ابن الحداد 
الإمام العلامة الثبت ، شيخ الإسلام ، عالم العصر أبو بكر ، محمد  [ ص: 446 ] بن أحمد بن محمد بن جعفر ، الكناني المصري الشافعي ابن الحداد . 
صاحب " كتاب الفروع " في المذهب . 
ولد سنة أربع وستين ومائتين . 
وسمع أبا الزنباع روح بن الفرج  ، وأبا يزيد يوسف بن يزيد القراطيسي  ، ومحمد بن عقيل الفريابي  ، ومحمد بن جعفر بن الإمام  ، وأبا عبد الرحمن النسائي  ، وأبا يعقوب المنجنيقي  ، وخلقا سواهم . 
ولازم  النسائي  كثيرا ، وتخرج به ، وعول عليه ، واكتفى به ، وقال : جعلته حجة فيما بيني وبين الله تعالى ، وكان في العلم بحرا لا تكدره الدلاء ، وله لسن وبلاغة وبصر بالحديث ورجاله ، وعربية متقنة ، وباع مديد في الفقه لا يجارى فيه مع التأله والعبادة والنوافل ، وبعد الصيت ، والعظمة في النفوس . 
ذكره ابن زولاق   -وكان من أصحابه- فقال : كان تقيا متعبدا ، يحسن علوما كثيرة : علم القرآن وعلم الحديث ، والرجال ، والكنى ، واختلاف العلماء والنحو واللغة والشعر ، وأيام الناس ، ويختم القرآن في كل يوم ، ويصوم يوما ويفطر يوما . 
كان من محاسن مصر  ، إلى أن قال : وكان طويل اللسان ، حسن الثياب والمركوب ، غير مطعون عليه في لفظ ولا فعل ، وكان  [ ص: 447 ] حاذقا بالقضاء . صنف كتاب " أدب القاضي " في أربعين جزءا ، وكتاب " الفرائض " في نحو من مائة جزء . 
أخبرنا الحسن بن علي الأمين  ، أخبرنا محمد بن أحمد النسابة  ، أخبرنا أبو المعالي بن صابر  ، أخبرنا علي بن الحسن بن الموازيني  ، أخبرنا محمد بن سعدان  ، أخبرنا يوسف بن القاسم القاضي  ، أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الحداد  ، سمعت أبا عبد الرحمن النسائي  ، سمعت عبيد الله بن فضالة  ، سمعت إسحاق ابن راهويه  ، يقول :  الشافعي  إمام . 
نقلت في " تاريخ الإسلام " : أن مولد ابن الحداد  يوم موت المزني  وأنه جالس أبا إسحاق المروزي  لما قدم عليهم ، وناظره . وكتابه في " الفروع " مختصر دقق مسائله ، شرحه القفال  ، والقاضي أبو الطيب  ،  وأبو علي السنجي  ، وهو صاحب وجه في المذهب . 
قال أبو عبد الرحمن السلمي   : سمعت  الدارقطني  ، سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد النسوي  المعدل بمصر  ، يقول : سمعت أبا بكر بن الحداد  ، يقول أخذت نفسي بما رواه الربيع  عن  الشافعي  ، أنه كان يختم في رمضان ستين ختمة ، سوى ما يقرأ في الصلاة ، فأكثر ما قدرت عليه تسعا وخمسين ختمة ، وأتيت في غير رمضان بثلاثين ختمة . 
قال  الدارقطني   : كان ابن الحداد  كثير الحديث ، لم يحدث عن غير  [ ص: 448 ]  النسائي  ، وقال : رضيت به حجة بيني وبين الله . 
وقال ابن يونس   : كان ابن الحداد  يحسن النحو والفرائض ، ويدخل على السلاطين ، وكان حافظا للفقه على مذهب  الشافعي  وكان كثير الصلاة متعبدا ، ولي القضاء بمصر  نيابة لابن هروان الرملي   . 
وقال المسبحي   : كان فقيها عالما كثير الصلاة والصيام ، يصوم يوما ، ويفطر يوما ، ويختم القرآن في كل يوم وليلة قائما مصليا . 
قال : ومات وصلي عليه يوم الأربعاء ، ودفن بسفح المقطم  عند قبر والدته ، وحضر جنازته الملك أبو القاسم بن الإخشيذ  ، وأبو المسك كافور  ، والأعيان وكان نسيج وحده في حفظ القرآن واللغة ، والتوسع في علم الفقه . وكانت له حلقة من سنين كثيرة يغشاها المسلمون ، وكان جدا كله -رحمه الله - فما خلف بمصر  بعده مثله . 
قال : وكان عالما -أيضا- بالحديث والأسماء والرجال والتاريخ . 
