الفاء تؤذن بتفريع هذا الكلام على ما قبله . وفي هذا التفريع وجهان .
أحدهما الذي جرى عليه كلام المفسرين أنه تفريع على قوله : لولا كتاب من الله سبق إلخ . . أي لولا ما سبق من حل الغنائم لكم لمسكم عذاب عظيم ، وإذ قد سبق الحل فلا تبعة عليكم في الانتفاع بمال الفداء . وقد روي أنه لما نزل قوله - تعالى : ما كان لنبيء أن يكون له أسرى الآية . أمسكوا عن الانتفاع بمال الفداء ، فنزل قوله - تعالى : فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا وعلى هذا الوجه قد سمي مال الفداء غنيمة تسمية بالاسم اللغوي دون الاسم الشرعي لأن في اصطلاح الشرع هي ما افتكه المسلمون من مال العدو بالإيجاف عليهم . الغنيمة
[ ص: 79 ] والوجه الثاني يظهر لي أن التفريع ناشئ على التحذير من العود إلى مثل ذلك في المستقبل وأن المعنى فاكتفوا بما تغنمونه ولا تفادوا الأسرى إلى أن تثخنوا في الأرض . وهذا هو المناسب لإطلاق اسم الغنيمة هنا إذ لا ينبغي صرفه عن معناه الشرعي .
ولما تضمن قوله : لولا كتاب من الله سبق امتنانا عليهم بأنه صرف عنهم بأس العدو ، فرع على الامتنان الإذن لهم بأن ينتفعوا بمال الفداء في مصالحهم ، ويتوسعوا به في نفقاتهم ، دون نكد ولا غصة ، فإنهم استغنوا به مع الأمن من ضر العدو بفضل الله . فتلك نعمة لم يشبها أذى .
وعبر عن الانتفاع الهنيء بالأكل : لأن الأكل أقوى كيفيات الانتفاع بالشيء . فإن الآكل ينعم بلذاذة المأكول ويدفع ألم الجوع عن نفسه ودفع الألم لذاذة ويكسبه الأكل قوة وصحة والصحة مع القوة لذاذة أيضا .
والأمر في " كلوا " مستعمل في المنة ولا يحمل على الإباحة هنا : لأن إباحة المغانم مقررة من قبل يوم بدر ، وليكون قوله : " حلالا " حالا مؤسسة لا مؤكدة لمعنى الإباحة .
و " غنمتم " بمعنى فاديتم لأن الفداء عوض عن الأسرى والأسرى من المغانم .
والطيب : النفيس في نوعه ، أي حلالا من خير الحلال .
وذيل ذلك بالأمر بالتقوى : لأن التقوى شكر الله على ما أنعم من دفع العذاب عنهم .
وجملة إن الله غفور رحيم تعليل للأمر بالتقوى ، وتنبيه على أن التقوى شكر على النعمة ، فحرف التأكيد للاهتمام ، وهو مغن غناء فاء التفريع كقول بشار :
إن ذاك النجاح في التبكير
وقد تقدم ذكره غير مرة .[ ص: 80 ] وهذه القضية إحدى قضايا جاء فيها القرآن مؤيدا لرأي . فقد روى عمر بن الخطاب مسلم عن عمر ، قال وافقت ربي في ثلاث : في مقام إبراهيم ، وفي الحجاب ، وفي أسارى بدر .