[ ص: 364 ] قصة النجاشي   
" من السيرة " 
ثم إن قريشا  قالوا : إن ثأرنا بأرض الحبشة ،  فانتدب إليها عمرو بن العاص ،  وابن أبي ربيعة   . 
قال الزهري   : بلغني أن مخرجها كان بعد وقعة بدر   . 
فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم مخرجهما ، بعث  عمرو بن أمية الضمري  بكتابه إلى النجاشي   . 
وقال  سعيد بن المسيب  وغيره : فبعث الكفار مع عمرو بن العاص ،  وعبد الله بن أبي ربيعة   للنجاشي ،  ولعظماء الحبشة  هدايا . فلما قدما على النجاشي  قبل الهدايا ، وأجلس عمرو بن العاص  على سريره . فكلم النجاشي  فقال : إن بأرضكم رجالا منا ليسوا على دينك ولا على ديننا ، فادفعهم إلينا . فقال عظماء الحبشة   للنجاشي   : صدق ، فادفعهم إليه . فقال : حتى أكلمهم . 
قال الزهري ،  عن  أبي بكر بن عبد الرحمن ،  عن أم سلمة ،  قالت : نزلنا الحبشة ،  فجاورنا بها خير جار ، النجاشي ،  أمنا على ديننا وعبدنا الله عز وجل ، لا نؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه . فلما بلغ ذلك قريشا  ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي  مع رجلين بما يستطرف من مكة   . وكان من أعجب ما يأتيه منها : الأدم . فجمعوا له أدما كثيرا ، ولم يتركوا بطريقا عنده إلا أهدوا له . وبعثوا عبد الله بن أبي ربيعة ،   وعمرو بن العاص  وقالوا : ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي   . 
 [ ص: 365 ] فقدما ، وقالا لكل بطريق : إنه قد ضوى إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء ، خالفوا دين قومهم ، ولم يدخلوا في دينكم . وقد بعثنا أشرافنا إلى الملك ليردهم ، فإذا كلمناه فأشيروا عليه أن يسلمهم إلينا . فقالوا : نعم . 
ثم قربا هداياهما إلى النجاشي  فقبلها ، فكلماه . فقالت بطارقته : صدقا أيها الملك ، قومهم أعلى بهم عينا ، وأعلم بما عابوا عليهم . فغضب النجاشي ،  ثم قال : لاها الله أبدا ، لا أرسلهم إليهم . قوم جاوروني ونزلوا بلادي ، واختاروني على سواي ، حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون . 
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فلما جاء رسوله اجتمعوا ، وقال بعضهم لبعض : ما تقولون إذا جئتموه ؟ قالوا : نقول والله ما علمنا الله ، وأمرنا به نبينا ، كائن في ذلك ما كان . فلما جاءوه وقد دعا النجاشي  أساقفته ، ونشروا مصاحفهم حوله ، سألهم : ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ، ولم تدخلوا به في ديني ولا في دين أحد من الملل . قالت : فكلمه  جعفر بن أبي طالب ،  فقال : أيها الملك : كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء إلى الجار ويأكل القوي منا الضعيف . كنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا ، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه ، فدعا إلى الله لنعبده وحده ، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان ، وأمرنا بصدق الحديث ، وأداء الأمانة ، وصلة الرحم وحسن الجوار ، والكف عن المحارم والدماء ، ونهانا عن الفواحش ، وقول الزور ، وأكل مال اليتيم ، وقذف المحصنات ، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئا ،  [ ص: 366 ] وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام . وعد أمور الإسلام . قال : فصدقناه واتبعناه ، فلما قهرونا وظلمونا وحالوا بيننا وبين ديننا ، خرجنا إلى بلدك ، وآثرناك على من سواك فرغبنا في جوارك ، ورجونا أن لا نظلم عندك . 
قال : فهل معك شيء مما جاء به عن الله ؟ قال جعفر   : نعم . فقرأ : ( كهيعص   ( 1 ) ) [ مريم ] . 
قالت : فبكى النجاشي  وأساقفته حتى أخضلوا لحاهم ، حين سمعوا القرآن . 
فقال النجاشي   : إن هذا والذي جاء به موسى  ليخرج من مشكاة واحدة . انطلقا ، فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا . 
قالت : فلما خرجنا من عنده ، قال عمرو بن العاص   : والله لآتينه غدا بما أستأصل به خضراءهم . فقال له ابن أبي ربيعة ;  وكان أتقى الرجلين فينا : لا تفعل ، فإن لهم أرحاما ، وإن كانوا قد خالفونا . قال : فوالله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى  عبد . 
قالت : ثم غدا عليه ، فقال : أيها الملك ، إنهم يقولون في عيسى  قولا عظيما . فأرسل إلينا ليسألنا . قالت : ولم ينزل بنا مثلها . 
فقال : ما تقولون في عيسى ؟  فقال جعفر   : نقول فيه الذي جاء به نبينا : عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم  العذراء البتول . 
فضرب النجاشي  بيده إلى الأرض ، وأخذ منها عودا ، وقال : ما عدا عيسى بن مريم  ما قلت هذا المقدار . 
قال : فتناخرت بطارقته حين قال ما قال ، فقال : وإن نخرتم  [ ص: 367 ] والله . ثم قال لجعفر  وأصحابه : اذهبوا آمنين . ما أحب أن لي دبر ذهب ، وإني آذيت واحدا منكم والدبر بلسان الحبشة   : الجبل ردوا عليهما هديتهما ، فلا حاجة لنا فيها ، فوالله ما أخذ الله في الرشوة فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه . فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا به . 
قالت : فوالله إنا لعلى ذلك ، إذ نزل به رجل من الحبشة  ينازعه في ملكه ، فوالله ما علمنا حزنا قط أشد من حزن حزناه عند ذلك ، تخوفا أن يظهر عليه من لا يعرف حقنا . فسار إليه النجاشي ،  وبينهما عرض النيل . 
فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : من يخرج حتى يحضر الوقعة ويخبرنا ؟ فقال  الزبير بن العوام   : أنا أخرج . وكان من أحدث القوم سنا . فنفخوا له قربة فجعلها في صدره ، وسبح عليها إلى الناحية التي فيها الوقعة ، ودعونا الله  للنجاشي ،  فوالله إنا لعلى ذلك ، متوقعون لما هو كائن ، إذ طلع علينا الزبير  يسعى ويلوح بثوبه : ألا أبشروا ، فقد ظهر النجاشي ،  وأهلك الله عدوه . فوالله ما علمنا فرحة مثلها قط . 
ورجع النجاشي  سالما ، واستوسق له أمر الحبشة   . فكنا عنده في خير منزل ، حتى قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة   . 
أخرجه أبو داود  من حديث ابن إسحاق  عن الزهري   . 
وهؤلاء قدموا مكة ،  ثم هاجروا إلى المدينة ،  وبقي جعفر  وطائفة بالحبشة  إلى عام خيبر   . 
وقد قيل إن إرسال قريش  إلى النجاشي  كان مرتين ، وأن المرة الثانية كان مع عمرو   : عمارة بن الوليد المخزومي  أخو خالد   . ذكر ذلك  [ ص: 368 ] ابن إسحاق  أيضا . وذكر ما دار  لعمرو بن العاص  مع عمارة بن الوليد  من رميه إياه في البحر ، وسعي عمرو  به إلى النجاشي  في وصوله إلى بعض حرمه أو خدمه ، وأنه ظهر ذلك في ظهور طيب الملك عليه ، وأن الملك دعا بسحرة فسحروه ونفخوا في إحليله . فتبرر ولزم البرية ، وهام ، حتى وصل إلى موضع رام أهله أخذه فيه ، فلما قربوا منه فاضت نفسه فمات . 
وقال ابن إسحاق  ، قال الزهري   : حدثت عروة بن الزبير  حديث أبي بكر  عن أم سلمة ،  فقال : هل تدري ما قوله : ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه ، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه ؟ قلت : لا . قال : فإن عائشة  حدثتني أن أباه كان ملك قومه ، لم يكن له ولد إلا النجاشي   . وكان  للنجاشي  عم ، له من صلبه اثنا عشر رجلا ، وكانوا أهل بيت مملكة الحبشة   . فقالت الحبشة   : لو أنا قتلنا أبا النجاشي  وملكنا أخاه لتوارث بنوه ملكه بعده ، ولبقيت الحبشة  دهرا . قالت : فقتلوه وملكوا أخاه . فنشأ النجاشي  مع عمه . وكان لبيبا حازما . فغلب على أمر عمه . فلما رأت الحبشة  ذلك قالت : إنا نتخوف أن يملكه بعده ، ولئن ملك ليقتلنا بأبيه . فمشوا إلى عمه فقالوا : إما أن تقتل هذا الفتى ، وإما أن تخرجه من بين أظهرنا . فقال : ويلكم ! قتلت أباه بالأمس ، وأقتله اليوم ؟ بل أخرجه . قال : فخرجوا به فباعوه من تاجر من سحائب الخريف ، فخرج عمه يستمطر تحتها فأصابته صاعقة فقتلته . ففزعت الحبشة  إلى ولده ، فإذا هو محمق ليس في ولده خير . فمرج  [ ص: 369 ] على الحبشة  أمرهم وضاق عليهم ما هم فيه . فقال بعضهم لبعض : تعلموا ، والله ، إن ملككم الذي لا يقيم أمركم غيره للذي بعتم . قال : فخرجوا في طلبه وطلب الذي باعوه منه ، حتى أدركوه فأخذوه منه . ثم جاءوا به فعقدوا عليه التاج وأجلسوه على سرير الملك . فجاء التاجر فقال : إما أن تعطوني مالي وإما أن أكلمه في ذلك . فقالوا : لا نعطيك شيئا . قال : إذن والله أكلمه . قالوا : فدونك . فجاءه فجلس بين يديه ، فقال : أيها الملك ، ابتعت غلاما من قوم بالسوق بستمائة درهم ، حتى إذا سرت به أدركوني ، فأخذوه ومنعوني دراهمي . فقال النجاشي   : لتعطنه غلامه أو دراهمه . قالوا : بل نعطيه دراهمه . 
قالت : فلذلك يقول : ما أخذ الله مني رشوة حين رد علي ملكي ، فآخذ الرشوة فيه . وكان ذلك أول ما خبر من صلابته في دينه وعدله . 
قال ابن إسحاق   : وحدثني يزيد بن رومان ،  عن عروة ،  عن عائشة ،  قالت : لما مات النجاشي  كان يتحدث أنه لا يزال على قبره نور  . 
قال : وحدثني  جعفر بن محمد ،  عن أبيه ، قال : اجتمعت الحبشة  فقالوا  للنجاشي   : إنك فارقت ديننا ، وخرجوا عليه . فأرسل إلى جعفر  وأصحابه ، فهيأ لهم سفنا ، وقال : اركبوا فيها ، وكونوا كما أنتم ، فإن هزمت فامضوا حتى تلحقوا بحيث شئتم ، وإن ظفرت فاثبتوا . ثم عمد إلى كتاب فكتب : هو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا  عبده ورسوله ، ويشهد أن عيسى  عبده ورسوله وروحه وكلمته  . 
ثم جعله في قبائه وخرج إلى الحبشة ،  وصفوا له ، فقال : يا  [ ص: 370 ] معشر الحبشة ،  ألست أحق الناس بكم ؟ قالوا : بلى . قال : فكيف رأيتم سيرتي فيكم ؟ قالوا : خير سيرة . قال : فما بالكم ؟ قالوا : فارقت ديننا وزعمت أن عيسى  عبد . قال : فما تقولون أنتم ؟ قالوا : هو ابن الله . فوضع يده على صدره ، على قبائه ، وقال : هو يشهد أن عيسى بن مريم   . لم يزد على هذا شيئا ، وإنما يعني على ما كتب . فرضوا وانصرفوا . 
فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما مات صلى عليه واستغفر له ، رضي الله عنه ، وإنما ذكرنا هذا بعد بدر  استطرادا ، والله أعلم . 
				
						
						
