[ ص: 22 ] ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر إذ يريكهم الله بدل من قوله : إذ أنتم بالعدوة الدنيا فإن هذه الرؤيا مما اشتمل عليه زمان كونهم بالعدوة الدنيا لوقوعها في مدة نزول المسلمين بالعدوة من بدر ، فهو بدل من بدل .
والمنام مصدر ميمي بمعنى النوم ويطلق على زمن النوم وعلى مكانه .
ويتعلق قوله : في منامك بفعل " يريكهم " فالإرادة إرادة رؤيا ، وأسندت الإرادة إلى الله - تعالى - لأن رؤيا النبيء - صلى الله عليه وسلم - وحي بمدلولها ، كما دل عليه قوله تعالى ، حكاية عن إبراهيم وابنه قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر فإن أرواح الأنبياء لا تغلبها الأخلاط ، ولا تجول حواسهم الباطنة في العبث ، فما رؤياهم إلا مكاشفات روحانية على عالم الحقائق .
وكان النبيء - صلى الله عليه وسلم - قد رأى رؤيا منام ، جيش المشركين قليلا ، أي قليل العدد وأخبر برؤياه المسلمين فتشجعوا للقاء المشركين ، وحملوها على ظاهرها ، وزال عنهم ما كان يخامرهم من تهيب جيش المشركين . فكانت تلك الرؤيا من أسباب النصر ، وكانت تلك الرؤيا منة من الله على رسوله والمؤمنين ، وكانت قلة العدد في الرؤيا رمزا وكناية عن وهن أمر المشركين لا عن قلة عددهم .
ولذلك جعلها الله في رؤيا النوم دون الوحي ; لأن صور المرائي المنامية تكون رموزا لمعان فلا تعد صورتها الظاهرية خلفا ، بخلاف الوحي بالكلام .
وقد حكاها النبيء - صلى الله عليه وسلم - للمسلمين ، فأخذوها على ظاهرها ، لعلمهم أن رؤيا النبيء وحي ، وقد يكون النبيء قد أطلعه الله على تعبيرها الصائب ، وقد يكون صرفه عن ذلك فظن كالمسلمين ظاهرها ، وكل ذلك للحكمة . فرؤيا النبيء [ ص: 23 ] - صلى الله عليه وسلم - لم تخطئ ولكنها أوهمتهم قلة العدد ; لأن ذلك مرغوبهم والمقصود منه حاصل ، وهو تحقق النصر ، ولو أخبروا بعدد المشركين كما هو لجبنوا عن اللقاء فضعفت أسباب النصر الظاهرة المعتادة التي تكسبهم حسن الأحدوثة . ورؤيا النبيء لا تخطئ ولكنها قد تكون جارية على الصورة الحاصلة في الخارج كما ورد في حديث عائشة في بدء الوحي : ، وقد تكون رؤيا النبيء - صلى الله عليه وسلم - رمزية وكناية كما في حديث رؤياه بقرا تذبح ويقال له : الله خير . فلم يعلم المراد حتى تبين له أنهم المؤمنون الذين قتلوا يوم أنه كان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، وهذا هو الغالب وخاصة قبل ابتداء نزول الملك بالوحي أحد . فلما أراد الله خذل المشركين وهزمهم أرى نبيئه المشركين قليلا كناية بأحد أسباب الانهزام ، فإن الانهزام يجيء من قلة العدد .
وقد يمسك النبيء - عليه الصلاة والسلام - عن بيان التعبير الصحيح لحكمة كما في أبي بكر رؤيا الرجل الذي قص رؤياه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول النبيء له أصبت بعضا وأخطأت بعضا وأبى أن يبين له ما أصاب منها وما أخطأ . ولو أخبر الله رسوله ليخبر المؤمنين بأنهم غالبون المشركين لآمنوا بذلك إيمانا عقليا لا يحصل منه ما يحصل من التصوير بالمحسوس ، ولو لم يخبره ولم يره تلك الرؤيا لكان المسلمون يحسبون للمشركين حسابا كبيرا . لأنهم معروفون عندهم بأنهم أقوى من المسلمين بكثير . حديث تعبير
وهذه الرؤيا قد مضت بالنسبة لزمن نزول الآية ، فالتعبير بالفعل المضارع لاستحضار حالة الرؤيا العجيبة .
والقليل هنا قليل العدد بقرينة قوله : كثيرا . أراه الله إياهم قليلي العدد ، وجعل ذلك في المكاشفة النومية كناية عن الوهن والضعف ، فإن لغة العقول والأرواح أوسع من لغة المخاطب ; لأن طريق الاستفادة عندها عقلي مستند إلى محسوس ، فهو واسطة بين الاستدلال العقلي المحض وبين الاستفادة اللغوية .
