استئناف بياني ناشئ عن قوله - تعالى : إن عدة الشهور عند الله الآية لأن ذلك كالمقدمة إلى المقصود وهو إبطال النسيء وتشنيعه .
[ ص: 189 ] والنسيء يطلق على الشهر الحرام الذي أرجئت حرمته وجعلت لشهر آخر فالنسيء فعيل بمعنى مفعول من نسأ المهموز اللام ، ويطلق مصدرا بوزن فعيل مثل نذير من قوله : فستعلمون كيف نذير ، ومثل النكير والعذر وفعله نسأ المهموز ، أي أخر ، فالنسيء - بهمزة بعد الياء - في المشهور . وبذلك قرأه جمهور العشرة . وقرأه عن ورش نافع بياء مشددة في آخره على تخفيف الهمزة ياء وإدغامها في أختها ، والإخبار عن النسيء بأنه زيادة إخبار بالمصدر كما أخبر عن هاروت وماروت بالفتنة في قوله : إنما نحن فتنة
والنسيء عند العرب تأخير يجعلونه لشهر حرام فيصيرونه حلالا ويحرمون شهرا آخر من الأشهر الحلال عوضا عنه في عامه .
والداعي الذي دعا العرب إلى وضع النسيء أن العرب سنتهم قمرية تبعا للأشهر ، فكانت سنتهم اثني عشر شهرا قمرية تامة ، وداموا على ذلك قرونا طويلة ثم بدا لهم فجعلوا النسيء .
وأحسن ما روي في صفة ذلك قول أبي وائل : أن العرب كانوا أصحاب حروب وغارات فكان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغيرون فيها فقالوا لئن توالت علينا ثلاثة أشهر لا نصيب فيها شيئا لنهلكن . وسكت المفسرون عما نشأ بعد قول العرب هذا ، ووقع في بعض ما رواه الطبري والقرطبي ما يوهم أن أول من نسأ لهم النسيء هو جنادة بن عوف وليس الأمر ذلك لأن جنادة بن عوف أدرك الإسلام وأمر النسيء متوغل في القدم والذي يجب اعتماده أن أول من نسأ النسيء هو حذيفة بن عبد نعيم أو فقيم - ولعل نعيم تحريف فقيم لقول ابن عطية اسم نعيم لم يعرف في هذا - . وهو الملقب بالقلمس ولا يوجد ذكر بني فقيم في جمهرة وقد ذكره صاحب القاموس ابن حزم وابن عطية . قال ابن حزم أول من نسأ الشهور سرير ( كذا ولعله سري ) بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة ثم ابن أخيه عدي بن عامر بن ثعلبة . وفي ابن عطية خلاف ذلك قال : انتدب القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ [ ص: 190 ] لهم الشهور . ثم خلفه ابنه عباد . ثم ابنه قلع ، ثم ابنه أمية ، ثم ابنه عوف ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة وعليه قام الإسلام ، قال ابن عطية كان بنو فقيم أهل دين في العرب وتمسك بشرع إبراهيم فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبد فقيم فنسأ الشهور للعرب . وفي تفسير القرطبي عن الضحاك عن أول من نسأ ابن عباس عمرو بن لحي ( أي الذي أدخل عبادة الأصنام في العرب وبحر البحيرة وسيب السائبة ) . وقال الكلبي أول من نسأ رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة .
قال : كل من صارت إليه هذه المرتبة أي مرتبة النسيء كان يسمى ابن حزم القلمس . وقال القرطبي : كان الذي يلي النسيء يظفر بالرئاسة لترييس العرب إياه . وكان القلمس يقف عند جمرة العقبة ويقول : اللهم إني ناسئ الشهور وواضعها مواضعها ولا أعاب ولا أجاب . اللهم إني قد أحللت أحد الصفرين وحرمت صفر المؤخر انفروا على اسم الله تعالى . وكان آخر النسأة جنادة بن عوف ويكنى أبا ثمامة وكان ذا رأي فيهم وكان يحضر الموسم على حمار له فينادي أيها الناس ألا إن أبا ثمامة لا يعاب ولا يجاب . ولا مرد لما يقول فيقولون أنسئنا شهرا ، أي أخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم وينادي : ألا إن آلهتكم قد حرمت العام صفر فيحرمونه ذلك العام فإذا حجوا في ذي الحجة تركوا المحرم وسموه صفرا فإذا انسلخ ذو الحجة خرجوا في محرم وغزوا فيه وأغاروا وغنموا لأنه صار صفرا فيكون لهم في عامهم ذلك صفران وفي العام القابل يصير ذو الحجة بالنسبة إليهم ذا القعدة ويصير محرم ذا الحجة فيحجون في محرم يفعلون ذلك عامين متتابعين ثم يبدلون فيحجون في شهر صفر عامين ولاء ثم كذلك .
