ذلك بأنهم قوم لا يعلمون وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه .
عطف على جملة فإن تابوا لتفصيل مفهوم الشرط ، أو عطف على جملة فاقتلوا المشركين لتخصيص عمومه ، أي إلا مشركا استجارك لمصلحة : للسفارة عن قومه أو لمعرفة شرائع الإسلام . وصيغ الكلام بطريقة الشرط لتأكيد حكم الجواب ، وللإشارة إلى أن تقع الرغبة في الجوار من جانب المشركين .
وجيء بحرف " إن " التي شأنها أن يكون شرطها نادر الوقوع للتنبيه على أن هذا شرط فرضي لكيلا يزعم المشركون أنهم لم يتمكنوا من لقاء النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيتخذوه عذرا للاستمرار على الشرك إذا غزاهم المسلمون . ووقع في تفسير الفخر أنه نقل عن قال : إن رجلا من المشركين قال ابن عباس : أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله أو لحاجة أخرى فهل نقتل ؟ فقال لعلي بن أبي طالب علي : لا إن الله - تعالى - قال وإن أحد من المشركين استجارك فأجره أي فأمنه حتى يسمع كلام الله وهذا لا يعارض ما رأيناه من أن الشرط في قوله تعالى : وإن أحد من المشركين استجارك إلخ ، شرط فرضي فإنه يقتضي أن مقالة هذا الرجل وقعت بعد نزول الآية . على أن هذا المروي لم أقف عليه .
وجيء بلفظ " أحد " من المشركين دون لفظ مشرك للتنصيص على عموم الجنس ; لأن النكرة في سياق الشرط مثلها في سياق النفي إذا لم تبن على الفتح احتملت إرادة [ ص: 118 ] عموم الجنس واحتملت بعض الأفراد ، فكان ذكر " أحد " في سياق الشرط تنصيصا على العموم بمنزلة البناء على الفتح في سياق النفي بـ " لا " .
و " أحد " أصله واحد لأن همزته بدل من الواو ويستعمل بمعنى الجزئي من الناس لأنه واحد ، كما استعمل له " فرد " في اصطلاح العلوم ، فمعنى أحد من المشركين مشرك .
وتقديم " أحد " على استجارك للاهتمام بالمسند إليه ، ليكون أول ما يقرع السمع فيقع المسند بعد ذلك من نفس السامع موقع التمكن .
وساغ الابتداء بالنكرة لأن المراد النوع ، أو لأن الشرط بمنزلة النفي في إفادة العموم ، ولا مانع من دخول حرف الشرط على المبتدأ لأن وقوع الخبر فعلا مقنع لحرف الشرط في اقتضائه الجملةالفعلية ، فيعلم أن الفاعل مقدم من تأخير لغرض ما . ولذلك شاع عند النحاة أنه فاعل بفعل مقدر ، وإنما هو تقدير اعتبار . ولعل المقصود من التنصيص على إفادة العموم ومن تقديم أحد من المشركين على الفعل ، تأكيد بذل الأمان لمن يسأله من المشركين إذا كان للقائه النبيء - صلى الله عليه وسلم - ودخوله بلاد الإسلام مصلحة ، ولو كان أحد من القبائل التي خانت العهد ، لئلا تحمل خيانتهم المسلمين على أن يخونوهم أو يغدروا بهم فذلك كقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - . ولا تخن من خانك
والاستجارة : طلب الجوار ، وهو الكون بالقرب ، وقد استعمل مجازا شائعا في الأمن ; لأن المرء لا يستقر بمكان إلا إذا كان آمنا ، فمن ثم سموا المؤمن جارا ، والحليف جارا ، وصار فعل " أجار " بمعنى " أمن " ، ولا يطلق بمعنى جعل شخصا جارا له . والمعنى : إن أحد من المشركين استأمنك فأمنه .
ولم يبين سبب الاستجارة ; لأن ذلك مختلف الغرض وهو موكول إلى مقاصد العقلاء فإنه لا يستجير أحد إلا لغرض صحيح .
