وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين
عطف قصة على قصة .
و إذ مفعول لفعل ( اذكر ) محذوف ، وقد تقدم الكلام في نظائره في سورة البقرة وفي سورة الأعراف .
والبشر : مرادف الإنسان ، أي : أني خالق إنسانا ، وقد فهم الملائكة الحقيقة بما ألقى الله فيهم من العلم ، أو أن الله وصف لهم حقيقة الإنسان بالمعنى الذي عبر عنه في القرآن بالعبارة الجامعة لذلك المعنى .
[ ص: 44 ] وإنما ذكر للملائكة المادة التي منها خلق البشر ليعلموا أن شرف الموجودات بمزاياها لا بمادة تركيبها كما أومأ إلى ذلك قوله فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين .
والتسوية : تعديل ذات الشيء ، وقد أطلقت هنا على اعتدال العناصر فيه واكتمالها بحيث صارت قابلة لنفخ الروح .
والنفخ : حقيقته إخراج الهواء مضغوطا بين الشفتين مضمومتين كالصفير واستعير هنا لوضع قوة لطيفة السريان قوية التأثير دفعة واحدة ، وليس ثمة نفخ ولا منفوخ .
وتقريب نفخ الروح في الحي أنه تكون القوة البخارية أو الكهربائية المنبعثة من القلب عند انتهاء استواء المزاج وتركيب أجزاء المزاج تكونا سريعا دفعيا ، وجريان آثار تلك القوة في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن في تجاويف جميع أعضائه الرئيسة وغيرها .
وإسناد النفخ وإضافة الروح إلى ضمير اسم الجلالة تنويه بهذا المخلوق ، وفيه إيماء إلى أن حقائق العناصر عند الله تعالى لا تتفاضل إلا بتفاضل آثارها وأعمالها ، وأن كراهة الذات أو الرائحة إلى حالة يكرهها بعض الناس أو كلهم إنما هو تابع لما يلائم الإدراك الحسي أو ينافره تبعا لطباع الأمزجة أو لإلف العادة ولا يؤبه في علم الله تعالى ، وهذا هو ضابط وصف القذارة والنزاهة عند البشر .
ألا ترى أن المني يستقذر في الحس البشري على أن منه تكوين نوعه ، ومنه تخلقت أفاضل البشر ، وكذلك المسك طيب في الحس البشري لملاءمة رائحته للشم ، وما هو إلا غدة من خارجات بعض أنواع الغزال ، قال تعالى وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون .
[ ص: 45 ] وهذا تأصيل لكون عالم الحقائق غير خاضع لعالم الأوهام ، وفي الحديث . وفيه لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . لا يكلم أحد في سبيل الله ، والله أعلم بمن يكلم في سبيله إلا جاء يوم القيامة ودمه يشخب ، اللون لون الدم والريح ريح المسك
ومعنى فقعوا له ساجدين اسقطوا له ساجدين ، وهذه الحال لإفادة نوع الوقوع ، وهو الوقوع لقصد التعظيم . كقوله تعالى وخروا له سجدا ، وهذا تمثيل لتعظيم يناسب أحوال الملائكة وأشكالهم ; تقديرا لبديع الصنع والصلاحية لمختلف الأحوال الدال على تمام علم الله وعظيم قدرته .
وأمر الملائكة بالسجود لا ينافي تحريم السجود في الإسلام لغير الله من وجوه :
أحدها : أن ذلك المنع لسد ذريعة الإشراك ، والملائكة معصومون من تطرق ذلك إليهم .
وثانيها : أن ، فجاءت بما لم تجئ به الشرائع السالفة ; لأن الله أراد بلوغ أتباعها أوج الكمال في المدارك ولم يكن السجود من قبل محظورا فقد سجد شريعة الإسلام امتازت بنهاية مبالغ الحق والصلاح يعقوب وأبناؤه ليوسف - عليهم السلام - ، وكانوا أهل إيمان .