وقال السهيلي في الروض الأنف : " إن تأخير بعض الشهور بعد مدة لقصد تأخير الحج عن وقته القمري ، تحريا منهم للسنة الشمسية ، فكانوا يؤخرونه في كل عام أحد عشر يوما أو أكثر قليلا ، حتى يعود الدور إلى ثلاث وثلاثين سنة ، فيعود إلى وقته ونسب إلى شيخه أبي بكر بن العربي أن ذلك اعتبار منهم بالشهور العجمية " . ولعله تبع في هذا قول الذي ذكره إياس بن معاوية القرطبي ، وأحسب أنه اشتباه .
[ ص: 191 ] وكان النسيء بأيدي بني فقيم من كنانة ، وأول من نسأ الشهور هو حذيفة بن عبد بن فقيم .
وتقريب زمن ابتداء العمل بالنسيء أنه في أواخر القرن الثالث قبل الهجرة ، أي في حدود سنة عشرين ومائتين قبل الهجرة .
وصيغة القصر في قوله إنما النسي زيادة في الكفر تقتضي أنه لا يعدو كونه من أثر الكفر لمحبة الاعتداء والغارات فهو قصر حقيقي ، ويلزم من كونه زيادة في الكفر أن الذين وضعوه ليسوا إلا كافرين وما هم بمصلحين ، وما الذين تابعوهم إلا كافرون كذلك وما هم بمتقين .
ووجه كونه كفرا أنهم يعلمون أن الله شرع لهم الحج ووقته بشهر من الشهور القمرية المعدودة المسماة بأسماء تميزها عن الاختلاط ، فلما وضعوا النسيء قد علموا أنهم يجعلون بعض الشهور في غير موقعه ، ويسمونه بغير اسمه ، ويصادفون إيقاع الحج في غير الشهر المعين له ، أعني شهر ذي الحجة ولذلك سموه النسيء اسما مشتقا من مادة النساء وهو التأخير ، فهم قد اعترفوا بأنه تأخير شيء عن وقته ، وهم في ذلك مستخفون بشرع الله تعالى ، ومخالفون لما وقت لهم عن تعمد مثبتين الحل لشهر حرام والحرمة لشهر غير حرام ، وذلك جرأة على دين الله واستخفاف به ، فلذلك يشبه جعلهم لله شركاء ، فكما جعلوا لله شركاء في الإلهية جعلوا من أنفسهم شركاء لله في التشريع يخالفونه فيما شرعه فهو بهذا الاعتبار كالكفر ، فلا دلالة في الآية على أن الأعمال السيئة توجب كفر فاعلها ، ولكن كفر هؤلاء أوجب عملهم الباطل .
وحرف في المفيد الظرفية متعلق بزيادة لأن الزيادة تتعدى بفي يزيد في الخلق ما يشاء فالزيادة في الأجسام تقتضي حلول تلك الزيادة في الجسم المشابه للظرف ، ويجوز أن يكون تأويله أنه لما كان إحداثه من أعمال المشركين في شئون ديانتهم وكان فيه إبطال لمواقيت الحج ولحرمة الشهر الحرام اعتبر زيادة في الكفر بمعنى في أعمال الكفر وإن يكن في ذاته كفرا وهذا كما يقول السلف : إن الإيمان يزيد وينقص يريدون به يزيد بزيادة الأعمال الصالحة وينقص بنقصها مع الجزم بأن ماهية [ ص: 192 ] الإيمان لا تزيد ولا تنقص وهذا كقوله - تعالى : وما كان الله ليضيع إيمانكم ، أي صلاتكم . على أن إطلاق اسم الإيمان على أعمال دين الإسلام وإطلاق اسم الكفر على أعمال الجاهلية مما طفحت به أقوال الكتاب والسنة مع اتفاق جمهور علماء الأمة على أن الأعمال غير الاعتقاد لا تقتضي إيمانا ولا كفرا .
