nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28973_32419وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدا وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة يغفر لكم خطاياكم وسنزيد المحسنين nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون هذا تذكير بنعمة أخرى مكنوا منها فما أحسنوا قبولها ولا رعوها حق رعايتها فحرموا منها إلى حين وعوقب الذين كانوا السبب في عدم قبولها .
وفي التذكير بهذه النعمة امتنان عليهم ببذل النعمة لهم لأن النعمة نعمة وإن لم يقبلها المنعم عليه ، وإثارة لحسرتهم على ما فات أسلافهم وما لقوه من جراء إعجابهم بآرائهم ، وموعظة لهم أن لا يقعوا فيما وقع فيه الأولون فقد علموا أنهم كلما صدفوا عن قدر حق النعم نالتهم المصائب .
قال
الشيخ ابن عطاء الله : من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها . ولعلم المخاطبين بما عنته هذه الآية اختصر فيها الكلام اختصارا ترك كثيرا من المفسرين فيها حيارى . فسلكوا طرائق في انتزاع تفصيل المعنى من مجملها فما أتوا على شيء مقنع ، وكنت تجد أقوالهم هنا إذا التأم
[ ص: 513 ] بعضها بنظم الآية لا يلتئم بعضه الآخر ، وربما خالف جميعها ما وقع في آيات أخر .
والذي عندي من القول في تفسير هاته الآية أنها أشارت إلى قصة معلومة تضمنتها كتبهم وهي أن
بني إسرائيل لما طوحت بهم الرحلة إلى برية
فاران نزلوا بمدينة
قادش فأصبحوا على حدود
أرض كنعان التي هي الأرض المقدسة التي وعدها الله
بني إسرائيل وذلك في أثناء السنة الثانية بعد خروجهم من
مصر فأرسل
موسى اثني عشر رجلا ليتجسسوا
أرض كنعان من كل سبط رجلا وفيهم
يوشع بن نون وكالب بن بفنة فصعدوا وأتوا إلى
مدينة حبرون فوجدوا الأرض ذات خيرات وقطعوا من عنبها ورمانها وتينها ورجعوا لقومهم بعد أربعين يوما وأخبروا
موسى وهارون وجميع
بني إسرائيل وأروهم ثمر الأرض وأخبروهم أنها حقا تفيض لبنا وعسلا غير أن أهلها ذوو عزة ومدنها حصينة جدا فأمر
موسى كالبا فأنصت إسرائيل إلى
موسى وقال إننا نصعد ونمتلكها وكذلك
يوشع ، أما العشرة الآخرون فأشاعوا في
بني إسرائيل مذمة الأرض وأنها تأكل سكانها وأن سكانها جبابرة فخافت
بنو إسرائيل من سكان الأرض وجبنوا عن القتال فقام فيهم
يوشع وكالب قائلين لا تخافوا من العدو فإنهم لقمة لنا والله معنا ، فلم يصغ القوم لهم وأوحى الله
لموسى أن
بني إسرائيل أساءوا الظن بربهم وأنه مهلكهم فاستشفع لهم
موسى فعفا الله عنهم ولكنه حرمهم من الدخول إلى الأرض المقدسة أربعين سنة يتيهون فلا يدخل لها أحد من الحاضرين يومئذ إلا يوشع وكالب وأرسل الله على الجواسيس العشرة المثبطين وباء أهلكهم .
فهذه الآية تنطبق على هذه القصة تمام الانطباق لا سيما إذا ضمت لها آية سورة المائدة
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=25الفاسقين فقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58ادخلوا هذه القرية الظاهر أنه أراد بها حبرون التي كانت قريبة منهم والتي ذهب إليها جواسيسهم وأتوا بثمارها ، وقيل أراد من القرية الجهة كلها قاله
القرطبي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16670عمرو بن شبة فإن القرية تطلق على المزرعة لكن هذا يبعده قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وادخلوا الباب يطلق على المدخل بين الجبلين وكيفما كان ينتظم
[ ص: 514 ] ذلك مع قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58فكلوا منها حيث شئتم رغدا يشير إلى الثمار الكثيرة هناك . وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم يتعين أنه إشارة إلى ما أشاعه الجواسيس العشرة من مذمة الأرض وصعوبتها وأنهم لم يقولوا مثل ما قال
موسى حيث استنصت الشعب بلسان
كالب بن بفنة ويوشع ويدل لذلك قوله تعالى في سورة الأعراف
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=162فبدل الذين ظلموا منهم قولا أي من الذين قيل لهم ادخلوا القرية وأن الرجز الذي أصاب الذين ظلموا هو الوباء الذي أصاب العشرة الجواسيس وينتظم ذلك أيضا مع قوله في آية المائدة
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين إلخ وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإن الباب يناسب القرية . وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=26قال فإنها محرمة عليهم فهذا هو التفسير الصحيح المنطبق على التاريخ الصريح . فقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وإذ قلنا أي على لسان
موسى فبلغه للقوم بواسطة استنصات
كالب بن بفنة ، وهذا هو الذي يوافق ما في سورة العقود في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم الآيات . وعلى هذا الوجه فقوله ( ادخلوا ) إما أمر بدخول قرية قريبة منهم وهي
حبرون لتكون مركزا أولا لهم ، والأمر بالدخول أمر بما يتوقف الدخول عليه أعني القتال كما دلت عليه آية المائدة إذ قال
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ادخلوا الأرض المقدسة إلى قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ولا ترتدوا على أدباركم فإن الارتداد على الأدبار من الألفاظ المتعارفة في الحروب كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=15فلا تولوهم الأدبار ولعل في الإشارة بكلمة " هذه " - المفيدة للقرب - ما يرجح أن القرية هي
حبرون التي طلع إليها جواسيسهم .
