ووضعوا السيف ، وقتلوا عدة ، وتناخت ، العامة ، فقتلوا طائفة من الأتراك ، وعظم الخطب ، وخرج وصيف ، فأمر بإحراق الأسواق ، ثم بعد يسير قتل أوتامش ووزر ابن يزداذ ، وعزل عن القضاء جعفر الهاشمي .
ودخلت سنة خمسين ومائتين ، فخرج بطبرستان الحسن بن زيد الحسني ، وعظم سلطانه ، وحكم على عدة مدائن ، وانضم إليه كل مريب ، وهزم جيش ابن طاهر مرتين ، ووصل إلى همذان ، فجهز المستعين له جيشا . وفيها عقد المستعين لابنه عباس على العراق والحجاز . وفي سنة إحدى وخمسين ومائتين ظهر بقزوين الحسين بن أحمد الحسيني ، فتملكها ، وكان هو وأحمد بن عيسى الزيدي قد اتفقا ، وقتلا خلقا بالري ، وعاثا ، فأسر أحدهما ، وقتل الآخر . وخرج بالحجاز إسماعيل بن يوسف الحسني ، وتبعه الأعراب ، فعاث ، وأفسد موسم الحاج . وقتل من الوفد أزيد من ألف ، ثم قصمه الله بالطاعون هو وكثير من جنده . [ ص: 49 ] وهاجت الفتنة الكبرى بالعراق ، فتنكر الترك للمستعين ، فخاف ، وتحول إلى بغداد ، فنزل بالجانب الغربي على نائبه ابن طاهر ، فاتفق الأتراك بسامراء ، وبعثوا يعتذرون ، ويسألونه الرجوع ، فأبى عليهم ، فغضبوا ، وقصدوا السجن ، وأخرجوا ، وبايعوا له ، وخلعوا المعتز بالله المستعين ، وبنوا أمرهم على شبهة ، وهي أن المتوكل عقد للمعتز بعد المنتصر ، فجهز المعتز أخاه أبا أحمد لمحاربة المستعين ، وتهيأ المستعين للحصار ، وإصلاح السور ، وتجرد وابن طاهر أهل بغداد للقتل ، ونصبت المجانق ، ووقع الجد ، ودام البلاء أشهرا ، وكثرت القتلى ، واشتد القحط ، وتمت بينهما عدة وقعات ، بحيث إنه قتل في نوبة من جند المعتز ألفان ، إلى أن ضعف أهل بغداد وذلوا وجاعوا ، وتعثروا فما أصبرهم على الشر والفتن .
وقوي أمر المعتزية ، فكاتب ابن طاهر في السر المعتز ، وانحل نظام المستعين ، وإنما كان قوام أمره بابن طاهر ، وكاشفه الناس ، فتحول إلى الرصافة ، ثم سعى الناس في الصلح ، وخلع المستعين ، فأقام في ذلك إسماعيل القاضي وغيره بشروط وثيقة ، فأذعن بخلع نفسه في أول سنة اثنتين وخمسين ، وأشهد عليه ، فأحدر بعد خلعه تحت الحوطة إلى واسط ، فاعتقل بها تسعة أشهر ، ثم حول إلى سامراء ، فقتل بقادسية سامراء في ثالث شوال من السنة وقيل : قتل ليومين بقيا من رمضان ، وله إحدى وثلاثون سنة وأيام . فيقال : بعث المعتز إليه سعيدا الحاجب ، فلما رآه المستعين تيقن التلف ، وبكى ، وقال : ذهبت [ ص: 50 ] نفسي . فأخذ سعيد يقنعه بالسوط ، ثم أضجعه ، وقعد على صدره ، وذبحه . فإنا لله ، وإنا إليه راجعون .
وقال الصولي : بعث المعتز أحمد بن طولون إلى واسط لقتل المستعين ، فقال : والله لا أقتل أولاد الخلفاء . فبعث سعيدا الحاجب ، فما متع الله المعتز ، بل عوجل بالخلع والقتل جزاء وفاقا . البزي