والمعنى : إن كانوا يريدون من إظهار ميلهم إلى المسالمة خديعة فإن الله كافيك شرهم . وليس هذا هو مقام نبذ العهد الذي في قوله : وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء فإن ذلك مقام ظهور أمارات الخيانة من العدو ، وهذا مقام إضمارهم الغدر دون أمارة على ما أضمروه .
فجملة فإن حسبك الله دلت على تكفل كفايته ، وقد أريد منه أيضا الكناية عن عدم معاملتهم بهذا الاحتمال ، وأن لا يتوجس منه خيفة ، وأن ذلك لا يضره .
والخديعة تقدمت في قوله تعالى : يخادعون الله من سورة البقرة .
و " حسب " معناه كاف وهو صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل ، أي حاسبك ، أي كافيك وقد تقدم قوله تعالى : وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل في سورة آل عمران .
وتأكيد الخبر بـ ( إن ) مراعى فيه تأكيد معناه الكنائي ; لأن معناه الصريح مما لا يشك فيه أحد .
وجعل " حسبك " مسند إليه ، مع أنه وصف . وشأن الإسناد أن يكون للذات ، باعتبار أن الذي يخطر بالبال بادئ ذي بدء هو طلب من يكفيه .
وجملة هو الذي أيدك بنصره مستأنفة مسوقة مساق الاستدلال على أنه حسبه ، وعلى المعنى التعريضي وهو عدم التحرج من احتمال قصدهم الخيانة والتوجس من ذلك الاحتمال خيفة ، والمعنى : فإن الله قد نصرك من قبل وقد كنت يومئذ أضعف منك اليوم ، فنصرك على العدو وهو مجاهر بعدوانه ، فنصره إياك عليهم مع مخاتلتهم ، ومع كونك في قوة من المؤمنين الذين معك ، أولى وأقرب .
وتعدية فعل " يخدعوك " إلى ضمير النبيء - عليه الصلاة والسلام - باعتبار كونه ولي أمر المسلمين ، والمقصود : وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله ، وقد [ ص: 63 ] بدل الأسلوب إلى خطاب النبيء - صلى الله عليه وسلم - : ليتوصل بذلك إلى ذكر نصره من أول يوم حين دعا إلى الله وهو وحده مخالفا أمة كاملة .
والتأييد التقوية بالإعانة على عمل . وتقدم في قوله : وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس في سورة البقرة .
وجعلت التقوية بالنصر : لأن النصر يقوي العزيمة ، ويثبت رأي المنصور ، وضده يشوش العقل ، ويوهن العزم ، قال رضي الله عنه في بعض خطبه وأفسدتم علي رأيي بالعصيان حتى قالت علي بن أبي طالب قريش : ابن أبي طالب رجل شجاع ولكن لا معرفة له بالحرب .
وإضافة النصر إلى الله : تنبيه على أنه نصر خارق للعادة ، وهو النصر بالملائكة والخوارق ، من أول أيام الدعوة . .
وقوله : " وبالمؤمنين " عطف على " بنصره " وأعيد حرف الجر بعد واو العطف لدفع توهم أن يكون معطوفا على اسم الجلالة فيوهم أن المعنى : ونصر المؤمنين . مع أن المقصود أن وجود المؤمنين تأييد من الله لرسوله إذ وفقهم لاتباعه فشرح صدره بمشاهدة نجاح دعوته وتزايد أمته ولكون المؤمنين جيشا ثابتي الجنان ، فجعل المؤمنون بذاتهم تأييدا .
والتأليف بين قلوب المؤمنين منة أخرى على الرسول ، إذ جعل أتباعه متحابين وذلك أعون له على سياستهم ، وأرجى لاجتناء النفع بهم ، إذ يكونون على قلب رجل واحد ، وقد كان العرب يفضلون الجيش المؤلف من قبيلة واحدة ; لأن ذلك أبعد عن حصول التنازع بينهم .
وهو أيضا منة على المؤمنين إذ نزع من قلوبهم الأحقاد والإحن ، التي كانت دأب الناس في الجاهلية ، فكانت سبب التقاتل بين القبائل ، بعضها مع بعض ، وبين بطون القبيلة الواحدة . وأقوالهم في ذلك كثيرة . ومنها قول الفضل بن العباس اللهبي :
مهلا بني عمنا مهلا موالينا لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا الله يعلم أنا لا نحبـكـمـو
ولا نلومكمو أن لا تحبونا
ولذلك استأنف بعد قوله : وألف بين قلوبهم قوله : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم استئنافا ناشئا عن مساق الامتنان بهذا الائتلاف ، فهو بياني ، أي : لو حاولت تأليفهم ببذل المال العظيم ما حصل التآلف بينهم .
فقوله : ما في الأرض جميعا مبالغة حسنة لوقوعها مع حرف " لو " الدال على عدم الوقوع . وأما ترتب الجزاء على الشرط فلا مبالغة فيه ، فكان التأليف بينهم من آيات هذا الدين ، لما نظم الله من ألفتهم ، وأماط عنهم من التباغض . ومن أعظم مشاهد ذلك ما حدث بين الأوس والخزرج من الإحن قبل الإسلام مما نشأت عنه حرب بعاث بينهم ، ثم أصبحوا بعد حين إخوانا أنصارا لله تعالى ، وأزال الله من قلوبهم البغضاء بينهم .
و " جميعا " منصوب على الحال من ما في الأرض وهو اسم على وزن " فعيل " بمعنى مجتمع ، وسيأتي بيانه عند قوله تعالى : فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون في سورة هود .
وموقع الاستدراك في قوله : ولكن الله ألف بينهم لأجل ما يتوهم من تعذر التأليف بينهم في قوله : لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم أي ولكن تكوين الله يلين به الصلب ويحصل به المتعذر .
والخطاب في " أنفقت " و " ألفت " للرسول - صلى الله عليه وسلم - باعتبار أنه أول من دعا إلى الله . وإذ كان هذا التكوين صنعا عجيبا ذيل الله الخبر عنه بقوله : إنه عزيز حكيم أي قوي القدرة فلا يعجزه شيء ، محكم التكوين فهو يكون المتعذر ، ويجعله كالأمر المسنون المألوف .
والتأكيد بـ ( إن ) لمجرد الاهتمام بالخبر باعتبار جعله دليلا على بديع صنع الله تعالى .