والقرية بفتح القاف لا غير على الأصح البلدة المشتملة على المساكن المبنية من حجارة وهي مشتقة من القري بفتح فسكون وبالياء وهو الجمع يقال قرى الشيء يقريه إذا جمعه وهي تطلق على البلدة الصغيرة وعلى المدينة الكبيرة ذات الأسوار والأبواب كما أريد بها هنا بدليل قوله ( وادخلوا الباب سجدا ) وجمع القرية قرى بضم القاف على غير قياس لأن قياس فعل أن يكون جمعا لفعلة بكسر الفاء مثل كسوة وكسى ، وقياس جمع قرية أن يكون على قراء بكسر القاف وبالمد كما قالوا ركوة وركاء وشكوة وشكاء .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وادخلوا الباب سجدا مراد به باب القرية لأن ( ال ) متعينة للعوضية عن
[ ص: 515 ] المضاف إليه الدال عليه اللفظ المتقدم - ومعنى السجود عند الدخول الانحناء شكرا لله تعالى لا لأن بابها قصير كما قيل إذ لا جدوى له والظاهر أن المقصود من السجود مطلق الانحناء لإظهار العجز والضعف كيلا يفطن لهم أهل القرية وهذا من أحوال الجوسسة ، ولم تتعرض لها التوراة . ويبعد أن يكون السجود المأمور به سجود الشكر لأنهم داخلون متجسسين لا فاتحين وقد جاء في الحديث الصحيح أنهم بدلوا وصية
موسى فدخلوا يزحفون على أستاههم كأنهم أرادوا إظهار الزمانة فأفرطوا في التصنع بحيث يكاد أن يفتضح أمرهم لأن بعض التصنع لا يستطاع استمراره .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وقولوا حطة الحطة فعلة من الحط وهو الخفض وأصل الصيغة أن تدل على الهيئة ولكنها هنا مراد بها مطلق المصدر ، والظاهر أن هذا القول كان معروفا في ذلك المكان للدلالة على العجز أو هو من أقوال السؤال والشحاذين كيلا يحسب لهم أهل القرية حسابا ولا يأخذوا حذرا منهم فيكون القول الذي أمروا به قولا يخاطبون به أهل القرية .
وقيل المراد من الحطة سؤال غفران الذنوب أي حط عنا ذنوبنا أي اسألوا الله غفران ذنوبكم إن دخلتم القرية . وقيل من الحط بمعنى حط الرحال أي إقامة أي ادخلوا قائلين إنكم ناوون الإقامة بها إذ الحرب ودخول ديار العدو يكون فتحا ويكون صلحا ويكون للغنيمة ثم الإياب . وهذان التأويلان بعيدان ولأن القراءة بالرفع وهي المشهورة تنافي القول بأنها طلب المغفرة ؛ لأن المصدر المراد به الدعاء لا يرتفع على معنى الإخبار نحو سقيا ورعيا وإنما يرتفع إذا قصد به المدح أو التعجب لقربهما من الخبر دون الدعاء ولا يستعمل الخبر في الدعاء إلا بصيغة الفعل نحو رحمه الله ويرحمه الله . وحطة بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر نحو : ( سمع وطاعة ) و ( صبر جميل ) .
