سحنون
الإمام العلامة ، فقيه المغرب ، أبو سعيد ، عبد السلام بن حبيب بن [ ص: 64 ] حسان بن هلال بن بكار بن ربيعة بن عبد الله التنوخي ، الحمصي الأصل ، المغربي القيرواني المالكي ، قاضي القيروان وصاحب " المدونة " ، ويلقب بسحنون ارتحل وحج .
وسمع من : سفيان بن عيينة ، ، والوليد بن مسلم ، وعبد الله بن وهب ، وعبد الرحمن بن القاسم ، ووكيع بن الجراح وأشهب ، وطائفة .
ولم يتوسع في الحديث كما توسع في الفروع .
لازم ابن وهب ، وابن القاسم ، وأشهب ، حتى صار من نظرائهم . وساد أهل المغرب في تحرير المذهب ، وانتهت إليه رئاسة العلم . وعلى قوله المعول بتلك الناحية ، وتفقه به عدد كثير . وكان قد تفقه أولا بإفريقية على ابن غانم وغيره . وكان ارتحاله في سنة ثمان وثمانين ومائة ، وكان موصوفا بالعقل والديانة التامة والورع ، مشهورا بالجود والبذل ، وافر الحرمة ، عديم النظير .
أخذ عنه : ولده محمد فقيه القيروان ، وأصبغ بن خليل القرطبي ، ، وبقي بن مخلد وسعيد بن نمر الغافقي الإلبيري الفقيه ، وعبد الله بن غافق التونسي ، ومحمد بن عبد الله بن عبدوس المغربي ، ووهب بن نافع فقيه قرطبة ، ويحيى بن القاسم بن هلال الزاهد ، ومطرف بن عبد الرحمن المرواني مولاهم ، ويحيى بن عمر الكناني الأندلسي ، وعيسى بن مسكين ، وحمديس ، وابن مغيث ، وابن الحداد ، وعدد كثير من الفقهاء . [ ص: 65 ] فعن أشهب قال : ما قدم علينا أحد مثل سحنون . وعن قال : يونس بن عبد الأعلى سحنون سيد أهل المغرب .
وروي عن ابن عجلان الأندلسي قال : ما بورك لأحد بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- في أصحابه ما بورك في أصحابه . فإنهم كانوا في كل بلد أئمة . لسحنون
وروي عن سحنون قال : من لم يعمل بعلمه ، لم ينفعه علمه ، بل يضره .
وقال سحنون : إذا أتى الرجل مجلس القاضي ثلاثة أيام متوالية بلا حاجة ، فينبغي أن لا تقبل شهادته .
وسئل سحنون : أيسع العالم أن يقول : لا أدري فيما يدري ؟ قال : أما ما فيه كتاب أو سنة ثابتة فلا ، وأما ما كان من هذا الرأي ، فإنه يسعه ذلك ، لأنه لا يدري أمصيب هو أم مخطئ .
قال الحافظ أحمد بن خالد : كان لا يفضل أحدا ممن لقي على محمد بن وضاح سحنون في الفقه وبدقيق المسائل .
وعن سحنون قال : أكل بالمسكنة ، ولا أكل بالعلم . محب الدنيا أعمى ، لم ينوره العلم . ما أقبح بالعالم أن يأتي الأمراء ، والله ما دخلت على السلطان إلا وإذا خرجت حاسبت نفسي ، فوجدت عليها الدرك ، وأنتم ترون مخالفتي لهواه ، وما ألقاه به من الغلظة ، والله ما [ ص: 66 ] أخذت ، ولا لبست لهم ثوبا .
وعن سحنون قال : كان بعض من مضى يريد أن يتكلم بالكلمة ، ولو تكلم بها لانتفع بها خلق كثير ، فيحبسها ، ولا يتكلم بها مخافة المباهاة . وكان إذا أعجبه الصمت تكلم ، ويقول : أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علما .
وعنه قال : أنا أحفظ مسائل فيها ثمانية أقاويل من ثمانية أئمة ، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب ؟ .
وقيل : إن زيادة الله الأمير بعث يسأل سحنونا عن مسألة ، فلم يجبه ، فقال له محمد بن عبدوس : اخرج من بلد القوم ، أمس ترجع عن الصلاة خلف قاضيهم ، واليوم لا تجيبهم ؟ ! . قال : أفأجيب من يريد أن يتفكه ، يريد أن يأخذ قولي وقول غيري ، ولو كان شيئا يقصد به الدين لأجبته .
وعنه قال : ما وجدت من باع آخرته بدنيا غيره إلا المفتي .
وعن عبد الجبار بن خالد قال : كنا نسمع من سحنون بقريته ، فصلى الصبح ، وخرج ، وعلى كتفه محراث ، وبين يديه زوج بقر . فقال لنا : حم الغلام البارحة ، فأنا أحرث اليوم عنه ، وأجيئكم . فقلت : أنا أحرث عنك ، فقرب إلي غداءه ، خبز شعير وزيتا .
