[ ص: 201 ] قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون
قول الرسل إن نحن إلا بشر مثلكم جواب بطريق القول بالموجب في علم آداب البحث ، وهو تسليم الدليل مع بقاء الأنواع ببيان محل الاستدلال غير تام الإنتاج ، وفيه إطماع في الموافقة ، ثم كر على استدلالهم المقصود بالإبطال بتبيين خطئهم . ونظيره قوله تعالى يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون .
وهذا النوع من القوادح في علم الجدل شديد الوقع على المناظر ، فليس قول الرسل إن نحن إلا بشر مثلكم تقريرا للدليل ، ولكنه تمهيد لبيان غلط المستدل في الاستنتاج من دليله ، ومحل البيان هو الاستدراك في قوله ولكن الله يمن على من يشاء من عباده ، والمعنى : أن المماثلة في البشرية لا تقتضي المماثلة في زائد عليها فالبشر كلهم عباد الله والله يمن على من يشاء من عباده بنعم لم يعطها غيرهم .
فالاستدراك رفع لما توهموه من كون المماثلة في البشرية مقتضى الاستواء في كل خصلة .
وأورد الشيخ محمد بن عرفة في التفسير وجها للتفرقة بين هذه الآية إذ زيد فيها كلمة ( لهم ) في قوله قالت لهم رسلهم وبين الآية التي قبلها إذ قال فيها قالت رسلهم بوجهين : [ ص: 202 ] أحدهما : أن هذه المقالة خاصة بالمكذبين من قومهم يقولونها لغيرهم إذ هو جواب عن كلام صدر منهم والمقالة الأولى يقولونها لهم ولغيرهم ، أي : للمصدقين والمكذبين .
وثانيهما : أن وجود الله أمر نظري ، فكان كلام الرسل في شأنه خطابا لعموم قومهم ، وأما بعثة الرسل فهي أمر ضروري ظاهر لا يحتاج إلى نظر ، فكأنه قال : ما قالوا هذا إلا للمكذبين لغباوتهم وجهلهم لا لغيرهم .
وأجاب الأبي أن أفي الله شك خطاب لمن عاند في أمر ضروري ، فكأن المجيب عن ذلك يجيب به من حيث الجملة ولا يقبل بالجواب على المخاطب لمعاندته فيجيب وهو معرض عنه بخلاف قولهم إن نحن إلا بشر مثلكم فإنه تقرير لمقالتهم فهم يقبلون عليهم بالجواب ; لأنهم لم يبطلوا كلامهم بالإطلاق بل يقررونه ويزيدون فيه اهـ .
والحاصل أن زيادة " لهم " تؤذن بالدلالة على توجه الرسل إلى قومهم بالجواب لما في الجواب عن كلامهم من الدقة المحتاجة إلى الاهتمام بالجواب بالإقبال عليهم إذ اللام الداخلة بعد فعل القول في نحو : أقول لك ، لام تعليل ، أي : أقول قولي لأجلك ، ثم عطفوا على ذلك تبيين أن ما سأله القوم من الإتيان بسلطان مبين ليس ذلك إليهم ولكنه بمشيئة الله وليس الله بمكره على إجابة من يتحداه .
وجملة وعلى الله فليتوكل المؤمنون أمر لمن آمن من قومهم بالتوكل على الله ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا لأنهم أول المؤمنين بقرينة قولهم المؤمنون وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا إلى آخره .