وعلى الاحتمال الثاني فتأويله بتقدير مضاف ، أي زيادة في أحوال أهل الكفر ، أي أمر من الضلال زيد على ما هم فيه من الكفر بضد قوله - تعالى : ويزيد الله الذين اهتدوا هدى . وهذان التأويلان متقاربان لا خلاف بينهما إلا بالاعتبار ، فالتأويل الأول يقتضي أن إطلاق الكفر فيه مجاز مرسل والتأويل الثاني يقتضي أن إطلاق الكفر فيه إيجاز حذف بتقدير مضاف .
وجملة يضل به الذين كفروا خبر ثان عن النسيء أي هو ضلال مستمر ، لما اقتضاه الفعل المضارع من التجدد .
وجملة يحلونه عاما ويحرمونه عاما بيان لسبب كونه ضلالا .
وقد اختير المضارع لهذه الأفعال لدلالته على التجدد والاستمرار ، أي هم في ضلال متجدد مستمر بتجدد سببه ، وهو تحليله تارة وتحريمه أخرى ، ومواطأة عدة ما حرم الله .
وإسناد الضلال إلى الذين كفروا يقتضي أن النسيء كان عمله مطردا بين جميع المشركين من العرب فما وقع في تفسير عن الطبري ابن عباس والضحاك من قولهما : وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يفعلونه ويعظمونه ، ليس معناه اختصاصهم بالنسيء ولكنهم ابتدءوا بمتابعته .
وقرأ الجمهور يضل - بفتح التحتية - وقرأه حفص عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي وخلف ، ويعقوب - بضم التحتية - على أنهم يضلون غيرهم .
والتنكير والوحدة في قوله : عاما في الموضعين للنوعية ، أي يحلونه في بعض الأعوام ويحرمونه في بعض الأعوام ، فهو كالوحدة في قول الشاعر :
يوما بحزوى ويوما بالعقيق
[ ص: 193 ] وليس المراد أن ذلك يوما غب يوم ، فكذلك في الآية ليس المراد أن النسيء يقع عاما غب عام كما ظنه بعض المفسرين . ونظيره قول أبي الطيب :فيوما بخيل تطرد الروم عنهم ويوما بجود تطرد الفقر والجدبا
( يريد تارة تدفع عنهم العدو وتارة تدفع عنهم الفقر والجدب ) وإنما يكون ذلك حين حلول العدو بهم وإصابة الفقر والجدب بلادهم ، ولذلك فسره المعري في كتاب ( معجز أحمد ) بأن قال : " فإن قصدهم الروم طردتهم بخيلك ، وإن نازلهم فقر وجدب كشفته عنهم بجودك وإفضالك " .
وقد أبقى الكلام مجملا لعدم تعلق الغرض في هذا المقام ببيان كيفية عمل النسيء ، ولعل لهم فيه كيفيات مختلفة هي معروفة عند السامعين .
ومحل الذم هو ما يحصل في عمل النسيء من تغيير أوقات الحج المعينة من الله في غير أيامها في سنين كثيرة ، ومن تغيير حرمة بعض الأشهر الحرم في سنين كثيرة . ويتعلق قوله : ليواطئوا عدة ما حرم الله بقوله : يحلونه عاما ويحرمونه عاما أي يفعلون ذلك ليوافقوا عدد الأشهر الحرم فتبقى أربعة .
والمواطأة الموافقة ، وهي مفاعلة عن الوطيئ شبه التماثل في المقدار وفي الفعل بالتوافق وطيئ الأرجل ومن هذا قولهم ( وقوع الحافر على الحافر ) .
و عدة ما حرم الله هي عدة الأشهر الحرم الأربعة .
وظاهر هذا أنه تأويل عنهم وضرب من المعذرة ، فلا يناسب عده في سياق التشنيع بعملهم والتوبيخ لهم ، ولكن ذكره ليرتب عليه قوله : فيحلوا ما حرم الله فإنه يتفرع على محاولتهم موافقة عدة ما حرم الله أن يحلوا ما حرم الله ، وهذا نداء على فساد دينهم واضطرابه فإنهم يحتفظون بعدد الأشهر الحرم الذي ليس له مزيد أثر في الدين ، وإنما هو عدد تابع لتعيين الأشهر الحرم ، ويفرطون في نفس الحرمة فيحلون الشهر الحرام ، ثم يزيدون باطلا آخر فيحرمون الشهر الحلال . فقد احتفظوا بالعدد وأفسدوا المعدود .