وعن إسماعيل بن إبراهيم قال : دخلت على سحنون ، وهو يومئذ قاض ، وفي عنقه تسبيح يسبح به . [ ص: 67 ]
وعن أبي داود العطار قال : باع سحنون زيتونا له بثمانمائة ، فدفعها إلي ، ففرقتها عنه صدقة .
وقيل : كان إذا قرئت عليه " مغازي " ابن وهب تسيل دموعه ، وإذا قرئ عليه " الزهد " لابن وهب يبكي .
وعن يحيى بن عون : قال : دخلت مع سحنون على ابن القصار وهو مريض ، فقال : ما هذا القلق ؟ قال له : الموت والقدوم على الله . قال له سحنون : ألست مصدقا بالرسل والبعث والحساب ، والجنة والنار ، وأن أفضل هذه الأمة أبو بكر ، ثم عمر ، والقرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله يرى يوم القيامة ، وأنه على العرش استوى ، ولا تخرج على الأئمة بالسيف ، وإن جاروا . قال : إي والله ، فقال : مت إذا شئت ، مت إذا شئت .
وعن سحنون قال : كبرنا وساءت أخلاقنا ، ويعلم الله ما أصيح عليكم إلا لأؤدبكم . وعن سحنون قال : ما عميت علي مسألة إلا وجدت فرجها في كتب ابن وهب .
وقيل : إن طالبا قال : رأيت في النوم كأن سحنونا يبني الكعبة ، قال : فغدوت إليه ، فوجدته يقرأ للناس " مناسك الحج " الذي جمعه .
وقيل : إنه سمع من ، حفص بن غياث ، وإسحاق الأزرق ، ووكيع ويحيى بن سليم الطائفي ، وعبد الله بن طليب المرادي ، وبهلول بن راشد ، وعلي بن زياد التونسي ، وعبد الله بن عمر بن غانم الرعيني ، وشعيب بن الليث المصري ، ومعن القزاز ، وأبي ضمرة الليثي ، ، وعدة . [ ص: 68 ] ويزيد بن هارون
قال أبو العرب عمن حدثه : كان الذين يحضرون مجلس سحنون من العباد أكثر من الطلبة ، كانوا يأتون إليه من أقطار الأرض . ولما ولي سحنون القضاء بأخرة عوتب ، فقال : ما زلت في القضاء منذ أربعين سنة ، هل الفتيا إلا القضاء ؟ . . ! قيل : إن الرواة عن سحنون بلغوا تسعمائة .
وأصل " المدونة " أسئلة . سألها أسد بن الفرات لابن القاسم . فلما ارتحل سحنون بها عرضها على ابن القاسم ، فأصلح فيها كثيرا ، وأسقط ، ثم رتبها سحنون ، وبوبها . واحتج لكثير من مسائلها بالآثار من مروياته ، مع أن فيها أشياء لا ينهض دليلها ، بل رأي محض . وحكوا أن سحنونا في أواخر الأمر علم عليها ، وهم بإسقاطها وتهذيب " المدونة " ، فأدركته المنية رحمه الله . فكبراء المالكية ، يعرفون تلك المسائل ، ويقررون منها ما قدروا عليه ، ويوهنون ما ضعف دليله . فهي لها أسوة بغيرها من دواوين الفقه . وكل أحد فيؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب ذاك القبر -صلى الله عليه وسلم- تسليما . فالعلم بحر بلا ساحل ، هو مفرق في الأمة ، موجود لمن التمسه .
وتفسير سحنون بأنه اسم طائر بالمغرب ، يوصف بالفطنة والتحرز ، وهو بفتح السين وبضمها . [ ص: 69 ] توفي الإمام سحنون في شهر رجب سنة أربعين ومائتين . وله ثمانون سنة ، وخلفه ولده محمد .
قرأت في " تاريخ القيروان " لأبي بكر عبد الله بن محمد المالكي قال : قال أبو العرب : اجتمعت في سحنون خلال قلما اجتمعت في غيره : الفقه البارع ، والورع الصادق ، والصرامة في الحق ، والزهادة في الدنيا ، والتخشن في الملبس والمطعم ، والسماحة . كان ربما وصل إخوانه بالثلاثين دينارا ، وكان لا يقبل من أحد شيئا . ولم يكن يهاب سلطانا في حق ، شديدا على أهل البدع ، انتشرت إمامته ، وأجمعوا على فضله ، قدم به أبوه مع جند الحمصيين ، وهو من تنوخ صليبة .
وعن سحنون قال : حججت زميل ابن وهب .
وقال عيسى بن مسكين : سحنون راهب هذه الأمة ، ولم يكن بين مالك أحد أفقه من وسحنون سحنون .
وعن سحنون قال : إني حفظت هذه الكتب ، حتى صارت في صدري كأم القرآن . وعنه قال : إني لأخرج من الدنيا ، ولا يسألني الله عن مسألة قلت فيها برأيي ، وما أكثر ما لا أعرف . وعنه : سرعة الجواب بالصواب أشد فتنة من فتنة المال .