إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم
موقع هذه الجملة وما عطف عليها موقع التعليل لوجوب تقوى الله وإصلاح ذات بينهم وطاعتهم الله ورسوله ، لأن ما تضمنته هذه الجمل التي بعد " إنما " من شأنه أن يحمل المتصفين به على الامتثال لما تضمنته جمل الأمر الثلاث السابقة ، [ ص: 255 ] وقد اقتضى ظاهر القصر المستفاد من " إنما " أن من لم يجل قلبه إذا ذكر الله ، ولم تزده تلاوة آيات الله إيمانا مع إيمانه ، ولم يتوكل على الله ، ولم يقم الصلاة ، ولم ينفق ، لم يكن موصوفا بصفة الإيمان ، فهذا ظاهر مؤول بما دلت عليه أدلة كثيرة من الكتاب والسنة من أن الإيمان لا ينقضه الإخلال ببعض الواجبات كما سيأتي عند قوله - تعالى - أولئك هم المؤمنون حقا فتعين أن القصر ادعائي بتنزيل الإيمان الذي عدم الواجبات العظيمة منزلة العدم ، وهو قصر مجازي لابتنائه على التشبيه ، فهو استعارة مكنية : شبه الجانب المنفي في صيغة القصر بمن ليس بمؤمن ، وطوي ذكر المشبه به ورمز إليه بذكر لازمه وهو حصر الإيمان فيمن اتصف بالصفات التي لم يتصف بها المشبه به ، ويؤول هذا إلى معنى : إنما المؤمنون الكاملون الإيمان ، فالتعريف في إنما المؤمنون تعريف الجنس المفيد قصرا ادعائيا على أصحاب هذه الصفات مبالغة ، وحرف " ال " فيه هو ما يسمى بالدالة على معنى الكمال .
وقد تكون جملة إنما المؤمنون مستأنفة استئنافا بيانيا لجواب سؤال سائل يثيره الشرط وجزاؤه المقدر في قوله إن كنتم مؤمنين بأن يتساءلوا عن هذا الاشتراط بعد ما تحقق أنهم مؤمنون من قبل ، وهل يمترى في أنهم مؤمنون ، فيجابوا بأن المؤمنين هم الذين صفتهم كيت وكيت ، فيعلموا أن الإيمان المجعول شرطا هو الإيمان الكامل فتنبعث نفوسهم إلى الاتسام به والتباعد عن موانع زيادته .
وإذ قد كان الاحتمالان غير متنافيين صح تحميل الآية إياهما توفيرا لمعاني الكلام المعجز ، فإن علة الشيء مما يسأل عنه ، وإن بيان العلة مما يصح كونه استئنافا بيانيا .
وعلى كلا الاحتمالين وقعت الجملة مفصولة عن التي قبلها لاستغنائها عن الربط وإن اختلف موجب الاستغناء باختلاف الاحتمالين ، والاعتبارات البلاغية يصح تعدد أسبابها في الموقع الواحد لأنها اعتبارات معنوية وليست كيفيات لفظية فتحققه حق تحققه .
والمعنى ليس المؤمنون الكامل إيمانهم إلا أصحاب هذه الصلة التي يعرف المتصف بها تحققها فيه أو عدمه من عرض نفسه على حقيقتها ، فإنه لما كان الكلام واردا [ ص: 256 ] مورد الأمر بالتخلق بما يقتضيه الإيمان أحيلوا في معرفة أمارات هذا التخلق على صفات يأنسونها من أنفسهم إذا علموها .
التلفظ باللسان ، وإذا علق بما يدل على ذات فالمقصود من الذات أسماؤها ، فالمراد من قوله والذكر حقيقته إذا ذكر الله إذا نطق ناطق باسم من أسماء الله أو بشأن من شئونه ، مثل أمره ونهيه ، لأن ذلك لا بد معه من جريان اسمه أو ضميره أو موصوله أو إشارته أو نحو ذلك من دلائل ذاته .
والوجل خوف مع فزع فيكون لاستعظام الموجول منه .
وقد جاء فعل " وجل " في الفصيح بكسر العين في الماضي على طريقة الأفعال الدالة على الانفعال الباطني مثل فرح ، وصدي ، وهوي ، وروي .
وأسند الوجل إلى القلوب لأن القلب يكثر إطلاقه في كلام العرب على إحساس الإنسان وقرارة إدراكه ، وليس المراد به هذا العضو الصنوبري الذي يرسل الدم إلى الشرايين .
وقد أجملت الآية ذكر الله إجمالا بديعا ليناسب معنى الوجل ، فذكر الله يكون : بذكر اسمه ، وبذكر عقابه ، وعظمته ، وبذكر ثوابه ورحمته ، وكل ذلك يحصل معه الوجل في قلوب كمل المؤمنين ، لأنه يحصل معه استحضار جلال الله وشدة بأسه وسعة ثوابه ، فينبعث عن ذلك الاستحضار توقع حلول بأسه ، وتوقع انقطاع بعض ثوابه أو رحمته ، وهو وجل يبعث المؤمن إلى الاستكثار من الخير وتوقي ما لا يرضي الله - تعالى - وملاحظة الوقوف عند حدود الله في أمره ونهيه ، ولذلك روي عن أنه قال : " أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه " . عمر بن الخطاب
وإذ قد كان المقصود من هذا الكلام - من غنائم حث المؤمنين على الرضى بما قسم النبيء - صلى الله عليه وسلم بدر وأن يتركوا التشاجر بينهم في ذلك ، ناسب الاقتصار على ، والوجل حالين يحصلان للمؤمن عند ذكر الله والحال الآخر هو الأمل والطمع في الثواب ، فطوى ذكره هنا اعتمادا على استلزام الوجل إياه لأن من الوجل أن يجل من فوات الثواب أو نقصانه . وجل قلوب المؤمنين عند ذكر الله