[ ص: 175 ] قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب ويقول الذين كفروا لست مرسلا عطف على ما تضمنته جملة وقد مكر الذين من قبلهم من التعريض بأن قولهم لولا أنزل عليه آية من ربه ضرب من المكر بإظهارهم أنهم يتطلبون الآيات الدالة على صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، مظهرين أنهم في شك قد أفصحوا تارات بما أبطنوه فنطقوا بصريح التكذيب وخرجوا من طور المكر إلى طور المجاهرة بالكفر فقالوا : لست مرسلا .
وقد حكي قولهم بصيغة المضارع للدلالة على تكرر ذلك منهم ولاستحضار حالهم العجيبة من الاستمرار على التكذيب بعد أن رأوا دلائل الصدق ، كما عبر بالمضارع في قوله تعالى ويصنع الفلك وقوله يجادلنا في قوم لوط . ولما كانت مقالتهم المحكية هنا صريحة لا مواربة فيها أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بجواب لا جدال فيه وهو تحكيم الله بينه وبينهم .
وقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بأن يجيبهم جواب الواثق بصدقه المستشهد على ذلك بشهادة الصدق من إشهاد الله تعالى وإشهاد العالمين بالكتب والشرائع .
ولما كانت الشهادة للرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصدق شهادة على الذين كفروا بأنهم كاذبون جعلت الشهادة بينه وبينهم .
وإشهاد الله في معنى الحلف على الصدق كقول هود - عليه السلام - إني أشهد الله .
والباء الداخلة على اسم الجلالة الذي هو فاعل كفى في المعنى للتأكيد .
[ ص: 176 ] وأصل التركيب : كفى الله ، و ( شهيدا ) حال لازمة أو تمييز ، أي : كفى الله من جهة الشاهد .
ومن عنده علم الكتاب معطوف على اسم الجلالة .
والموصول في ومن عنده علم الكتاب يجوز أن يراد به جنس من يتصف بالصلة . والمعنى : وكل من عندهم علم الكتاب . وإفراد الضمير المضاف إليه " عند " لمراعاة لفظ " من " . وتعريف الكتاب تعريف للعهد ، وهو التوراة . أي : وشهادة علماء الكتاب . وذلك أن اليهود كانوا قبل هجرة النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يستظهرون على المشركين بمجيء النبيء المصدق للتوراة .
ويحتمل أن يكون المراد بمن عنده علم الكتاب معينا ، فهو ورقة بن نوفل إذ علم أهل مكة أنه شهد بأن ما أوحي به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو الناموس الذي أنزل على موسى - عليه السلام - كما في حديث بدء الوحي في الصحيح . وكان ورقة منفردا بمعرفة التوراة والإنجيل . وقد كان خبر قوله للنبي - صلى الله عليه وسلم - ما قاله معروفا عند قريش .
فالتعريف في الكتاب تعريف الجنس المنحصر في التوراة والإنجيل .
وقيل : أريد به الذي آمن بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - في أول مقدمه عبد الله بن سلام المدينة . ويبعده أن السورة مكية كما تقدم . ووجه شهادة علماء الكتاب برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وجدانهم البشارة بنبيء خاتم للرسل - صلى الله عليه وسلم - ووجدانهم ما جاء في القرآن موافقا لسنن الشرائع الإلهية ومفسرا للرموز الواردة في التوراة والإنجيل في صفة النبيء - صلى الله عليه وسلم - المصدق الموعود به . ولهذا المعنى كان التعبير في هذه الآية بـ من عنده علم الكتاب دون أهل الكتاب لأن تطبيق ذلك لا يدركه إلا علماؤهم . قال تعالى أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل .