لما اشتهرت وفاة النبي صلى الله بالنواحي ، ارتد طوائف كثيرة من العرب عن الإسلام ومنعوا الزكاة ، فنهض أبو بكر الصديق رضي الله عنه لقتالهم ، فأشار عليه عمر وغيره أن يفتر عن قتالهم . فقال : عمر : كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ؛ صلى الله عليه وسلم : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها ، وحسابه على الله " ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، وقد قال : " إلا بحقها " قال عمر : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها ، فقال .
فعن عروة ، وغيره ، قال : فخرج أبو بكر في المهاجرين والأنصار حتى بلغ نقعا حذاء نجد ، وهربت الأعراب بذراريهم ، فكلم الناس أبا بكر ، وقالوا : ارجع إلى المدينة وإلى الذرية والنساء وأمر رجلا على الجيش ، ولم يزالوا به حتى رجع وأمر خالد بن الوليد ، وقال له : إذا أسلموا وأعطوا الصدقة فمن شاء منكم فليرجع ، ورجع أبو بكر إلى المدينة .
[ ص: 40 ] وقال غيره : كان مسيره في جمادى الآخرة فبلغ ذا القصة ، وهي على بريدين وأميال من ناحية طريق العراق ، واستخلف على المدينة سنانا الضمري ، وعلى حفظ أنقاب المدينة . عبد الله بن مسعود
وقال ابن لهيعة : أخبرنا أسامة بن زيد ، عن الزهري ، عن حنظلة بن علي الليثي ، أن أبا بكر بعث خالدا ، وأمره أن يقاتل الناس على خمس ، من ترك واحدة منهن قاتله كما يقاتل من ترك الخمس جميعا : على شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان
وقال عروة ، عن عائشة : لو نزل بالجبال الراسيات ما نزل بأبي لهاضها ، اشرأب النفاق بالمدينة ، وارتدت العرب ، فوالله ما اختلفوا في نقطة إلا طار أبي بحظها من الإسلام .
وعن يزيد بن رومان أن الناس قالوا له : إنك لا تصنع بالمسير بنفسك شيئا ، ولا تدري لمن تقصد ، فأمر من تثق به وارجع إلى المدينة ، فإنك تركت بها النفاق يغلي ، فعقد لخالد على الناس ، وأمر على الأنصار خاصة ، وأمر ثابت بن قيس بن شماس خالدا أن يصمد لطليحة الأسدي .
وعن الزهري ، قال : سار خالد بن الوليد من ذي القصة في ألفين وسبع مائة إلى ثلاثة آلاف ، يريد طليحة ، ووجه حليف عكاشة بن محصن الأسدي بني عبد شمس ، وثابت بن أقرم الأنصاري رضي الله [ ص: 41 ] عنهما فانتهوا إلى قطن فصادفوا فيها حبالا متوجها إلى طليحة بثقله ، فقتلوه وأخذوا ما معه ، فساق وراءهم طليحة وأخوه سلمة فقتلا عكاشة وثابتا .
وقال الوليد الموقري ، عن الزهري ، قال : فسار خالد فقاتل طليحة الكذاب فهزمه الله ، وكان قد بايع عيينة بن حصن ، فلما رأى طليحة كثرة انهزام أصحابه قال : ما يهزمكم ؟ فقال رجل : أنا أحدثك ، وليس منا رجل إلا وهو يحب أن يموت صاحبه قبله ، وإنا نلقى قوما كلهم يحب أن يموت قبل صاحبه ، وكان طليحة رجلا شديد البأس في القتال ، فقتل طليحة يومئذ عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم . وقال طليحة :
عشية غادرت ابن أقرم ثاويا وعكاشة الغنمي تحت مجالي أقمت لهم صدر الحمالة إنها
معاودة قتل الكماة نزالي فيوما تراها في الجلال مصونة
ويوما تراها في ظلال عوال فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم
أليسوا وإن لم يسلموا برجال فإن يك ذا ود أصبن ونسوة
فلم ترهبوا فرغا بقتل حبال
وفي غير هذه الراوية أن خالدا لقي طليحة ببزاخة ، ومع طليحة عيينة بن حصن ، وقرة بن هبيرة القشيري ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، ثم هرب طليحة وأسر عيينة وقرة ، وبعث بهما إلى أبي بكر فحقن دماءهما .
