إن الله يحب المتقين إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم .
استثناء من المشركين في قوله : أن الله بريء من المشركين ومن الذين كفروا في قوله : وبشر الذين كفروا بعذاب أليم لأن شأن الاستثناء إذا ورد عقب جمل أن [ ص: 112 ] يرجع إلى ما تحتويه جميعها مما يصلح لذلك الاستثناء ، فهو استثناء لهؤلاء من حكم نقض العهد ، ومن حكم الإنذار بالقتال ، المترتب على النقض ، فهذا الفريق من المشركين باقون على حرمة عهدهم وعلى السلم معهم .
والموصول هنا يعم كل من تحققت فيه الصلة ، وقد بين مدلول الاستثناء قوله : فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم
وحرف " ثم " في قوله : ثم لم ينقصوكم شيئا للتراخي الرتبي ; لأن عدم الإخلال بأقل شيء مما عاهدوا عليه أهم من الوفاء بالأمور العظيمة مما عاهدوا عليه لأن عدم الإخلال بأقل شيء نادر الحصول .
والنقص لشيء إزالة بعضه ، والمراد : أنهم لم يفرطوا في شيء مما عاهدوا عليه . وفي هذا العطف إيذان بالتنويه بهذا الانتفاء لأن " ثم " إذا عطفت الجمل أفادت معنى التراخي في الرتبة ، أي بعد مرتبة المعطوف من مرتبة المعطوف عليه ، بعد كمال وارتفاع شأن . فإن من كمال العهد الحفاظ على الوفاء به .
وهؤلاء هم الذين احتفظوا بعهدهم مع المسلمين ، ووفوا به على أتم وجه ، فلم يكيدوا المسلمين بكيد ، ولا ظاهروا عليهم عدوا سرا ، فهؤلاء أمر المسلمون أن لا ينقضوا عهدهم إلى المدة التي عوهدوا عليها . ومن هؤلاء : بنو ضمرة ، وحيان من بني كنانة : هم بنو جذيمة ، وبنو الديل . ولا شك أنهم ممن دخلوا في عهد الحديبية .
وقد علم من هذا : أن الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم هم ضد أولئك ، وهم قوم نقصوا مما عاهدوا عليه ، أي كادوا وغدروا سرا ، أو ظاهروا العدو بالمدد والجوسسة .
ومن هؤلاء : قريظة أمدوا المشركين غير مرة ، وبنو بكر ، عدوا على خزاعة أحلاف المسلمين كما تقدم . فعبر عن فعلهم ذلك بالنقص لأنهم لم ينقضوا العهد علنا ، ولا أبطلوه ، ولكنهم أخلوا به ، مما استطاعوا أن يكيدوا ويمكروا ولأنهم نقضوا بعض ما عاهدوا عليه .
[ ص: 113 ] وذكر كلمة " شيئا " للمبالغة في نفي الانتقاص ; لأن كلمة " شيء " نكرة عامة ، فإذا وقعت في سياق النفي أفادت انتفاء كل ما يصدق عليه أنه موجود ، كما تقدم في قوله تعالى : وقالت اليهود ليست النصارى على شيء في سورة البقرة .
والمظاهرة : المعاونة ، يجوز أن يكون فعلها مشتقا من الاسم الجامد وهو الظهر ، أي صلب الإنسان أو البعير ; لأن الظهر به قوة الإنسان في المشي والتغلب ، وبه قوة البعير في الرحلة والحمل ، يقال : بعير ظهير ، أي قوي على الرحلة ، مثل المعين لأحد على عمل بحال من يعطيه ظهره يحمل عليه ، فكأنه يعيره ظهره ويعيره الآخر ظهره ، فمن ثم جاءت صيغة المفاعلة ، ومثله المعاضدة مشتقة من العضد ، والمساعدة من الساعد ، والتأييد من اليد ، والمكاتفة مشتقة من الكتف ، وكلها أعضاء العمل .
ويجوز أن يكون فعله مشتقا من الظهور ، وهو مصدر ضد الخفاء ; لأن المرء إذا انتصر على غيره ظهر حاله للناس ، فمثل بالشيء الذي ظهر بعد خفاء ، ولذلك يعدى بحرف " على " للاستعلاء المجازي ، قال تعالى : وإن تظاهرا عليه وقال كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة وقال : ليظهره على الدين كله وقال والملائكة بعد ذلك ظهير أي معين .
والفاء في قوله : " فأتموا " تفريع على ما أفاده استثناء قوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا إلخ ، وهو أنهم لا تشملهم البراءة من العهد .
والمدة : الأجل ، مشتقة من المد لأن الأجل مد في زمن العمل ، أي تطويل ، ولذلك يقولون : ماد القوم غيرهم ، إذا أجلوا الحرب إلى أمد ، وإضافة المدة إلى ضمير المعاهدين لأنها منعقدة معهم ، فإضافتها إليهم كإضافتها إلى المسلمين ولكن رجح هنا جانبهم لأن انتفاعهم بالأجل أصبح أكثر من انتفاع المسلمين به ، إذ صار المسلمون أقوى منهم ، وأقدر على حربهم .
وجملة إن الله يحب المتقين تذييل في معنى التعليل للأمر بإتمام العهد إلى الأجل بأن ذلك من التقوى ، أي من امتثال الشرع الذي أمر الله به ; لأن الإخبار بمحبة الله المتقين عقب الأمر كناية عن كون المأمور به من التقوى .
[ ص: 114 ] ثم إن قبائل العرب كلها رغبت في الإسلام فأسلموا في تلك المدة فانتهت حرمة الأشهر الحرم في حكم الإسلام .