العادل وبنوه
السلطان الكبير الملك العادل سيف الدين أبو الملوك وأخو الملوك أبو [ ص: 116 ] بكر محمد ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شاذي بن مروان بن يعقوب الدويني الأصل التكريتي ثم البعلبكي المولد . ولد بها إذ والده ينوب بها للأتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة .
كان أصغر من أخيه صلاح الدين بعامين ، وقيل : بل مولده في سنة ثمان وثلاثين فالله أعلم .
نشأ في خدمة الملك نور الدين ، ثم شهد المغازي مع أخيه . وكان ذا عقل ودهاء وشجاعة وتؤدة وخبرة بالأمور ، وكان أخوه يعتمد عليه ويحترمه ، استنابه بمصر مدة ثم ملكه حلب ، ثم عوضه عنها بالكرك وحران ، وأعطى حلب لولده الظاهر .
قيل : إن العادل لما سار مع أخيه قال : أخذت من أبي حرمدان فقال : يا أبا بكر إذا أخذتم مصر املأه لي ذهبا ، فلما جاء إلى مصر ، قال : وأين الحرمدان ؟ فملأته دراهم وجعلت أعلاه دنانير ، فلما قلبه قال : فعلت زغل المصريين .
ولما ناب بمصر استحبه صلاح الدين في الحمل ، حتى قال : يسير الحمل من مالنا أو من ماله ، فشق عليه ، وحكاها للقاضي الفاضل ، فكتب جوابه : وأما ما ذكره السلطان فتلك لفظة ما المقصود بها من المالك النجعة بل قصد بها الكاتب السجعة ، وكم من كلمة فظة ولفظة فيها غلظة جبرت عي [ ص: 117 ] الأقلام ، وسدت خلل الكلام ، وعلى المملوك الضمان في هذه النكتة ، وقد فات لسان القلم أي سكتة .
قلت : وكان سائسا ، صائب الرأي ، سعيدا ، استولى على البلاد ، وامتدت أيامه ، وحكم على الحجاز ، ومصر ، والشام ، واليمن ، وكثير من الجزيرة ، وديار بكر ، وأرمينية . وكان خليقا للملك ، حسن الشكل ، مهيبا ، حليما ، دينا ، فيه عفة وصفح وإيثار في الجملة . أزال الخمور والفاحشة في بعض أيام دولته ، وتصدق بذهب كثير في قحط مصر حتى قيل : إنه كفن من الموتى ثلاثمائة ألف ، والعهدة على سبط الجوزي في هذه .
وسيرته مع أولاد أخيه مشهورة ، ثم لم يزل يراوغهم ويلقي بينهم حتى دحاهم ، وتمكن واستولى على ممالك أخيه ، وأبعد الأفضل إلى سميساط ، وودع الظاهر وكاسر عنه لكون بنته زوجته ، وبعث على اليمن حفيده المسعود أطسز بن الكامل ، وناب عنه بميافارقين ابنه الأوحد ، فاستولى على أرمينية . ثم إنه قسم الممالك بين أولاده ، وكان يصيف بالشام غالبا ويشتو بمصر .
جاءته خلع السلطنة من الناصر لدين الله وهي : جبة سوداء بطرز ذهب وجواهر في الطوق ، وعمامة سوداء مذهبة ، وطوق ، وسيف ، وحصان [ ص: 118 ] بمركب ذهب ، وعلم أسود ، وعدة خلع لبنيه مع السهروردي فقرئ تقليده على كرسي ، قرأه وزيره ، وخوطب فيه : بالعادل شاه أرمن ملك الملوك خليل أمير المؤمنين .
وخاف من الفرنج فصالحهم وهادنهم وأعطاهم مغل الرملة ولد ، وسلم إليهم يافا ، فقويت نفوسهم ، فالأمر لله .
ثم أمر بتجديد قلعة دمشق ، وألزم كل ملك من آله بعمارة برج في سنة أربع وستمائة ، وعمر عدة قلاع .
قال الموفق عبد اللطيف : كان أعمق إخوته فكرا ، وأطولهم عمرا ، وأنظرهم في العواقب ، وأحبهم للدرهم ، وكان فيه حلم وأناة وصبر على الشدائد ، سعيد الجد ، عالي الكعب ، مظفرا ، أكولا ، نهما ، يأكل من الحلواء السكرية رطلا بالدمشقي . وكان كثير الصلاة ، ويصوم الخميس ، يكثر الصدقة عند نزول الآفات ، وكان قليل المرض . لقد أحضر إليه أربعون حملا من البطيخ فكسر الجميع وبالغ في الأكل فحم يوما . وكان كثير التمتع بالجواري ، ولا يدخل عليهن خادما إلا دون البلوغ .
نجب له عدة أولاد سلطنهم وزوج بناته بملوك الأطراف .
وقد احتيل على الفتك به مرات ، ويسلمه الله .
[ ص: 119 ] وكان شديد الملازمة لخدمة أخيه صلاح الدين ، وما زال يتحيل حتى أعطاه العزيز دمشق ، فكانت السبب في أن تملك البلاد ، ولما جاءه بمنشورها ابن أبي الحجاج أعطاه ألف دينار ، ثم جرت أمور يطول شرحها وقتال على الملك ، ولو كان ذلك التعب والحرب جهادا للفرنج لأفلح .
وتملك ابنه الأوحد خلاط فقتل خلقا من عسكرها .
قال الموفق : فقال لي بعض خواصه : إنه قتل في مدة ثمانية عشر ألفا من الخواص كان يقتلهم ليلا ويلقيهم في الآبار ، فما أمهل واختل عقله ومات . وقد بعث إليه أبوه معزما ظنه جن . فتملك بعده الأشرف إلى أن قال : ورد العادل ورماح الفرنج في أثره حتى وصل دمشق ولم يدخلها ، وشجعه المعتمد . وأما الفرنج فظنوا هزيمته مكيدة فرجعوا بعدما عاثوا وقصدوا دمياط . وقيل : عرض له ضعف ورعشة ، واعتراه ورم الأنثيين فمات بظاهر دمشق .
كانت خزانته بجعبر وبها ولده الحافظ ثم نقلها إلى دمشق ، فحصلت في قبضة ولده المعظم ، وكان قد مكر وحسن لأخيه العصيان ففعل ، فبادر أبوه وحول الأموال .
وقد حدث العادل بجزء السابع من " المحامليات " عن السلفي ، رواه عنه ابنه الصالح إسماعيل ، والشهاب القوصي ، وأبو بكر بن النشبي ، ومات وفي خزانته سبعمائة ألف دينار عينا .
توفي بعالقين في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وستمائة ، ودفن [ ص: 120 ] بالقلعة أربع سنين في تابوت ثم نقل إلى تربته . وخلف عدة أولاد : الكامل صاحب مصر ، والمعظم صاحب دمشق ، والأشرف صاحب أرمينية ثم دمشق ، والصالح عماد الدين ، وشهاب الدين غازي صاحب ميافارقين ، وآخر من مات منهم تقي الدين عباس ، وعاشت بنته مؤنسة بنت العادل بمصر إلى سنة ثلاث وتسعين وستمائة ، وحدثت بإجازة عفيفة .
قال ابن خلكان : كان مائلا إلى العلماء حتى صنف له الرازي كتاب " تأسيس التقديس " فذكر اسمه في خطبته .