قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك  فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين  
جاءت الجملة مفصولة عن التي قبلها على طريقة المحاورات . وقد تقدمت عند قوله - تعالى : قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها  في سورة البقرة . 
والنداء مع حضور المخاطب مستعمل في طلب إحضار الذهن اهتماما بالغرض المخاطب فيه . 
و ( بني ) - بكسر الياء المشددة - تصغير ابن مع إضافته إلى ياء المتكلم وأصله بنيوي أو بنييي على الخلاف في أن لام ابن الملتزم عدم ظهورها هي واو أم ياء . وعلى كلا التقديرين فإنها أدغمت فيها ياء التصغير بعد قلب الواو ياء لتقارب الياء والواو ، أو لتماثلهما فصار " بنيي " . وقد اجتمع ثلاث ياءات فلزم حذف واحدة منها فحذفت ياء المتكلم لزوما وألقيت الكسرة   [ ص: 213 ] التي اجتلبت لأجلها على ياء التصغير دلالة على الياء المحذوفة . وحذف ياء المتكلم من المنادى المضاف شائع . وبخاصة إذا كان في إبقائها ثقل كما هنا ؛ لأن التقاء ياءات ثلاث فيه ثقل . 
وهذا التصغير كناية عن تحبيب وشفقة . نزل الكبير منزلة الصغير لأن شأن الصغير أن يحب ويشفق عليه . وفي ذلك كناية عن إمحاض النصح له . 
والقص : حكاية الرؤيا . يقال : قص الرؤيا إذا حكاها وأخبر بها . وهو جاء من القصص كما علمت آنفا . 
والرؤيا - بألف التأنيث - هي : رؤية الصور في النوم ، فرقوا بينها وبين رؤية اليقظة باختلاف علامتي التأنيث ، وهي بوزن البشرى والبقيا . 
وقد علم يعقوب    - عليه السلام - أن إخوة يوسف    - عليه السلام - العشرة كانوا يغارون منه  لفرط فضله عليهم خلقا وخلقا ، وعلم أنهم يعبرون الرؤيا إجمالا وتفصيلا ، وعلم أن تلك الرؤيا تؤذن برفعة ينالها يوسف    - عليه السلام - على إخوته الذين هم أحد عشر فخشي إن قصها يوسف    - عليه السلام - عليهم أن تشتد بهم الغيرة إلى حد الحسد ، وأن يعبروها على وجهها فينشأ فيهم شر الحاسد إذا حسد ، فيكيدوا له كيدا ليسلموا من تفوقه عليهم وفضله فيهم . 
والكيد : إخفاء عمل يضر المكيد . وتقدم عند قوله - تعالى : وأملي لهم إن كيدي متين  في سورة الأعراف . 
واللام في ( لك ) لتأكيد صلة الفعل بمفعوله كقوله : شكرت لك النعمى . 
وتنوين كيدا للتعظيم والتهويل زيادة في تحذيره من قص الرؤيا عليهم . 
وقصد يعقوب    - عليه السلام - من ذلك نجاة ابنه من أضرار تلحقه ، وليس قصده إبطال ما دلت عليه الرؤيا فإنه يقع بعد أضرار ومشاق . وكان يعلم أن بنيه لم يبلغوا في العلم مبلغ غوص النظر المفضي إلى أن الرؤيا إن كانت   [ ص: 214 ] دالة على خير عظيم يناله فهي خبر إلهي ، وهو لا يجوز عليه عدم المطابقة للواقع في المستقبل ، بل لعلهم يحسبونها من الإنذار بالأسباب الطبيعية التي يزول تسببها بتعطيل بعضها . 
وقول يعقوب    - عليه السلام - هذا لابنه تحذير له مع ثقته بأن التحذير لا يثير في نفسه كراهة لإخوته لأنه وثق منه بكمال العقل ، وصفاء السريرة ، ومكارم الخلق . ومن كان حاله هكذا كان سمحا ، عاذرا ، معرضا عن الزلات ، عالما بأثر الصبر في رفعة الشأن ، ولذلك قال لإخوته إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين  وقال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين    . وقد قال أحد ابني آدم    - عليه السلام - لأخيه الذي قال له لأقتلنك حسدا لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين    . فلا يشكل كيف حذر يعقوب  يوسف    - عليهما السلام - من كيد إخوته ،  ولذلك عقب كلامه بقوله : إن الشيطان للإنسان عدو مبين  ليعلم أنه ما حذره إلا من نزغ الشيطان في نفوس إخوته . وهذا كاعتذار النبي - صلى الله عليه وسلم - للرجلين من الأنصار  اللذين لقياه ليلا وهو يشيع زوجه أم المؤمنين إلى بيتها فلما رأياه وليا ، فقال : على رسلكما إنها صفية ، فقالا : سبحان الله يا رسول الله وأكبرا ذلك ، فقال لهما : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في نفوسكما   . فهذه آية عبرة بتوسم يعقوب    - عليه السلام - أحوال أبنائه وارتيائه أن يكف كيد بعضهم لبعض . 
فجملة إن الشيطان للإنسان  إلخ واقعة موقع التعليل للنهي عن قص الرؤيا على إخوته . وعداوة الشيطان لجنس الإنسان  تحمله على أن يدفعهم إلى إضرار بعضهم ببعض . 
وظاهر الآية أن يوسف    - عليه السلام - لم يقص رؤياه على إخوته وهو   [ ص: 215 ] المناسب لكماله الذي يبعثه على طاعة أمر أبيه . ووقع في الإسرائيليات أنه قصها عليهم فحسدوه . 
				
						
						