وثالثها : أن هذا إخبار عن أحوال العالم العلوي ، ولا تقاس أحكامه على تكاليف عالم الدنيا .
وقوله فسجد الملائكة كلهم أجمعون عنوان على . طاعة الملائكة
و كلهم أجمعون تأكيد على تأكيد ، أي : لم يتخلف عن السجود أحد منهم .
وقوله إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين تقدم القول على نظيره في سورة البقرة وسورة الأعراف .
[ ص: 46 ] وقوله هنا أن يكون مع الساجدين بيان لقوله في سورة البقرة واستكبر ; لأنه أبى أن يسجد وأن يساوي الملائكة في الرضى بالسجود ، فدل هذا على أنه عصى وأنه ترفع عن متابعة غيره .
وجملة ما لك ألا تكون مع الساجدين استفهام توبيخ ، ومعناه : أي شيء ثبت لك ، أي : متمكنا منك ; لأن ( اللام ) تفيد الملك ، و ألا تكون معمول لحرف جر محذوف تقديره ( في ) . وحذف حرف الجر مطرد مع ( أن ) ، وحرف ( أن ) يفيد المصدرية . فالتقدير في انتفاء كونك من الساجدين .
وقوله لم أكن لأسجد جحود ، وقد تقدم أنه أشد في النفي من ( لا أسجد ) في قوله تعالى ما يكون لي أن أقول في آخر العقود .
وقوله لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون تأييد لإبايته من السجود بأن المخلوق من ذلك الطين حقير ذميم لا يستأهل السجود ، وهذا ضلال نشأ عن تحكيم الأوهام بإعطاء الشيء حكم وقعه في الحاسة الوهمية دون وقعه في الحاسة العقلية ، وإعطاء حكم ما منه التكوين للشيء الكائن ، فشتان بين ذكر ذلك في قوله تعالى للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون وبين مقصد الشيطان من حكاية ذلك في تعليل للمخلوق منه بإعادة الله الألفاظ التي وصف بها الملائكة ، وزاد فقال ما حكي عنه في سورة ( ص ) إذ قال امتناعه من السجود أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ، ولم يحك عنه هنا .
وبمجموع ما حكي عنه هنا وهناك كان إبليس مصرحا بتخطئة الخالق ، كافرا بصفاته ، فاستحق الطرد من عالم القدس ، وقد بيناه في سورة ( ص ) .
وعطفت جملة أمره بالخروج بالفاء ; لأن ذلك الأمر تفرع على جوابه المنبئ عن كفره وعدم تأهله للبقاء في السماوات .
[ ص: 47 ] والفاء في فإنك رجيم دالة على سبب إخراجه من السماوات ، و ( إن ) مؤذنة بالتعليل ، وذلك إيماء إلى سبب ، وهو ما يقتضيه وصفه بالرجيم من تلوث الطوية وخبث النفس ، أي : حيث ظهر هذا فيك فقد خبثت نفسك خبثا لا يرجى بعده صلاح فلا تبقى في عالم القدس والنزاهة . إخراجه من عوالم القدس
والرجيم : المطرود ، وهو كناية عن الحقارة ، وتقدم في أول هذه السورة وحفظناها من كل شيطان رجيم .
وضمير منها عائد إلى السماوات ، وإن لم تذكر لدلالة ذكر الملائكة عليها ، وقيل : إلى الجنة ، وقد اختلف علماؤنا في أنها موجودة .
واللعنة : السب بالطرد ، و ( على ) مستعملة في الاستعلاء المجازي ; وهو تمكن اللعنة والشتم منه حتى كأنه يقع فوقه .
وجعل يوم الدين وهو يوم الجزاء غاية للعن استعمالا في معنى الدوام ، كأنه قيل أبدا ، وليس ذلك بمقتضي أن اللعنة تنتهي يوم القيامة ويخلفها ضدها ، ولكن المراد أن اللعنة عليه في الدنيا إلى أن يلاقي جزاء عمله فذلك يومئذ أشد من اللعنة .