[ ص: 194 ] وتوجيه عطف فيحلوا على مجرور لام التعليل في قوله : ليواطئوا عدة ما حرم الله هو تنزيل الأمر المترتب على العلة منزلة المقصود من التعليل وإن لم يكن قصد صاحبه به التعليل ، على طريقة التهكم والتخطئة مثل قوله - تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
والإتيان بالموصول في قوله : عدة ما حرم الله دون أن يعبر بنحو عدة الأشهر الحرم ، للإشارة إلى تعليل عملهم في اعتقادهم بأنهم حافظوا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعظيما . ففيه تعريض بالتهكم بهم .
والإظهار في قوله : فيحلوا ما حرم الله دون أن يقال فيحلوه ، لزيادة التصريح بتسجيل شناعة عملهم ، وهو مخالفتهم أمر الله - تعالى - وإبطالهم حرمة بعض الأشهر الحرم ، تلك الحرمة التي لأجلها زعموا أنهم يحرمون بعض الأشهر الحلال حفاظا على عدة الأشهر التي حرمها الله تعالى .
وجملة زين لهم سوء أعمالهم مستأنفة استئنافا بيانيا : لأن ما حكي من اضطراب حالهم يثير سؤال السائلين عن سبب هذا الضغث من الضلال الذي تملئوه فقيل : لأنهم زين لهم سوء أعمالهم ، أي لأن الشيطان زين لهم سوء أعمالهم فحسن لهم القبيح .
والتزيين التحسين ، أي جعل شيء زينا ، وهو إذا يسند إلى ما لا تتغير حقيقته فلا يصير حسنا ، يؤذن بأن التحسين تلبيس . وتقدم التزيين في قوله - تعالى : زين للذين كفروا الحياة الدنيا في سورة البقرة ، وقوله : كذلك زينا لكل أمة عملهم في سورة الأنعام .
وفي هذا الاستئناف معنى التعليل لحالهم العجيبة حتى يزول تعجب السامع منها .
وجملة والله لا يهدي القوم الكافرين عطف على جملة زين لهم سوء أعمالهم فهي مشمولة لمعنى الاستئناف البياني المراد منه التعليل لتلك الحالة الغريبة ; لأن التعجيب من تلك الحالة يستلزم التعجيب من دوامهم على ضلالهم وعدم اهتدائهم إلى ما في صنيعهم من الاضطراب ، حتى يقلعوا عن ضلالهم ، فبعد أن أفيد السائل بأن [ ص: 195 ] سبب ذلك الاضطراب هو تزيين الشيطان لهم سوء أعمالهم ، أفيد بأن دوامهم عليه لأن الله أمسك عنهم اللطف والتوفيق ، الذين بهما يتفطن الضال لضلاله فيقلع عنه ، جزاء لهم على ما أسلفوه من الكفر ، فلم يزالوا في دركات الضلال إلى أقصى غاية .
والإظهار في مقام الإضمار بقوله : القوم الكافرين لقصد إفادة التعميم الذي يشملهم وغيرهم ، أي : هذا شأن الله مع جميع الكافرين .
واعلم أن حرمة الأزمان والبقاع إنما تتلقى عن الوحي الإلهي لأن الله الذي خلق هذا العالم هو الذي يسن له نظامه فبذلك تستقر حرمة كل ذي حرمة في نفوس جميع الناس إذ ليس في ذلك عمل لبعضهم دون بعض ، فإذا أدخل على ما جعله الله من ذلك تغيير تقشعت الحرمة من النفوس فلا يرضى فريق بما وضعه غيره من الفرق ، فلذلك كان النسيء زيادة في الكفر لأنه من الأوضاع التي اصطلح عليها الناس ، كما اصطلحوا على عبادة الأصنام بتلقين عمرو بن لحي .
وقد أوحى الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - أن العام الذي يحج فيه يصادف يوم الحج منه يوم تسعة من ذي الحجة ، على الحساب الذي يتسلسل من يوم خلق الله السماوات والأرض ، وأن فيه يندحض أثر النسيء ، ولذلك قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع ، قالوا فصادفت حجة إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض أبي بكر سنة تسع أنها وقعت في شهر ذي القعدة بحساب النسيء ، فجاءت حجة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في شهر ذي الحجة في الحساب الذي جعله الله يوم خلق السماوات والأرض .