وأخبر بـ " قليلا و كثيرا " وكلاهما مفرد عن ضمير الجمع لما تقدم عند قوله تعالى : معه ربيون كثير في سورة آل عمران .
[ ص: 24 ] ومعنى ولو أراكهم كثيرا لفشلتم أنه لو أراكهم رؤيا مماثلة للحالة التي تبصرها الأعين لدخل قلوب المسلمين الفشل ، أي إذا حدثهم النبيء بما رأى ، فأراد الله إكرام المسلمين بأن لا يدخل نفوسهم هلع وإن كان النصر مضمونا لهم .
فإن قلت : هذا يقتضي أن الإرادة كانت متعينة ولم لم يترك الله إراءته جيش العدو فلا تكون حاجة إلى تمثيلهم بعدد قليل ، قلت : يظهر أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - رجا أن يرى رؤيا تكشف له عن حال العدو ، فحقق الله رجاءه ، وجنبه ما قد يفضي إلى كدر المسلمين ، أو لعل المسلمين سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستعلم ربه عن حال العدو .
والفشل : الجبن والوهن . والتنازع : الاختلاف . والمراد بالأمر الخطة التي يجب اتباعها في قتال العدو من ثبات أو انجلاء عن القتال .
والتعريف في " الأمر " للعهد وهو أمر القتال وما يقتضيه .
والاستدراك في قوله : ولكن الله سلم راجع إلى ما في جملة ولو أراكهم كثيرا من الإشعار بأن العدو كثير في نفس الأمر ، وأن الرؤيا قد تحاكي الصورة التي في نفس الأمر ، وهو الأكثر في مرائي الأنبياء ، وقد تحاكي المعنى الرمزي وهو الغالب في مرائي غير الأنبياء ، مثل رؤيا ملك مصر سبع بقرات ، ورؤيا صاحبي يوسف في السجن ، وهو القليل في مرائي الأنبياء مثل رؤيا النبيء - صلى الله عليه وسلم - أنه هز سيفا فانكسر في يده ، فمعنى الاستدراك رفع ما فرض في قوله : ولو أراكهم كثيرا . فمفعول " سلم " ومتعلقه محذوفان إيجازا إذ دل عليه قوله : لفشلتم ولتنازعتم والتقدير : سلمكم من الفشل والتنازع بأن سلمكم من سببهما وهو إراءتكم واقع عدد المشركين ; لأن الاطلاع على كثرة العدو يلقي في النفوس تهيبا له وتخوفا منه ، وذلك ينقص شجاعة المسلمين الذين أراد الله أن يوفر لهم منتهى الشجاعة .
ووضع الظاهر موضع المضمر في قوله : ولكن الله سلم دون أن يقول : ولكنه سلم ، لقصد زيادة إسناد ذلك إلى الله ، وأنه بعنايته ، واهتماما بهذا الحادث .
[ ص: 25 ] وجملة إنه عليم بذات الصدور تذييل للمنة ، أي : أوحى إلى رسوله بتلك الرؤيا الرمزية لعلمه بما في الصدور البشرية من تأثر النفوس بالمشاهدات والمحسوسات أكثر مما تتأثر بالاعتقادات ، فعلم أنه لو أخبركم بأن المشركين ينهزمون ، واعتقدتم ذلك لصدق إيمانكم ، لم يكن ذلك الاعتقاد مثيرا في نفوسكم من الشجاعة والإقدام ما يثيره اعتقاد أن عددهم قليل ; لأن الاعتقاد بأنهم ينهزمون لا ينافي توقع شدة تنزل بالمسلمين ، من موت وجراح قبل الانتصار ، فأما اعتقاد قلة العدو فإنها تثير في النفوس إقداما واطمئنان بال ، فلعلمه بذلك أراكهم الله في منامك قليلا .
ومعنى ذات الصدور الأحوال المصاحبة لضمائر النفوس ، فالصدور أطلقت على ما حل فيها من النوايا والمضمرات ، فكلمة " ذات " بمعنى صاحبة ، وهي مؤنث " ذو " أحد الأسماء الخمسة ، فأصل ألفها الواو ووزنها " ذوت " انقلبت واوها ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها ، قال في الكشاف في تفسير سورة فاطر في قوله تعالى : إن الله عليم بذات الصدور هي تأنيث " ذو " و " ذو " موضوع لمعنى الصحبة من قوله : لتغني عني ذا إنائك أجمعا . يعني أن ذات الصدور الحالة التي قرارتها الصدور فهي صاحبتها وساكنتها ، فذات الصدور النوايا والخواطر وما يهم به المرء وما يدبره ويكيده .