والخطايا جمع خطيئة ولامها مهموزة فقياس جمعها خطائئ بهمزتين بوزن فعائل ، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء لأن قبلها كسرة أو لأن في الهمزتين ثقلا فخففوا الأخيرة منهما ياء ثم قلبوها ألفا إما لاجتماع ثقل الياء مع ثقل صيغة الجمع وإما لأنه لما أشبه جائي استحق التخفيف ولكنهم لم يعاملوه معاملة ( جائي ) لأن همزة ( جائي ) زائدة وهمزة خطائي أصلية ففروا بتخفيفه إلى قلب الياء ألفا كما فعلوا في يتامى ووجدوا له في الأسماء الصحيحة نظيرا وهو طهارى جمع طاهرة . والخطيئة فعلية بمعنى مفعولة لأنها مخطوء بها أي مسلوك بها
[ ص: 516 ] مسلك الخطأ أشاروا إلى أنها فعل يحق أن لا يقع فيه فاعله إلا خطأ فهي الذنب والمعصية .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وسنزيد المحسنين وعد بالزيادة من خيري الدنيا والآخرة ولذلك حذف مفعول نزيد . والواو عاطفة جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=161سنزيد على جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58قلنا ادخلوا أي وقلنا سنزيد المحسنين ; لأن جملة سنزيد حكيت في سورة الأعراف مستأنفة فعلم أنها تعبر عن نظير لها في الكلام الذي خاطب الله به
موسى على معنى الترقي في التفضل فلما حكيت هنا عطفت عطف القول على القول .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم أي بدل العشرة القول الذي أمر
موسى بإعلانه في القوم وهو الترغيب في دخول القرية وتهوين العدو عليهم فقالوا لهم لا تستطيعون قتالهم وثبطوهم ولذلك عوقبوا فأنزل عليهم رجز من السماء وهو الطاعون . وإنما جعل من السماء لأنه لم يكن له سبب أرضى من عدوى أو نحوها فعلم أنه رمتهم به الملائكة من السماء بأن ألقيت عناصره وجراثيمه عليهم فأصيبوا به دون غيرهم .
ولأجل هذا خص التبديل بفريق معروف عندهم فعبر عنه بطريق الموصولية لعلم المخاطبين به وبتلك الصلة فدل على أن التبديل ليس من فعل جميع القوم أو معظمهم لأن الآية تذكير لليهود بما هو معلوم لهم من حوادثهم .
وإنما جاء بالظاهر في موضع المضمر في قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا ولم يقل عليهم لئلا يتوهم أن الرجز عم جميع
بني إسرائيل وبذلك تنطبق الآية على ما ذكرته التوراة تمام الانطباق .
وتبديل القول تبديل جميع ما قاله الله لهم وما حدثهم الناس عن حال القرية ، وللإشارة إلى جميع هذا بنى فعل قيل إلى المجهول إيجازا . ف ( قولا ) مفعول أول لبدل ، و ( غير الذي قيل ) مفعول ثان لأن ( بدل ) يتعدى إلى مفعولين من باب كسى أي مما دل على عكس معنى كسى مثل ( سلبه ثوبه ) . قال
أبو الشيص :
بدلت من برد الشباب ملاءة خلقا وبئس مثوبة المقتاض
وفائدة إظهار لفظ القول دون أن يقال فبدلوه لدفع توهم أنهم بدلوا لفظ حطة خاصة وامتثلوا ما عدا ذلك لأنه لو كان كذلك لكان الأمر هينا .
[ ص: 517 ] وقد ورد في الحديث عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أن القول الذي بدلوا به أنهم قالوا حبة في شعرة أو في شعيرة ، والظاهر أن المراد به أن العشرة استهزءوا بالكلام الذي أعلنه
موسى عليه السلام في الترغيب في فتح الأرض وكنوا عن ذلك بأن محاولتهم فتح الأرض كمحاولة ربط حبة بشعرة أي في التعذر ، أو هو كأكل حبة مع شعرة تخنق آكلها ، أو حبة من بر مع شعيرة .
وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فبدل الذين ظلموا وقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فأنزلنا على الذين ظلموا اعتنى فيهما بالإظهار في موضع الإضمار ليعلم أن الرجز خص الذين بدلوا القول وهم العشرة الذين أشاعوا مذمة الأرض لأنهم كانوا السبب في شقاء أمة كاملة .
وفي هذا موعظة وذكرى لكل من ينصب نفسه لإرشاد قوم ليكون على بصيرة بما يأتي ويذر وعلم بعواقب الأمور فمن البر ما يكون عقوقا ، وفي المثل " على أهلها تجني براقش " وهي اسم كلبة قوم كانت تحرسهم بالليل فدل نبحها أعداءهم عليهم فاستأصلوهم فضربت مثلا .
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58nindex.php?page=treesubj&link=28973_32419وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ يُغْفَرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ هَذَا تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةٍ أُخْرَى مُكِّنُوا مِنْهَا فَمَا أَحْسَنُوا قَبُولَهَا وَلَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَحُرِمُوا مِنْهَا إِلَى حِينٍ وَعُوقِبَ الَّذِينَ كَانُوا السَّبَبَ فِي عَدَمِ قَبُولِهَا .
