قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين الاستفهام مستعمل في التوبيخ .
و ( هل ) مفيدة للتحقيق لأنها بمعنى ( قد ) في الاستفهام ، فهو توبيخ على ما يعلمونه محققا مع يوسف عليه السلام وأخيه ، أي أفعالهم الذميمة بقرينة التوبيخ ، وهي بالنسبة ليوسف عليه السلام واضحة ، وأما بالنسبة إلى بنيامين فهي ما كانوا يعاملونه به مع أخيه يوسف عليه السلام من الإهانة التي تنافيها الأخوة ، ولذلك جعل ذلك الزمن زمن جهالتهم بقوله ( إذ أنتم جاهلون ) .
وفيه تعريض بأنهم قد صلح حالهم من بعد ، وذلك إما بوحي من الله إن كان صار نبيا أو بالفراسة لأنه لما رآهم حريصين على رغبات أبيهم في طلب [ ص: 48 ] فداء بنيامين حين أخذ في حكم تهمة السرقة وفي طلب سراحه في هذا الموقف مع الإلحاح في ذلك وكان يعرف منهم معاكسة أبيهم في شأن بنيامين علم أنهم ثابوا إلى صلاح .
وإنما كاشفهم بحاله الآن ; لأن الاطلاع على حاله يقتضي استجلاب أبيه وأهله إلى السكنى بأرض ولايته ، وذلك كان متوقفا على أشياء لعلها لم تتهيأ إلا حينئذ . وقد أشرنا إلى ذلك عند قوله تعالى قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقد صار يوسف عليه السلام جد مكين عند فرعون .
وفي الإصحاح 45 من سفر التكوين أن يوسف عليه السلام قال لإخوته حينئذ وهو أي الله قد جعلني أبا لفرعون وسيدا لكل بيته ومتسلطا على كل أرض مصر . فالظاهر أن الملك الذي أطلق يوسف عليه السلام من السجن وجعله عزيز مصر قد توفي وخلفه ابن له فحجبه يوسف عليه السلام وصار للملك الشاب بمنزلة الأب ، وصار متصرفا بما يريد ، فرأى الحال مساعدا لجلب عشيرته إلى أرض مصر .
ولا تعرف أسماء ملوك مصر في هذا الزمن الذي كان فيه يوسف عليه السلام ; لأن المملكة أيامئذ كانت منقسمة إلى مملكتين : إحداهما ملوكها من القبط وهم الملوك الذين يقسمهم المؤرخون الإفرنج إلى العائلات الخامسة عشرة ، والسادسة عشرة ، والسابعة عشرة ، وبعض الثامنة عشرة .
والمملكة الثانية ملوكها من الهكسوس . ويقال لهم : العمالقة أو الرعاة وهم عرب .
ودام هذا الانقسام خمسمائة سنة وإحدى عشرة سنة 2214 قبل المسيح إلى سنة 1703 قبل المسيح .
وقولهم ( أئنك لأنت يوسف ) يدل على أنهم استشعروا من كلامه ثم من ملامحه ثم من تفهم قول أبيهم لهم وأعلم من الله ما لا تعلمون إذ قد اتضح لهم المعنى التعريضي من كلامه فعرفوا أنه يتكلم مريدا نفسه .
[ ص: 49 ] وتأكيد الجملة بـ ( إن ) ولام الابتداء وضمير الفصل لشدة تحققهم أنه يوسف عليه السلام .
وأدخل الاستفهام التقريري على الجملة المؤكدة لأنهم تطلبوا تأييده لعلمهم به .
وقرأ ابن كثير إنك بغير استفهام على الخبرية ، والمراد لازم فائدة الخبر ، أي عرفناك . ألا ترى أن جوابه بـ أنا يوسف مجرد عن التأكيد لأنهم كانوا متحققين ذلك فلم يبق إلا تأييده لذلك .
وقوله ( وهذا أخي ) خبر مستعمل في التعجيب من جمع الله بينهما بعد طول الفرقة ، فجملة ( قد من الله علينا ) بيان للمقصود من جملة ( وهذا أخي ) .
وجملة ( إنه من يتق ويصبر ) تعليل لجملة ( من الله علينا ) . فيوسف عليه السلام اتقى الله وصبر وبنيامين صبر ولم يعص الله فكان تقيا . أراد يوسف عليه السلام تعليمهم وسائل التعرض إلى نعم الله تعالى ، وحثهم على التقوى والتخلق بالصبر تعريضا بأنهم لم يتقوا الله فيه وفي أخيه ولم يصبروا على إيثار أبيهم إياهما عليهم .
وهذا من أفانين الخطابة أن يغتنم الواعظ الفرصة لإلقاء الموعظة ، وهي فرصة تأثر السامع وانفعاله وظهور شواهد صدق الواعظ في موعظته .