ولما كانت إقامة المشرك المستجير عند النبيء - عليه الصلاة والسلام - لا تخلو من عرض الإسلام عليه وإسماعه القرآن ، سواء كانت استجارته لذلك أم لغرض آخر ، [ ص: 119 ] لما هو معروف من شأن النبيء - صلى الله عليه وسلم - من الحرص على هدي الناس - جعل سماع هذا المستجير القرآن غاية لإقامته الوقتية عند الرسول - صلى الله عليه وسلم ، فدلت هذه الغاية على كلام محذوف إيجازا ، وهو ما تشتمل عليه إقامة المستجير من تفاوض في مهم ، أو طلب الدخول في الإسلام ، أو عرض الإسلام عليه ، فإذا سمع كلام الله فقد تمت أغراض إقامته لأن بعضها من مقصد المستجير وهو حريص على أن يبدأ بها ، وبعضها من مقصد النبيء - عليه الصلاة والسلام - وهو لا يتركه يعود حتى يعيد إرشاده ، ويكون آخر ما يدور معه في آخر أزمان إقامته إسماعه كلام الله تعالى .
وكلام الله : القرآن ، أضيف إلى اسم الجلالة لأنه كلام أوجده الله ليدل على مراده من الناس وأبلغه إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - بواسطة الملك ، فلم يكن من تأليف مخلوق ولكن الله أوجده بقدرته بدون صنع أحد ، بخلاف الحديث القدسي .
ولذلك أعقبه بحرف المهلة ثم أبلغه مأمنه للدلالة على وجوب استمرار إجارته في أرض الإسلام إلى أن يبلغ المكان الذي يأمن فيه ، ولو بلغه بعد مدة طويلة . فحرف " ثم " هنا للتراخي الرتبي اهتماما بإبلاغه مأمنه .
ومعنى أبلغه مأمنه أمهله ولا تهجه حتى يبلغ مأمنه ، فلما كان تأمين النبيء - عليه الصلاة والسلام - إياه سببا في بلوغه مأمنه ، جعل التأمين إبلاغا فأمر به النبيء - عليه الصلاة والسلام ، وهذا يتضمن أمر المسلمين بأن لا يتعرضوا له بسوء حتى يبلغ بلاده التي يأمن فيها . وليس المراد أن النبيء - صلى الله عليه وسلم - يتكلف ترحيله ويبعث من يبلغه ، فالمعنى : اتركه يبلغ مأمنه ، كما يقول العرب لمن يبادر أحدا بالكلام قبل إنهاء كلامه : أبلعني ريقي ، أي أمهلني لحظة مقدار ما أبلع ريقي ثم أكلمك ، قال : قلت لبعض أشياخي : أبلعني ريقي فقال قد أبلعتك الرافدين . يعني دجلة والفرات . الزمخشري
والمأمن مكان الأمن ، وهو المكان الذي يجد فيه المستجير أمنه السابق ، وذلك هو دار قومه حيث لا يستطيع أحد أن يناله بسوء . وقد أضيف المأمن إلى ضمير المشرك [ ص: 120 ] للإشارة إلى أنه مكان الأمن الخاص به ، فيعلم أنه مقره الأصلي ، بخلاف دار الجوار فإنها مأمن عارض لا يضاف إلى المجار .
وجملة ذلك بأنهم قوم لا يعلمون في موضع التعليل لتأكيد الأمر بالوفاء لهم بالإجارة إلى أن يصلوا ديارهم ، فلذلك فصلت عن الجملة التي قبلها ، أي : أمرنا بذلك بسبب أنهم قوم لا يعلمون ، فالإشارة إلى مضمون جملة فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه أي لا تؤاخذهم في مدة استجارتهم بما سبق من أذاهم لأنهم قوم لا يعلمون . وهذه مذمة لهم بأن مثلهم لا يقام له وزن . وأوف لهم به إلى أن يصلوا ديارهم لأنهم قوم لا يعلمون ما يحتوي عليه القرآن من الإرشاد والهدى ، فكان اسم الإشارة أصلح طرق التعريف في هذا المقام ، جمعا للمعاني المقصودة ، وأوجزه .
وفي الكلام تنويه بمعالي أخلاق المسلمين وغض من أخلاق أهل الشرك وأن سبب ذلك الغض الإشراك الذي يفسد الأخلاق ، ولذلك جعلوا قوما لا يعلمون دون أن يقال بأنهم لا يعلمون : للإشارة إلى أن نفي العلم مطرد فيهم ، فيشير إلى أن سبب اطراده فيهم هو نشأته عن الفكرة الجامعة لأشتاتهم ، وهي عقيدة الإشراك .
والعلم في كلام العرب ، بمعنى العقل وأصالة الرأي ، وأن عقيدة الشرك مضادة لذلك ، أي كيف يعبد ذو الرأي حجرا صنعه وهو يعلم أنه لا يغني عنه .