ولما كان حصول إذن الله تعالى بتأييد الرسل بالحجة المسؤولة غير معلوم الميقات ولا متعين الوقوع وكانت مدة ترقب ذلك مظنة لتكذيب [ ص: 203 ] الذين كفروا رسلهم تكذيبا قاطعا وتوقع الرسل أذاة قومهم إياهم شأن القاطع بكذب من زعم أنه مرسل من الله ; ولأنهم قد بدءوهم بالأذى كما دل عليه قولهم ولنصبرن على ما آذيتمونا . أظهر الرسل لقومهم أنهم غير غافلين عن ذلك وأنهم يتلقون ما عسى أن يواجههم به المكذبون من أذى بتوكلهم على الله هم ومن آمن معهم ; فابتدءوا بأن أمروا المؤمنين بالتوكل تذكيرا لهم لئلا يتعرض إيمانهم إلى زعزعة الشك حرصا على ثبات المؤمنين ، كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه : بن الخطاب ، وفي ذلك الأمر إيذان بأنهم لا يعبئون بما يضمره لهم الكافرون من الأذى ، كقول السحرة أفي شك أنت يا لفرعون حين آمنوا : لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون .
وتقديم المجرور في قوله وعلى الله فليتوكل المؤمنون مؤذن بالحصر وأنهم لا يرجون نصرا من غير الله تعالى لضعفهم وقلة ناصرهم ، وفيه إيماء إلى أنهم واثقون بنصر الله . والجملة معطوفة بالواو عطف الإنشاء على الخبر .
والفاء في قوله فليتوكل المؤمنون رابطة لجملة فليتوكل المؤمنون بما أفاده تقديم المجرور من معنى الشرط الذي يدل عليه المقام ، والتقدير : إن عجبتم من قلة اكتراثنا بتكذيبكم أيها الكافرون ، وإن خشيتم هؤلاء المكذبين أيها المؤمنون ، فليتوكل المؤمنون على الله ، فإنهم لن يضيرهم عدوهم ، وهذا كقوله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين كما تقدم في سورة العقود .
: الاعتماد وتفويض التدبير إلى الغير ثقة بأنه أعلم بما يصلح ، فالتوكل على الله تحقق أنه أعلم بما ينفع أولياءه من خير الدنيا والآخرة ، وقد تقدم الكلام على التوكل عند قوله تعالى والتوكل فإذا عزمت فتوكل على الله في سورة آل عمران .
وجملة وما لنا ألا نتوكل على الله استدلال على صدق رأيهم في تفويض [ ص: 204 ] أمرهم إلى الله ; لأنهم رأوا بوارق عنايته بهم إذ هداهم إلى طرائق النجاة والخير ، ومبادئ الأمور تدل على غاياتها ، وأضافوا السبل إلى ضميرهم للاختصار لأن أمور دينهم صارت معروفة لدى الجميع فجمعها قولهم ( سبلنا ) .
وما لنا ألا نتوكل استفهام إنكاري لانتفاء توكلهم على الله ، أتوا به في صورة الإنكار بناء على ما هو معروف من استحماق الكفار إياهم في توكلهم على الله ، فجاءوا بإنكار نفي التوكل على الله ، ومعنى وما لنا أن لا نتوكل ما ثبت لنا من عدم التوكل ، فاللام للاستحقاق .
وزادوا قومهم تأييسا بالأذى فأقسموا على أن صبرهم على أذى قومهم سيستمر ، فصيغة الاستقبال المستفادة من المضارع المؤكد بنون التوكيد في ( لنصبرن ) دلت على أذى مستقبل ، ودلت صيغة المضي المنتزع منها المصدر في قوله ( ما آذيتمونا ) على أذى مضى ، فحصل من ذلك معنى نصبر على أذى متوقع كما صبرنا على أذى مضى ، وهذا إيجاز بديع .
وجملة وعلى الله فليتوكل المتوكلون يحتمل أن تكون من بقية كلام الرسل فتكون تذييلا وتأكيدا لجملة وعلى الله فليتوكل المؤمنون فكانت تذييلا لما فيها من العموم الزائد في قوله المتوكلون على عموم فليتوكل المؤمنون وكانت تأكيدا ; لأن المؤمنين من جملة المتوكلين ، والمعنى : من كان متوكلا في أمره على غيره فليتوكل على الله .
ويحتمل أن تكون من كلام الله تعالى ، فهي تذييل للقصة وتنويه بشأن المتوكلين على الله ، أي : لا ينبني التوكل إلا عليه .