وَفِي التَّذْكِيرِ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِبَذْلِ النِّعْمَةِ لَهُمْ لِأَنَّ النِّعْمَةَ نِعْمَةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْهَا الْمُنْعَمُ عَلَيْهِ ، وَإِثَارَةٌ لِحَسْرَتِهِمْ عَلَى مَا فَاتَ أَسْلَافَهُمْ وَمَا لَقُوهُ مِنْ جَرَّاءِ إِعْجَابِهِمْ بِآرَائِهِمْ ، وَمَوْعِظَةٌ لَهُمْ أَنْ لَا يَقَعُوا فِيمَا وَقَعَ فِيهِ الْأَوَّلُونَ فَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ كُلَّمَا صَدَفُوا عَنْ قَدْرِ حَقِّ النِّعَمِ نَالَتْهُمُ الْمَصَائِبُ .
قَالَ
الشَّيْخُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ : مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمِ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا ، وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا . وَلِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَا عَنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ اخْتُصِرَ فِيهَا الْكَلَامُ اخْتِصَارًا تَرَكَ كَثِيرًا مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا حَيَارَى . فَسَلَكُوا طَرَائِقَ فِي انْتِزَاعِ تَفْصِيلِ الْمَعْنَى مِنْ مُجْمَلِهَا فَمَا أَتَوْا عَلَى شَيْءٍ مُقْنِعٍ ، وَكُنْتَ تَجِدُ أَقْوَالَهُمْ هُنَا إِذَا الْتَأَمَ
[ ص: 513 ] بَعْضُهَا بِنَظْمِ الْآيَةِ لَا يَلْتَئِمُ بَعْضُهُ الْآخَرُ ، وَرُبَّمَا خَالَفَ جَمِيعُهَا مَا وَقَعَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ .
وَالَّذِي عِنْدِي مِنَ الْقَوْلِ فِي تَفْسِيرِ هَاتِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى قِصَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَضَمَّنَتْهَا كُتُبُهُمْ وَهِيَ أَنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَوَّحَتْ بِهِمُ الرِّحْلَةُ إِلَى بَرِّيَّةِ
فَارَانَ نَزَلُوا بِمَدِينَةِ
قَادِشٍ فَأَصْبَحُوا عَلَى حُدُودِ
أَرْضِ كَنْعَانَ الَّتِي هِيَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ الَّتِي وَعَدَهَا اللَّهُ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَذَلِكَ فِي أَثْنَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِنْ
مِصْرَ فَأَرْسَلَ
مُوسَى اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا لِيَتَجَسَّسُوا
أَرْضَ كَنْعَانَ مِنْ كُلِّ سِبْطٍ رَجُلًا وَفِيهِمْ
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ وَكَالَبُ بْنُ بَفْنَةَ فَصَعِدُوا وَأَتَوْا إِلَى
مَدِينَةِ حَبْرُونَ فَوَجَدُوا الْأَرْضَ ذَاتَ خَيْرَاتٍ وَقَطَعُوا مِنْ عِنَبِهَا وَرُمَّانِهَا وَتِينِهَا وَرَجَعُوا لِقَوْمِهِمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَأَخْبَرُوا
مُوسَى وَهَارُونَ وَجَمِيعَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرَوْهُمْ ثَمَرَ الْأَرْضِ وَأَخْبَرُوهُمْ أَنَّهَا حَقًّا تَفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا غَيْرَ أَنَّ أَهْلَهَا ذَوُو عِزَّةٍ وَمُدُنَهَا حَصِينَةٌ جِدًّا فَأَمَرَ
مُوسَى كَالِبًا فَأَنْصَتَ إِسْرَائِيلُ إِلَى
مُوسَى وَقَالَ إِنَّنَا نَصْعَدُ وَنَمْتَلِكُهَا وَكَذَلِكَ
يُوشَعُ ، أَمَّا الْعَشَرَةُ الْآخَرُونَ فَأَشَاعُوا فِي
بَنِي إِسْرَائِيلَ مَذَمَّةَ الْأَرْضِ وَأَنَّهَا تَأْكُلُ سُكَّانَهَا وَأَنَّ سُكَّانَهَا جَبَابِرَةٌ فَخَافَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ وَجَبُنُوا عَنِ الْقِتَالِ فَقَامَ فِيهِمْ
يُوشَعُ وَكَالِبٌ قَائِلِينَ لَا تَخَافُوا مِنَ الْعَدُوِّ فَإِنَّهُمْ لُقْمَةٌ لَنَا وَاللَّهُ مَعَنَا ، فَلَمْ يُصْغِ الْقَوْمُ لَهُمْ وَأَوْحَى اللَّهُ
لِمُوسَى أَنَّ
بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسَاءُوا الظَّنَّ بِرَبِّهِمْ وَأَنَّهُ مُهْلِكُهُمْ فَاسْتَشْفَعَ لَهُمْ
مُوسَى فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ حَرَمَهُمْ مِنَ الدُّخُولِ إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فَلَا يَدْخُلُ لَهَا أَحَدٌ مِنَ الْحَاضِرِينَ يَوْمَئِذٍ إِلَّا يُوشَعُ وَكَالَبُ وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَى الْجَوَاسِيسِ الْعَشَرَةِ الْمُثَبِّطِينَ وَبَاءً أَهْلَكَهُمْ .
