لما استوفى البيان لأصناف المشركين الذين أمر الله بالبراءة من عهدهم بقوله : أن الله بريء من المشركين إلى قوله : وبشر الذين كفروا بعذاب أليم وإنما كان ذلك لإبطانهم الغدر ، والذين أمر بإتمام عهدهم إلى مدتهم ما استقاموا على العهد بقوله : إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم الآيات ، والذين يستجيبون عطف على أولئك بيان الذين يعلنون بنكث العهد ، ويعلنون بما يسخط المسلمين من قولهم ، وهذا حال مضاد لحال قوله : وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم
والنكث تقدم عند قوله - تعالى : فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون في الأعراف .
وعبر عن نقض العهد بنكث الأيمان تشنيعا للنكث; لأن العهد كان يقارنه اليمين على الوفاء ولذلك سمي العهد حلفا .
وزيد قوله : من بعد عهدهم زيادة في تسجيل شناعة نكثهم : بتذكير أنه غدر لعهد ، وحنث باليمين .
والطعن حقيقته خرق الجسم بشيء محدد كالرمح ، ويستعمل مجازا بمعنى الثلب . والنسبة إلى النقص ، بتشبيه عرض المرء ، الذي كان ملتئما غير منقوص ، بالجسد السليم . فإذا أظهرت نقائصه بالثلب والشتم شبه بالجلد الذي أفسد التحامه .
والأمر ، هنا : للوجوب ، وهي حالة من أحوال الإذن المتقدم في قوله - تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين ففي هذه الحالة يجب قتالهم ذبا عن حرمة الدين ، وقمعا لشرهم من قبل أن يتمردوا عليه .
و أئمة جمع إمام ، وهو ما يجعل قدوة في عمل يعمل على مثاله ، أو على مثال عمله ، قال - تعالى : ونجعلهم أئمة أي مقتدى بهم ، وقال لبيد :
ولكل قوم سنة وإمامها
[ ص: 130 ] والإمام المثال الذي يصنع على شكله ، أو قدره ، مصنوع ، فأئمة الكفر ، هنا : الذين بلغوا الغاية فيه ، بحيث صاروا قدوة لأهل الكفر .والمراد بأئمة الكفر : المشركون الذين نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم ، فوضع هذا الاسم موضع الضمير حين لم يقل : فقاتلوهم ، لزيادة التشنيع عليهم ببلوغهم هذه المنزلة من الكفر ، وهي أنهم قدوة لغيرهم ; لأن الذين أضمروا النكث يبقون مترددين بإظهاره ، فإذا ابتدأ بعضهم بإظهار النقض اقتدى بهم الباقون ، فكان الناقضون أئمة للباقين .
وجملة إنهم لا أيمان لهم تعليل لقتالهم بأنهم استحقوه لأجل استخفافهم بالأيمان التي حلفوها على السلم ، فغدروا . وفيه بيان للمسلمين كيلا يشرعوا في قتالهم غير مطلعين على حكمة الأمر به ، فيكون قتالهم لمجرد الامتثال لأمر الله ، فلا يكون لهم من الغيظ على المشركين ما يشحذ شدتهم عليهم .
ونفي الأيمان لهم : نفي للماهية الحق لليمين ، وهي قصد تعظيمه والوفاء به ، فلما لم يوفوا بأيمانهم ، نزلت أيمانهم منزلة العدم لفقدان أخص أخواصها وهو العمل بما اقتضته .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، ورويس عن يعقوب . أيمة بتسهيل الهمزة الثانية بين الهمزة والياء . وقرأ البقية : بتحقيق الهمزتين . وقرأ هشام عن ابن عامر ، وأبو جعفر : بمد بين الهمزتين .
وقرأ الجمهور لا أيمان لهم بفتح همزة أيمان على أنه جمع يمين . وقرأه ابن عامر بكسر الهمزة ، أي ليسوا بمؤمنين ، ومن لا إيمان له لا عهد له لانتفاء الوازع .
وعطف وطعنوا في دينكم عطف قسيم على قسيمه ، فالواو فيه بمعنى أو . فإنه إذا حصل أحد هذين الفعلين : الذين هما نكث الأيمان ، والطعن في الدين ، كان حصول أحدهما موجبا لقتالهم ، أي دون مصالحة ، ولا عهد ، ولا هدنة بعد ذلك .
وذكر طعنهم في دين المسلمين ينبئ بأن ذلك الطعن كان من دأبهم في مدة المعاهدة ، فأريد صدهم عن العود إليه . ولم أقف على أنه كان مشروطا على المشركين [ ص: 131 ] في عقود المصالحة والمعاهدة مع المسلمين أن لا يطعنوا في الإسلام ، في غير هذه الآية ، فكان هذا شرطا عليهم من بعد ; لأن المسلمين أصبحوا في قوة .
وقوله : ( فقاتلوا أيمة الكفر ) أمر للوجوب .
وجملة لعلهم ينتهون يجوز أن تكون تعليلا لجملة ( فقاتلوا أيمة الكفر ) أي قتالهم لرجاء أن ينتهوا ، وظاهر أن القتال يفني كثيرا منهم ، فالانتهاء المرجو انتهاء الباقين أحياء بعد أن تضع الحرب أوزارها .
ولم يذكر متعلق فعل ينتهون ولا يحتمل أن يكون الانتهاء عن نكث العهد ; لأن عهدهم لا يقبل بعد أن نكثوا لقول الله - تعالى : إنهم لا أيمان لهم ، ولا أن يكون الانتهاء عن الطعن في الدين ; لأنه إن كان طعنهم في ديننا حاصلا في مدة قتالهم فلا جدوى لرجاء انتهائهم عنه ، وإن كان بعد أن تضع الحرب أوزارها فإنه لا يستقيم إذ لا غاية لتنهية القتل بين المسلمين وبينهم ، فتعين أن المراد : لعلهم ينتهون عن الكفر .
ويجوز أن تكون الجملة استئنافا ابتدائيا لا اتصال لها بجملة وإن نكثوا أيمانهم الآية ، بل ناشئة عن قوله : فإن تابوا وأقاموا الصلاة إلى قوله : ( أيمة الكفر )
والمعنى : المرجو أنهم ينتهون عن الشرك ويسلمون ، وقد تحقق ذلك فإن هذه الآية نزلت بعد فتح مكة ، وبعد يوم حنين ، ولم يقع نكث بعد ذلك ، ودخل المشركون في الإسلام أفواجا في سنة الوفود .