[ ص: 42 ] وذكر أن أحد من قتل قيس بن مكشوح الأسود العنسي ارتد ، وتابعه جماعة من أصحاب الأسود ، وخافه أهل صنعاء ، وأتى قيس إلى فيروز الديلمي ، وذادويه يستشيرهما في شأن أصحاب الأسود خديعة منه ، فاطمأنا إليه ، وصنع لهما من الغد طعاما ، فأتاه ذادويه فقتله . ثم أتاه فيروز ففطن بالأمر فهرب ، ولقيه جشيش بن شهر ومضى معه إلى جبال خولان ، وملك قيس صنعاء ، فكتب فيروز إلى أبي بكر يستمده . فأمده ، فلقوا قيسا فهزموه ثم أسروه وحملوه إلى أبي بكر رضي الله عنه فوبخه ، فأنكر الردة ، فعفا عنه أبو بكر .
وقال ابن لهيعة ، عن أبي الأسود ، عن عروة ، قال : فسار خالد وكان سيفا من سيوف الله فأسرع السير حتى نزل ببزاخة ، وبعثت إليه طيء : إن شئت أن تقدم علينا فإنا سامعون مطيعون ، وإن شئت ، نسير إليك ؟ قال خالد : بل أنا ظاعن إليكم إن شاء الله ، فلم يزل ببزاخة ، وجمع له هناك العدو بنو أسد وغطفان فاقتتلوا ، حتى قتل من العدو خلق وأسر منهم أسارى ، فأمر خالد بالحظر أن تبنى ، ثم أوقد فيها النيران وألقى الأسارى فيها ، ثم ظعن يريد طيئا ، فأقبلت بنو عامر وغطفان والناس مسلمون مقرون بأداء الحق ، فقبل منهم خالد .
وقتل في ذلك الوجه مالك بن نويرة التميمي في رجال معه من تميم ، فقالت الأنصار : نحن راجعون ، قد أقرت العرب بالذي كان عليها ، فقال خالد ومن معه من المهاجرين : قد لعمري آذن لكم ، وقد أجمع أميركم بالمسير إلى مسيلمة بن ثمامة الكذاب ، ولا نرى أن تفرقوا على هذه الحال ، فإن ذلك غير حسن ، وإنه لا حجة لأحد منكم فارق [ ص: 43 ] أميره وهو أشد ما كان إليه حاجة ، فأبت الأنصار إلا الرجوع ، وعزم خالد ومن معه ، وتخلفت الأنصار يوما أو يومين ينظرون في أمرهم ، وندموا وقالوا : ما لكم والله عذر عند الله ولا عند أبي بكر إن أصيب هذا الطرف وقد خذلناهم ، فأسرعوا نحو خالد ولحقوا به ، فسار إلى اليمامة ، وكان مجاعة بن مرارة سيد بني حنيفة خرج في ثلاثة وعشرين فارسا يطلب دما في بني عامر ، فأحاط بهم المسلمون ، فقتل أصحاب مجاعة وأوثقه .
وقال العطاف بن خالد : حدثني أخي عبد الله عن بعض آل عدي ، عن وحشي ، قال : خرجنا حتى أتينا طليحة فهزمهم الله ، فقال خالد : لا أرجع حتى آتي مسيلمة حتى يحكم الله بيننا وبينهم ، فقال له : إنما بعثنا إلى هؤلاء وقد كفى الله مئونتهم ، فلم يقبل منه وسار ، ثم تبعه ثابت بن قيس ثابت بعد يوم في الأنصار .