فَهَذِهِ الْآيَةُ تَنْطَبِقُ عَلَى هَذِهِ الْقِصَّةِ تَمَامَ الِانْطِبَاقِ لَا سِيَّمَا إِذَا ضَمَّتْ لَهَا آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=25الْفَاسِقِينَ فَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهَا حَبْرُونَ الَّتِي كَانَتْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ وَالَّتِي ذَهَبَ إِلَيْهَا جَوَاسِيسُهُمْ وَأَتَوْا بِثِمَارِهَا ، وَقِيلَ أَرَادَ مِنَ الْقَرْيَةِ الْجِهَةَ كُلَّهَا قَالَهُ
الْقُرْطُبِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16670عَمْرِو بْنِ شَبَّةَ فَإِنَّ الْقَرْيَةَ تُطْلَقُ عَلَى الْمَزْرَعَةِ لَكِنَّ هَذَا يُبْعِدُهُ قَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَادْخُلُوا الْبَابَ يُطْلَقُ عَلَى الْمَدْخَلِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَكَيْفَمَا كَانَ يَنْتَظِمُ
[ ص: 514 ] ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا يُشِيرُ إِلَى الثِّمَارِ الْكَثِيرَةِ هُنَاكَ . وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَاعَهُ الْجَوَاسِيسُ الْعَشَرَةُ مِنْ مَذَمَّةِ الْأَرْضِ وَصُعُوبَتِهَا وَأَنَّهُمْ لَمْ يَقُولُوا مِثْلَ مَا قَالَ
مُوسَى حَيْثُ اسْتَنْصَتَ الشَّعْبُ بِلِسَانِ
كَالَبِ بْنِ بَفْنَةَ وَيُوشَعَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=162فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا أَيْ مِنَ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمُ ادْخُلُوا الْقَرْيَةَ وَأَنَّ الرِّجْزَ الَّذِي أَصَابَ الَّذِينَ ظَلَمُوا هُوَ الْوَبَاءُ الَّذِي أَصَابَ الْعَشَرَةَ الْجَوَاسِيسَ وَيَنْتَظِمُ ذَلِكَ أَيْضًا مَعَ قَوْلِهِ فِي آيَةِ الْمَائِدَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=22قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ إِلَخْ وَقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=23قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِنَّ الْبَابَ يُنَاسِبُ الْقَرْيَةَ . وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=26قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ فَهَذَا هُوَ التَّفْسِيرُ الصَّحِيحُ الْمُنْطَبِقُ عَلَى التَّارِيخِ الصَّرِيحِ . فَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَإِذْ قُلْنَا أَيْ عَلَى لِسَانِ
مُوسَى فَبَلَّغَهُ لِلْقَوْمِ بِوَاسِطَةِ اسْتِنْصَاتِ
كَالِبِ بْنِ بَفْنَةَ ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يُوَافِقُ مَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ الْآيَاتِ . وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَوْلُهُ ( ادْخُلُوا ) إِمَّا أَمْرٌ بِدُخُولِ قَرْيَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْهُمْ وَهِيَ
حَبْرُونُ لِتَكُونَ مَرْكَزًا أَوَّلًا لَهُمْ ، وَالْأَمْرُ بِالدُّخُولِ أَمْرٌ بِمَا يَتَوَقَّفُ الدُّخُولُ عَلَيْهِ أَعْنِي الْقِتَالَ كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ آيَةُ الْمَائِدَةِ إِذْ قَالَ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ إِلَى قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=21وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَإِنَّ الِارْتِدَادَ عَلَى الْأَدْبَارِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُتَعَارَفَةِ فِي الْحُرُوبِ كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=8&ayano=15فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَلَعَلَّ فِي الْإِشَارَةِ بِكَلِمَةِ " هَذِهِ " - الْمُفِيدَةِ لِلْقُرْبِ - مَا يُرَجِّحُ أَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ
حَبْرُونُ الَّتِي طَلَعَ إِلَيْهَا جَوَاسِيسُهُمْ .
