أعيد نداء النبيء - صلى الله عليه وسلم - للتنويه بشأن الكلام الوارد بعد النداء وهذا الكلام في معنى المقصد بالنسبة للجملة التي قبله ; لأنه لما تكفل الله له الكفاية وعطف المؤمنين في إسناد الكفاية إليهم ، احتيج إلى بيان كيفية كفايتهم ، وتلك هي الكفاية بالذب عن الحوزة وقتال أعداء الله ، فالتعريف في " القتال " للعهد ، وهو القتال الذي يعرفونه ، أعني قتال أعداء الدين .
والتحريض : المبالغة في الطلب .
ولما كان عموم الجنس الذي دل عليه تعريف القتال يقتضي عموم الأحوال باعتبار المقاتلين بفتح التاء وكان في ذلك إجمال من الأحوال ، وقد يكون العدو كثيرين ويكون المؤمنون أقل منهم ، بين هذا الإجمال بقوله : إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين الآية .
وضمير " منكم " خطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين .
وفصلت جملة إن يكن منكم عشرون صابرون لأنها لما جعلت بيانا لإجمال كانت مستأنفة استئنافا بيانيا ; لأن الإجمال من شأنه أن يثير سؤال سائل عما يعمل إذا كان عدد العدو كثيرا ، فقد صار المعنى : حرض المؤمنين على القتال بهذه الكيفية .
[ ص: 67 ] و " صابرون " ثابتون في القتال ; لأن الثبات على الآلام صبر ; لأن أصل الصبر تحمل المشاق ، والثبات منه ، قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا وفي الحديث : وقال لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لاقيتم فاصبروا النابغة :
تجنب بني حن فإن لقاءهـم كريه وإن لم تلق إلا بصابر
وقال زفر بن الحارث الكلابي :سقيناهم كأسا سقونا بمثـلـهـا ولكنهم كانوا على الموت أصبرا
أما اختيار لفظ العشرين للتعبير عن مرتبة العشرات دون لفظ العشرة : فلعل وجهه أن لفظ العشرين أسعد بتقابل السكنات في أواخر الكلم لأن للفظة مائتين من المناسبة بسكنات كلمات الفواصل من السورة ، ولذلك ذكر المائة مع الألف لأن بعدها ذكر مميز العدد بألفاظ تناسب سكنات الفاصلة ، وهو قوله : لا يفقهون . فتعين هذا اللفظ قضاء لحق الفصاحة .
[ ص: 68 ] فهذا الخبر كفالة للمسلمين بنصر العدد منهم على عشرة أمثاله ، من عددهم وهو يستلزم وجوب ثبات العدد منهم ، لعشرة أمثاله ، وبذلك يفيد إطلاق الأمر بالثبات للعدو الواقع في قوله : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا ، وإطلاق النهي عن الفرار الواقع في قوله : فلا تولوهم الأدبار الآية . كما تقدم . وهو من هذه الناحية التشريعية حكم شديد شاق اقتضته قلة عدد المسلمين يومئذ وكثرة عدد المشركين ، ولم يصل إلينا أن المسلمين احتاجوا إلى العمل به في بعض غزواتهم ، وقصارى ما علمنا أنهم ثبتوا لثلاثة أمثالهم في وقعة بدر ، فقد كان المسلمون زهاء ثلاثمائة وكان المشركون زهاء الألف ، ثم نزل التخفيف من بعد ذلك بالآية التالية .
والتعريف بالموصول في " الذين كفروا " للإيماء إلى وجه بناء الخبر الآتي : وهو سلب الفقاهة عنهم .
والباء في قوله : " بأنهم " للسببية ، أي بعدم فقههم .
وإجراء نفي الفقاهة صفة لـ " قوم " دون أن يجعل خبرا فيقال : ذلك بأنهم لا يفقهون ، لقصد إفادة أن عدم الفقاهة صفة ثابتة لهم بما هم قوم ، لئلا يتوهم أن نفي الفقاهة عنهم في خصوص هذا الشأن ، وهو شأن الحرب المتحدث عنه ، للفرق بين قولك : حدثت فلانا حديثا فوجدته لا يفقه ، وبين قولك : فوجدته رجلا لا يفقه .
والفقه فهم الأمور الخفية ، والمراد نفي الفقه عنهم من جانب معرفة الله - تعالى - بقرينة تعليق الحكم بهم بعد إجراء صلة الكفر عليهم .
وإنما جعل الله الكفر سببا في انتفاء الفقاهة عنهم : لأن الكفر من شأنه إنكار ما ليس بمحسوس فصاحبه ينشأ على إهمال النظر ، وعلى تعطيل حركات فكره ، فهم لا يؤمنون إلا بالأسباب الظاهرية ، فيحسبون أن كثرتهم توجب لهم النصر على الأقلين لقولهم إنما العزة للكاثر ، ولأنهم لا يؤمنون بما بعد الموت من نعيم وعذاب ، فهم يخشون الموت فإذا قاتلوا ما يقاتلون إلا في الحالة التي يكون نصرهم فيها أرجح ، والمؤمنون يعولون على نصر الله ويثبتون للعدو رجاء إعلاء كلمة الله ، ولا يهابون الموت في سبيل الله ; لأنهم موقنون بالحياة الأبدية المسرة بعد الموت .
[ ص: 69 ] وقرأ الجمهور ( إن تكن ) بالتاء المثناة الفوقية نافع ، وابن كثير ، وابن عامر ، وأبو جعفر ، وذلك الأصل ، لمراعاة تأنيث لفظ مائة . وقرأها الباقون بالمثناة التحتية ; لأن التأنيث غير حقيقي ، فيجوز في فعله الاقتران بتاء التأنيث وعدمه ، لاسيما وقد وقع الفصل بين فعله وبينه . والفصل مسوغ لإجراء الفعل على صيغة التذكير .