الإمام العالم الفقيه المقرئ المحدث البركة شيخ الإسلام أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي الحنبلي الزاهد ، واقف المدرسة .
مولده في سنة ثمان وعشرين وخمسمائة بقرية جماعيل من عمل نابلس ، وتحول إلى دمشق هو وأبوه وأخوه وقرابته مهاجرين إلى الله ، وتركوا المال والوطن لاستيلاء الفرنج ، وسكنوا مدة بمسجد أبي صالح بظاهر باب شرقي ثلاث سنين ، ثم صعدوا إلى سفح قاسيون ، وبنوا الدير المبارك [ ص: 6 ] والمسجد العتيق ، وسكنوا ثم ، وعرفوا بالصالحية نسبة إلى ذاك المسجد . سمع أباه ، وأبا المكارم بن هلال ، وسلمان بن علي الرحبي ، وأبا الفهم بن أبي العجائز ، وعدة ، وبمصر ، ابن بري وإسماعيل الزيات ، وكتب وقرأ ، وحصل ، وتقدم . وكان من العلماء العاملين ، ومن الأولياء المتقين . حدث عنه أخوه الشيخ موفق الدين وابناه عبد الله وعبد الرحمن ، والضياء ، وابن خليل ، والزكي المنذري ، والقوصي ، وابن عبد الدائم ، والفخر علي ، وطائفة . وقد جمع له الحافظ الضياء سيرة في جزئين فشفى وكفى ، وقال : كان لا يسمع دعاء إلا ويحفظه في الغالب ويدعو به ، ولا حديثا إلا وعمل به ، ولا صلاة إلا صلاها ، كان يصلي بالناس في النصف مائة ركعة وهو مسن ، ولا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته ، وإذا رافق ناسا في السفر ناموا وحرسهم يصلي .
قلت : كان قدوة صالحا ، عابدا قانتا لله ، ربانيا ، خاشعا مخلصا ، عديم النظير ، كبير القدر ، كثير الأوراد والذكر ، والمروءة والفتوة والصفات الحميدة ، قل أن ترى العيون مثله . قيل : كان ربما تهجد فإن نعس ضرب على رجليه بقضيب حتى يطير النعاس ، وكان يكثر الصيام ، ولا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها ، ولا مريض إلا عاده ، ولا جهاد إلا خرج فيه ، ويتلو كل ليلة سبعا مرتلا في الصلاة ، وفي النهار سبعا بين الصلاتين ، وإذا صلى [ ص: 7 ] الفجر تلا آيات " الحرس " و " يس " و " الواقعة " و " تبارك " ، ثم يقرئ ويلقن إلى ارتفاع النهار . ثم يصلي الضحى ، فيطيل ، ويصلي طويلا بين العشائين ويصلي صلاة التسبيح كل ليلة جمعة ، ويصلي يوم الجمعة ركعتين بمائة قل هو الله أحد فقيل : كانت نوافله في كل يوم وليلة اثنتين وسبعين ركعة ، وله أذكار طويلة ، ويقرأ بعد العشاء آيات الحرس ، وله أوراد عند النوم واليقظة ، وتسابيح ، ولا يترك غسل الجمعة ، وينسخ " الخرقي " من حفظه ، وله معرفة بالفقه والعربية والفرائض . وكان قاضيا لحوائج الناس ، ومن سافر من الجماعة يتفقد أهاليهم ، وكان الناس يأتونه في القضايا فيصلح بينهم ، وكان ذا هيبة ووقع في النفوس .
قال الشيخ الموفق : ربانا أخي ، وعلمنا ، وحرص علينا ، كان للجماعة كالوالد يحرص عليهم ، ويقوم بمصالحهم ، وهو الذي هاجر بنا ، وهو سفرنا إلى بغداد ، وهو الذي كان يقوم في بناء الدير ، وحين رجعنا زوجنا وبنى لنا دورا خارج الدير ، وكان قلما يتخلف عن غزاة .
قال الشيخ الضياء : لما جرى على الحافظ عبد الغني محنته جاء أبا عمر الخبر ، فخر مغشيا عليه ، فلم يفق إلا بعد ساعة ، وكان كثيرا ما يتصدق ببعض ثيابه ، وتكون جبته في الشتاء بلا قميص ، وربما تصدق بسراويله ، وكانت عمامته قطعة بطانة ، فإذا احتاج أحد إلى خرقة ، قطع له منها ، يلبس الخشن ، وينام على الحصير ، وربما تصدق بالشيء وأهله محتاجون إليه ، وكان ثوبه إلى نصف ساقه ، وكمه إلى رسغه ، سمعت أمي تقول : مكثنا زمانا لا يأكل أهل الدير إلا من بيت أخي أبي عمر ، وكان يقول : إذا لم [ ص: 8 ] تتصدقوا من يتصدق عنكم ؟ والسائل إن لم تعطوه أنتم أعطاه غيركم ، وكان هو وأصحابه في خيمة على حصار القدس فزاره الملك العادل ، فلم يجده ، فجلس ساعة ، وكان الشيخ يصلي فذهبوا خلفه مرتين فلم يجئ ، فأحضروا للعادل أقراصا فأكل وقام وما جاء الشيخ .
قال الصريفيني : ما رأيت أحدا قط ليس عنده تكلف غير الشيخ أبي عمر .
قال الشيخ العماد : سمعت أخي الحافظ يقول : نحن إذا جاء أحد اشتغلنا به عن عملنا ، وإن خالي أبا عمر فيه للدنيا والآخرة ، يخالط الناس ولا يخلي أوراده .
قلت : كان يخطب بالجامع المظفري ، ويبكي الناس ، وربما ألف الخطبة ، وكان يقرأ الحديث سريعا بلا لحن ، ولا يكاد أحد يرجع من رحلته إلا ويقرأ عليه شيئا من سماعه ، وكتب الكثير بخطه المليح ك : " الحلية " و " إبانة " و " معالم التنزيل " و " المغني " وعدة مصاحف . وربما كتب كراسين كبارا في اليوم ، وكان يشفع برقاع يكتبها إلى الوالي المعتمد وغيره . وقد استسقى مرة بالمغارة فحينئذ نزل غيث أجرى الأودية . وقال : مذ أممت ما تركت بسم الله الرحمن الرحيم . ابن بطة
وقد ساق له الضياء كرامات ودعوات مجابات ، وذكر حكايتين في أنه قطب في آخر عمره . وكان إذا سمع بمنكر اجتهد في إزالته ، ويكتب فيه [ ص: 9 ] إلى الملك ، حتى سمعنا عن بعض الملوك أنه قال : هذا الشيخ شريكي في ملكي .
وكان ليس بالطويل ، صبيح الوجه ، كث اللحية ، نحيفا ، أبيض ، أزرق العين ، عالي الجبهة ، حسن الثغر ، تزوج في عمره بأربع وجاءه عدة أولاد أكبرهم عمر ، وبه يكنى ، وأصغرهم عبد الرحمن الشيخ شمس الدين ومن شعره :
ألم تك منهاة عن الزهو أنني بدا لي شيب الرأس والضعف والألم ألم بي الخطب الذي لو بكيته
حياتي حتى ينفد الدمع لم ألم
توفي أبو عمر فقال الصريفيني : حزرت الجمع بعشرين ألفا .
قلت : ورثاه ابن سعد ، وأحمد بن المزدقاني . وتوفي إلى رضوان الله عشية الاثنين في الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة سبع وستمائة ، وقد استوفيت سيرته في " تاريخ الإسلام " .