وَالْقَرْيَةُ بِفَتْحِ الْقَافِ لَا غَيْرَ عَلَى الْأَصَحِّ الْبَلْدَةُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى الْمَسَاكِنِ الْمَبْنِيَّةِ مِنْ حِجَارَةٍ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْقَرْيِ بِفَتْحٍ فَسُكُونٍ وَبِالْيَاءِ وَهُوَ الْجَمْعُ يُقَالُ قَرَى الشَّيْءَ يَقْرِيهِ إِذَا جَمَعَهُ وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى الْبَلْدَةِ الصَّغِيرَةِ وَعَلَى الْمَدِينَةِ الْكَبِيرَةِ ذَاتِ الْأَسْوَارِ وَالْأَبْوَابِ كَمَا أُرِيدَ بِهَا هُنَا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ( وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا ) وَجَمْعُ الْقَرْيَةِ قُرًى بِضَمِّ الْقَافِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّ قِيَاسَ فُعَلٍ أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لِفِعْلَةٍ بِكَسْرِ الْفَاءِ مِثْلَ كِسْوَةٍ وَكُسَى ، وَقِيَاسُ جَمْعِ قَرْيَةٍ أَنْ يَكُونَ عَلَى قِرَاءٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَبِالْمَدِّ كَمَا قَالُوا رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ وَشَكْوَةٌ وَشِكَاءٌ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا مُرَادٌ بِهِ بَابُ الْقَرْيَةِ لِأَنَّ ( الْ ) مُتَعَيِّنَةٌ لِلْعِوَضِيَّةِ عَنِ
[ ص: 515 ] الْمُضَافِ إِلَيْهِ الدَّالِّ عَلَيْهِ اللَّفْظُ الْمُتَقَدِّمُ - وَمَعْنَى السُّجُودِ عِنْدَ الدُّخُولِ الِانْحِنَاءُ شُكْرًا لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِأَنَّ بَابَهَا قَصِيرٌ كَمَا قِيلَ إِذْ لَا جَدْوَى لَهُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ السُّجُودِ مُطْلَقُ الِانْحِنَاءِ لِإِظْهَارِ الْعَجْزِ وَالضَّعْفِ كَيْلَا يَفْطِنَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْجَوْسَسَةِ ، وَلَمْ تَتَعَرَّضْ لَهَا التَّوْرَاةُ . وَيَبْعُدْ أَنْ يَكُونَ السُّجُودُ الْمَأْمُورُ بِهِ سُجُودَ الشُّكْرِ لِأَنَّهُمْ دَاخِلُونَ مُتَجَسِّسِينَ لَا فَاتِحِينَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا وَصِيَّةَ
مُوسَى فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ كَأَنَّهُمْ أَرَادُوا إِظْهَارَ الزَّمَانَةِ فَأَفْرَطُوا فِي التَّصَنُّعِ بِحَيْثُ يَكَادُ أَنْ يَفْتَضِحَ أَمْرُهُمْ لِأَنَّ بَعْضَ التَّصَنُّعِ لَا يُسْتَطَاعُ اسْتِمْرَارُهُ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَقُولُوا حِطَّةٌ الْحِطَّةُ فِعْلَةٌ مِنَ الْحَطِّ وَهُوَ الْخَفْضُ وَأَصْلُ الصِّيغَةِ أَنَّ تَدُلَّ عَلَى الْهَيْئَةِ وَلَكِنَّهَا هَنَا مُرَادٌ بِهَا مُطْلَقُ الْمَصْدَرِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ كَانَ مَعْرُوفًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى الْعَجْزِ أَوْ هُوَ مِنْ أَقْوَالِ السُّؤَّالِ وَالشَّحَّاذِينَ كَيْلَا يَحْسِبَ لَهُمْ أَهْلُ الْقَرْيَةِ حِسَابًا وَلَا يَأْخُذُوا حَذَرًا مِنْهُمْ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الَّذِي أُمِرُوا بِهِ قَوْلًا يُخَاطِبُونَ بِهِ أَهْلَ الْقَرْيَةِ .
وَقِيلَ الْمُرَادُ مِنَ الْحِطَّةِ سُؤَالُ غُفْرَانِ الذُّنُوبِ أَيْ حُطَّ عَنَّا ذُنُوبَنَا أَيِ اسْأَلُوا اللَّهَ غُفْرَانَ ذُنُوبِكُمْ إِنْ دَخَلْتُمُ الْقَرْيَةَ . وَقِيلَ مِنَ الْحَطِّ بِمَعْنَى حَطِّ الرِّحَالِ أَيْ إِقَامَةٍ أَيِ ادْخُلُوا قَائِلِينَ إِنَّكُمْ نَاوُونَ الْإِقَامَةَ بِهَا إِذِ الْحَرْبُ وَدُخُولُ دِيَارِ الْعَدُوِّ يَكُونُ فَتْحًا وَيَكُونُ صُلْحًا وَيَكُونُ لِلْغَنِيمَةِ ثُمَّ الْإِيَابِ . وَهَذَانِ التَّأْوِيلَانِ بَعِيدَانِ وَلِأَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالرَّفْعِ وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ تُنَافِي الْقَوْلَ بِأَنَّهَا طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُرَادُ بِهِ الدُّعَاءُ لَا يَرْتَفِعُ عَلَى مَعْنَى الْإِخْبَارِ نَحْوَ سَقْيًا وَرَعْيًا وَإِنَّمَا يَرْتَفِعُ إِذَا قُصِدَ بِهِ الْمَدْحُ أَوِ التَّعَجُّبُ لِقُرْبِهِمَا مِنَ الْخَبَرِ دُونَ الدُّعَاءِ وَلَا يُسْتَعْمَلُ الْخَبَرُ فِي الدُّعَاءِ إِلَّا بِصِيغَةِ الْفِعْلِ نَحْوَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَرْحَمُهُ اللَّهُ . وَحِطَّةٌ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ أَوْ خَبَرٌ نَحْوَ : ( سَمْعٌ وَطَاعَةٌ ) وَ ( صَبْرٌ جَمِيلٌ ) .
وَالْخَطَايَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ وَلَامُهَا مَهْمُوزَةٌ فَقِيَاسُ جَمْعِهَا خَطَائِئُ بِهَمْزَتَيْنِ بِوَزْنِ فَعَائِلَ ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْهَمْزَتَانِ قُلِبَتِ الثَّانِيَةُ يَاءً لِأَنَّ قَبْلَهَا كَسْرَةً أَوْ لِأَنَّ فِي الْهَمْزَتَيْنِ ثِقَلًا فَخَفَّفُوا الْأَخِيرَةَ مِنْهُمَا يَاءً ثُمَّ قَلَبُوهَا أَلِفًا إِمَّا لِاجْتِمَاعِ ثِقَلِ الْيَاءِ مَعَ ثِقَلِ صِيغَةِ الْجَمْعِ وَإِمَّا لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْبَهَ جَائِيَ اسْتَحَقَّ التَّخْفِيفَ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُعَامِلُوهُ مُعَامَلَةَ ( جَائِي ) لِأَنَّ هَمْزَةَ ( جَائِي ) زَائِدَةٌ وَهَمْزَةَ خَطَائِي أَصْلِيَّةٌ فَفَرُّوا بِتَخْفِيفِهِ إِلَى قَلْبِ الْيَاءِ أَلِفًا كَمَا فَعَلُوا فِي يَتَامَى وَوَجَدُوا لَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّحِيحَةِ نَظِيرًا وَهُوَ طَهَارَى جَمْعُ طَاهِرَةٍ . وَالْخَطِيئَةُ فِعْلِيَّةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ لِأَنَّهَا مَخْطُوءٌ بِهَا أَيْ مَسْلُوكٌ بِهَا
[ ص: 516 ] مَسْلَكَ الْخَطَأِ أَشَارُوا إِلَى أَنَّهَا فِعْلٌ يَحِقُّ أَنْ لَا يَقَعَ فِيهِ فَاعِلُهُ إِلَّا خَطَأً فَهِيَ الذَّنْبُ وَالْمَعْصِيَةُ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وَعْدٌ بِالزِّيَادَةِ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مَفْعُولُ نَزِيدُ . وَالْوَاوُ عَاطِفَةُ جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=161سَنَزِيدُ عَلَى جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=58قُلْنَا ادْخُلُوا أَيْ وَقُلْنَا سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ; لِأَنَّ جُمْلَةَ سَنَزِيدُ حُكِيَتْ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ مُسْتَأْنَفَةً فَعُلِمَ أَنَّهَا تُعَبِّرُ عَنْ نَظِيرٍ لَهَا فِي الْكَلَامِ الَّذِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهِ
مُوسَى عَلَى مَعْنَى التَّرَقِّي فِي التَّفَضُّلِ فَلَمَّا حُكِيَتْ هُنَا عُطِفَتْ عَطْفَ الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أَيْ بَدَّلَ الْعَشَرَةُ الْقَوْلَ الَّذِي أُمِرَ
مُوسَى بِإِعْلَانِهِ فِي الْقَوْمِ وَهُوَ التَّرْغِيبُ فِي دُخُولِ الْقَرْيَةِ وَتَهْوِينُ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا لَهُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ قِتَالَهُمْ وَثَبَّطُوهُمْ وَلِذَلِكَ عُوقِبُوا فَأُنْزِلَ عَلَيْهِمْ رِجْزٌ مِنَ السَّمَاءِ وَهُوَ الطَّاعُونُ . وَإِنَّمَا جُعِلَ مِنَ السَّمَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ سَبَبٌ أَرْضَى مِنْ عَدْوَى أَوْ نَحْوِهَا فَعُلِمَ أَنَّهُ رَمَتْهُمْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ مِنَ السَّمَاءِ بِأَنْ أُلْقِيَتْ عَنَاصِرُهُ وَجَرَاثِيمُهُ عَلَيْهِمْ فَأُصِيبُوا بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ .
وَلِأَجْلِ هَذَا خُصَّ التَّبْدِيلُ بِفَرِيقٍ مَعْرُوفٍ عِنْدَهُمْ فَعُبِّرَ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْمَوْصُولِيَّةِ لِعِلْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِهِ وَبِتِلْكَ الصِّلَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّبْدِيلَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ جَمِيعِ الْقَوْمِ أَوْ مُعْظَمِهِمْ لِأَنَّ الْآيَةَ تَذْكِيرٌ لِلْيَهُودِ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُمْ مِنْ حَوَادِثِهِمْ .
وَإِنَّمَا جَاءَ بِالظَّاهِرِ فِي مَوْضِعِ الْمُضْمَرِ فِي قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا وَلَمْ يَقُلْ عَلَيْهِمْ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الرِّجْزَ عَمَّ جَمِيعَ
بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبِذَلِكَ تَنْطَبِقُ الْآيَةُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ التَّوْرَاةُ تَمَامَ الِانْطِبَاقِ .
وَتَبْدِيلُ الْقَوْلِ تَبْدِيلُ جَمِيعِ مَا قَالَهُ اللَّهُ لَهُمْ وَمَا حَدَّثَهُمُ النَّاسُ عَنْ حَالِ الْقَرْيَةِ ، وَلِلْإِشَارَةِ إِلَى جَمِيعِ هَذَا بَنَى فِعْلَ قِيلَ إِلَى الْمَجْهُولِ إِيجَازًا . فَ ( قَوْلًا ) مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِبَدَّلَ ، وَ ( غَيْرَ الَّذِي قِيلَ ) مَفْعُولٌ ثَانٍ لِأَنَّ ( بَدَّلَ ) يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ مِنْ بَابِ كَسَى أَيْ مِمَّا دَلَّ عَلَى عَكْسِ مَعْنَى كَسَى مِثْلَ ( سَلَبَهُ ثَوْبَهُ ) . قَالَ
أَبُو الشِّيصِ :
بُدِّلْتُ مِنْ بُرْدِ الشَّبَابِ مُلَاءَةً خَلَقًا وَبِئْسَ مَثُوبَةُ الْمُقْتَاضِ
وَفَائِدَةُ إِظْهَارِ لَفْظِ الْقَوْلِ دُونَ أَنْ يُقَالَ فَبَدَّلُوهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا لَفْظَ حِطَّةٍ خَاصَّةً وَامْتَثَلُوا مَا عَدَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ الْأَمْرُ هَيِّنًا .
[ ص: 517 ] وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=3أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْقَوْلَ الَّذِي بَدَّلُوا بِهِ أَنَّهُمْ قَالُوا حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ أَوْ فِي شُعَيْرَةٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّ الْعَشَرَةَ اسْتَهْزَءُوا بِالْكَلَامِ الَّذِي أَعْلَنَهُ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّرْغِيبِ فِي فَتْحِ الْأَرْضِ وَكَنَّوْا عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ مُحَاوَلَتَهُمْ فَتْحَ الْأَرْضِ كَمُحَاوَلَةِ رَبْطِ حَبَّةٍ بِشَعْرَةٍ أَيْ فِي التَّعَذُّرِ ، أَوْ هُوَ كَأَكْلِ حَبَّةٍ مَعَ شَعْرَةٍ تَخْنُقُ آكِلَهَا ، أَوْ حَبَّةٍ مِنْ بُرٍّ مَعَ شُعَيْرَةٍ .
وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَقَوْلُهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=59فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا اعْتَنَى فِيهِمَا بِالْإِظْهَارِ فِي مَوْضِعِ الْإِضْمَارِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الرِّجْزَ خَصَّ الَّذِينَ بَدَّلُوا الْقَوْلَ وَهُمُ الْعَشَرَةُ الَّذِينَ أَشَاعُوا مَذَمَّةَ الْأَرْضِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا السَّبَبَ فِي شَقَاءِ أُمَّةٍ كَامِلَةٍ .
وَفِي هَذَا مَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِكُلِّ مَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِإِرْشَادِ قَوْمٍ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ بِمَا يَأْتِي وَيَذَرُ وَعِلْمٍ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ فَمِنَ الْبِرِّ مَا يَكُونُ عُقُوقًا ، وَفِي الْمَثَلِ " عَلَى أَهْلِهَا تَجْنِي بَرَاقِشُ " وَهِيَ اسْمُ كَلْبَةِ قَوْمٍ كَانَتْ تَحْرُسُهُمْ بِاللَّيْلِ فَدَلَّ نَبْحُهَا أَعْدَاءَهُمْ عَلَيْهِمْ فَاسْتَأْصَلُوهُمْ فَضُرِبَتْ مَثَلًا .