وذكر المحسنين وضع للظاهر موضع المضمر إذ مقتضى الظاهر أن يقال : فإن الله لا يضيع أجرهم . فعدل عنه إلى المحسنين للدلالة على أن ذلك من الإحسان ، وللتعميم في الحكم ليكون كالتذييل ، ويدخل في عمومه هو وأخوه .
ثم إن هذا في مقام ، وإظهار الموعظة سائغ للأنبياء لأنه من التبليغ كقول النبيء صلى الله عليه وسلم التحدث بالنعمة . إني لأتقاكم لله وأعلمكم به
[ ص: 50 ] والإيثار : التفضيل بالعطاء . وصيغة اليمين مستعملة في لازم الفائدة ، وهي علمهم ويقينهم بأن ما ناله هو تفضيل من الله وأنهم عرفوا مرتبته ، وليس المقصود إفادة تحصيل ذلك ; لأن يوسف عليه السلام يعلمه . والمراد : في الدنيا بما أعطاه الله من النعم . الإيثار
واعترفوا بذنبهم إذ قالوا ( وإن كنا لخاطئين ) ، والخاطئ : فاعل الخطيئة ، أي الجريمة ، فنفعت فيهم الموعظة .
ولذلك أعلمهم بأن الذنب قد غفر فرفع عنهم الذم فقال لا تثريب عليكم .
والتثريب : التوبيخ والتقريع . والظاهر أن منتهى الجملة هو قوله عليكم ; لأن مثل هذا القول مما يجري مجرى المثل فيبنى على الاختصار فيكتفي بـ ( لا تثريب ) مثل قولهم : لا باس ، وقوله تعالى ( لا وزر ) .
وزيادة ( عليكم ) للتأكيد مثل زيادة لك بعد سقيا ورعيا ، فلا يكون قوله ( اليوم ) من تمام الجملة ولكنه متعلق بفعل ( يغفر الله لكم ) . وأعقب ذلك بأن أعلمهم بأن الله يغفر لهم في تلك الساعة لأنها ساعة توبة ، فالذنب مغفور لإخبار الله في شرائعه السالفة دون احتياج إلى وحي سوى أن الوحي لمعرفة إخلاص توبتهم .
وأطلق اليوم على الزمن ، وقد مضى عند قوله تعالى اليوم يئس الذين كفروا من دينكم في أول سورة العقود .
وقوله ( اذهبوا بقميصي هذا ) يدل على أنه أعطاهم قميصا ، فلعله جعل قميصه علامة لأبيه على حياته ، ولعل ذلك كان مصطلحا عليه بينهما . وكان للعائلات في النظام القديم علامات يصطلحون عليها ويحتفظون بها لتكون وسائل للتعارف بينهم عند الفتن والاغتراب ، إذ كانت تعتريهم حوادث الفقد والفراق بالغزو والغارات وقطع الطريق ، وتلك العلامات من لباس ومن كلمات يتعارفون بها وهي الشعار ، ومن علامات في البدن وشامات .
[ ص: 51 ] وفائدة إرساله إلى أبيه القميص أن يثق أبوه بحياته ووجوده في مصر ، فلا يظن الدعوة إلى قدومه مكيدة من ملك مصر . ولقصد تعجيل المسرة له .
والأظهر أنه جعل إرسال قميصه علامة على صدق إخوته فيما يبلغونه إلى أبيهم من أمر يوسف عليه السلام بجلبه فإن قمصان الملوك والكبراء تنسج إليهم خصيصا ولا توجد أمثالها عند الناس وكان الملوك يخلعونها على خاصتهم ، فجعل يوسف عليه السلام إرسال قميصه علامة لأبيه على صدق إخوته أنهم جاءوا من عند يوسف عليه السلام بخبر صدق .
ومن البعيد ما قيل : إن القميص كان قميص إبراهيم عليه السلام مع أن قميص يوسف قد جاء به إخوته إلى أبيهم حين جاءوا عليه بدم كذب .
وأما إلقاء القميص على وجه أبيه فلقصد المفاجأة بالبشرى لأنه كان لا يبصر من بعيد فلا يتبين رفعة القميص إلا من قرب .
وأما كونه يصير بصيرا فحصل ليوسف عليه السلام بالوحي فبشرهم به من ذلك الحين . ولعل يوسف عليه السلام نبئ ساعتئذ .
وأدمج الأمر بالإتيان بأبيه في ضمن تبشيره بوجوده إدماجا بليغا إذ قال ( يأت بصيرا ) ثم قال وأتوني بأهلكم أجمعين لقصد صلة أرحام عشيرته . قال المفسرون : وكانت عشيرة يعقوب عليه السلام ستا وسبعين نفسا بين رجال ونساء .