وقال ابن زولاق  في " قضاة مصر   " : في سنة أربع وعشرين سلم الإخشيذ  قضاء مصر  إلى ابن الحداد  ، وكان أيضا ينظر في المظالم ، ويوقع فيها ، فنظر في الحكم خلافة عن الحسين بن محمد بن أبي زرعة الدمشقي  ، وكان يجلس في الجامع ، وفي داره ، وكان فقيها متعبدا ، يحسن علوما كثيرة . منها علم القرآن ، وقول  الشافعي  ، وعلم الحديث ، والأسماء والكنى والنحو واللغة ، واختلاف العلماء ، وأيام الناس ، وسير الجاهلية ، والنسب والشعر ، ويحفظ شعرا كثيرا ، ويجيد الشعر ، ويختم في كل يوم  [ ص: 449 ] وليلة ويصوم يوما ويفطر يوما ، ويختم يوم الجمعة ختمة أخرى في ركعتين في الجامع قبل صلاة الجمعة سوى التي يختمها كل يوم ، حسن الثياب رفيعها ، حسن المركوب ، فصيحا غير مطعون عليه في لفظ ولا فضل ثقة في اليد والفرج واللسان ، مجموعا على صيانته وطهارته حاذقا بعلم القضاء . أخذ ذلك عن أبي عبيد القاضي . 
وأخذ علم الحديث عن  النسائي  ، والفقه عن محمد بن عقيل الفريابي  ، وعن بشر بن نصر  ، وعن منصور بن إسماعيل  ، وابن بحر  ، وأخذ العربية عن ابن ولاد  ، وكان لحبه الحديث لا يدع المذاكرة ، وكان يلزمه محمد بن سعد الباوردي الحافظ  ، فأكثر عنه من مصنفاته ، فذاكره يوما بأحاديث ، فاستحسنها ابن الحداد  ، وقال : اكتبها لي ، فكتبها له ، فجلس بين يديه ، وسمعها منه وقال : هكذا يؤخذ العلم . فاستحسن الناس ذلك منه ، وكان تتبع ألفاظه ، وتجمع أحكامه . وله كتاب " الباهر " ، في الفقه نحو مائة جزء ، و " كتاب الجامع " . 
وفي ابن الحداد  ، يقول أحمد بن محمد الكحال   :  الشافعي  تفقها  والأصمعي  تفننا والتابعين تزهدا قال ابن زولاق   : حدثنا ابن الحداد  بكتاب " خصائص علي   " رضي الله عنه عنه ، عن  النسائي  ، فبلغه عن بعضهم شيء في علي  ، فقال : لقد هممت ، أن أملي الكتاب في الجامع . 
 [ ص: 450 ] قال ابن زولاق   : وحدثني علي بن حسن  ، قال : سمعت ابن الحداد  ، يقول : كنت في مجلس ابن الإخشيذ   -يعني : ملك مصر   - فلما قمنا أمسكني وحدي ، فقال : أيما أفضل أبو بكر  ، وعمر  ، أو علي  ؟ فقلت : اثنين حذاء واحد . قال : فأيما أفضل أبو بكر  ، أو علي  ؟ قلت : إن كان عندك فعلي  ، وإن كان برا فأبو بكر  ، فضحك . 
قال : وهذا يشبه ما بلغني عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم  ، أنه سأله رجل : أيما أفضل أبو بكر  ، أو علي  ؟ فقال : عد إلي بعد ثلاث ، فجاءه ، فقال : تقدمني إلى مؤخر الجامع ، فتقدمه ، فنهض إليه ، واستعفاه ، فأبى ، فقال : علي  ، وتالله لئن أخبرت بهذا أحدا عني لأقولن للأمير أحمد بن طولون  ، فيضربك بالسياط . 
وقد ولي القضاء من قبل ابن الإخشيذ  ثم بعد ستة أشهر ، ورد العهد بالقضاء من قاضي العراق  ابن أبي الشوارب  لابن أبي زرعة  ، فركب بالسواد . ولم يزل ابن الحداد  يخلفه إلى آخر أيامه . 
وكان ابن أبي زرعة  يتأدب معه ، ويعظمه ، ولا يخالفه في شيء ، ثم عزل عن بغداد  ابن أبي الشوارب  بأبي نصر يوسف بن عمر  ، فبعث بالعهد إلى ابن أبي زرعة   . 
قال ابن خلكان   : صنف  أبو بكر بن الحداد  كتاب الفروع في المذهب ، وهو صغير الحجم ، دقق مسائله ، وشرحه جماعة من الأئمة . منهم : القفال المروزي  ، والقاضي أبو الطيب  ،  وأبو علي السنجي  إلى أن  [ ص: 451 ] قال : أخذ عن  أبي إسحاق المروزي   . 
ومولده يوم مات المزني  وكان غواصا على المعاني محققا . 
توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وقيل : سنة أربع . 
قلت : حج ، ومرض في رجوعه ، فأدركه الأجل عند البئر والجميزة يوم الثلاثاء لأربع بقين من المحرم سنة أربع ، وهو يوم دخول الركب إلى مصر  ، وعاش تسعا وسبعين سنة وأشهرا ، ودفن يوم الأربعاء عند قبر أمه . أرخه المسبحي   . 
				
						
						
