nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28986_31756_30340وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إن ربك هو الخلاق العليم
موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع ، فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلا لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقوه ; فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها ، ولأن تكون تصديرا للجملة التي بعدها وهي جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وإن الساعة لآتية ، والمراد ساعة جزاء المكذبين
بمحمد - صلى الله عليه وسلم - أي ساعة البعث ، فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية ، وعلى الثاني عاطفة جملة على جملة وخبرا على خبر .
[ ص: 75 ] على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها ; لأهميته مع كونها مكملة لغيرها ، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظم الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة .
وتشمل السماوات والأرض وما بينهما أصناف المخلوقات من حيوان وجماد ، فشمل الأمم التي على الأرض وما حل بها ، وشمل الملائكة الموكلين بإنزال العذاب ، وشمل الحوادث الكونية التي حلت بالأمم من الزلازل والصواعق والكسف .
والباء في ( إلا بالحق ) للملابسة متعلقة بـ ( خلقنا ) ، أي خلقا ملابسا للحق ، ومقارنا له بحيث يكون الحق باديا في جميع أحوال المخلوقات .
والملابسة هنا عرفية; فقد يتأخر ظهور الحق عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخرا متفاوتا ، فالملابسة بين الخلق والحق تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحق وخفائه ، على أنه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دل عليه قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق .
والحق : هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشر ، والكمال والنقص ، والسمو والخفض ، في كل نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يصلحه ، وما يصلح هو له ، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات ، فإذا لاح ذلك الحق الموصوف مقارنا وجوده لوجود محقوقه فالأمر واضح ، وإذا لاح تخلف شيء عن مناسبة فبالتأمل والبحث يتضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة ، ثم لا يتبدل الحق آخر الأمر .
وهذا التأويل يظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت ، فإن ذلك جزاء مناسب تمردها وفسادها ، وأنها وإن أمهلت حينا برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زمانا فهي لم تفلت من العذاب المستحق لها ، وهو من الحق أيضا فما كان إمهالها
[ ص: 76 ] إلا حقا ، وما كان حلول العذاب بها إلا حقا عند حلول أسبابه ، وهو التمرد على أنبيائهم ، وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطل الجزاء في الدنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة .
وموقع جملة
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وإن الساعة لآتية في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال ، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقا ملابسا للحق ، وأيقن به علم أن الحق لا يتخلف عن مستحقه ولو غاب وتأخر ، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطل ظهور الحق في نصابه وتخلفه عن أربابه .
فعلم أن وراء هذا النظام نظاما مدخرا يتصل فيه الحق بكل مستحق إن خيرا وإن شرا ، فلا يحسبن من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتا من الجزاء فإن الله قد أعد عالما آخر يعطي فيه الأمور مستحقيها .
فلذلك أعقب الله
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وما خلقنا السماوات والأرض بآية
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وإن الساعة لآتية ، أي أن ساعة إنفاذ الحق آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذبيك وإمهالهم كما قال تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون ، والمقصود من هذا تسلية النبيء - صلى الله عليه وسلم - على ما لقيه من أذى المشركين وتكذيبهم واستمرارهم على ذلك إلى أمد معلوم .
وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حرية بالفصل وعدم العطف ; لأن حقها الاستئناف ، ولكنها عطفت ; لإبرازها في صورة الكلام المستقل اهتماما بمضمونها ، ولأنها تسلية للرسول - صلى الله عليه وسلم - على ما يلقاه من قومه ، وليصح تفريع أمره بالصفح عنهم في الدنيا ; لأن جزاءهم موكول إلى الوقت المقدر .
وفي
nindex.php?page=treesubj&link=30550إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقق بها مراد الله من بقاء هذا الدين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إياه وحمله إلى الأمم .
[ ص: 77 ] والمراد بالساعة ساعة البعث ، وذلك الذي افتتحت به السورة ، وذلك انتقال من تهديدهم ووعيدهم بعذاب الدنيا إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=3ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى والذين كفروا عما أنذروا معرضون في سورة الأحقاف .
وتفريع
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فاصفح الصفح الجميل على قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق باعتبار المعنى الكنائي له ، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقيهم للدعوة .
والصفح : العفو ، وقد تقدم في قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=13فاعف عنهم واصفح في سورة العقود ، وهو مستعمل هنا في لازمه ، وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدين ، وحذف متعلق الصفح لظهوره ، أي عمن كذبك وآذاك .
والجميل : الحسن ، والمراد الصفح الكامل .
ثم إن في هذه الآية ضربا من رد العجز على الصدر ، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16ولقد جعلنا في السماء بروجا الآيات ، وختمت بآية
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون إلى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وإن ربك هو يحشرهم .
وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق
آدم عليه السلام ، وما فيه من العبر ، ثم إلى سوق قصص الأمم التي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ، ودلالته على البعث بقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق الآيات ، فجاءت على وزان قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16ولقد جعلنا في السماء بروجا الآيات ، فإن ذلك خلق بديع .
[ ص: 78 ] وزيد هنا أن ذلك خلق بالحق .
وكان قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وإن الساعة لآتية فذلكة لقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وإنا لنحن نحيي ونميت إلى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم ، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه ، ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87ولقد آتيناك سبعا من المثاني الناظر إلى قوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون .
وجملة إن ربك هو الخلاق العليم في موقع التعليل للأمر بالصفح عنهم ، أي لأن في الصفح عنهم مصلحة لك ولهم يعلمها ربك ، فمصلحة النبيء - صلى الله عليه وسلم - في الصفح هي كمال أخلاقه ، ومصلحتهم في الصفح رجاء إيمانهم ، فالله الخلاق لكم ولهم ولنفسهم وأنفسهم ، العليم بما يأتيه كل منكم ، وهذا كقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=8فلا تذهب نفسك عليهم حسرات إن الله عليم بما يصنعون .
ومناسبته لقوله تعالى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وإن الساعة لآتية ظاهرة .
وفي وصفه بـ ( الخلاق العليم ) إيماء إلى بشارة النبيء - صلى الله عليه وسلم - بأن الله يخلق من أولئك من يعلم أنهم يكونون أولياء للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهم الذين آمنوا بعد نزول هذه الآية والذين ولدوا ، كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341584لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=9809أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وكان في أيام الجاهلية من المؤذين للنبيء - صلى الله عليه وسلم - :
دعاني داع غير نفسي وردنـي إلى الله من أطردته كل مطرد
يعني بالداعي النبيء - صلى الله عليه وسلم .
وتلك هي نكتة ذكر وصف الخلاق دون غيره من الأسماء الحسنى .
[ ص: 79 ] والعدول إلى إن ربك دون ( إن الله ) للإشارة إلى أن الذي هو ربه ومدبر أمره لا يأمره إلا بما فيه صلاحه ولا يقدر إلا ما فيه خيره .
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85nindex.php?page=treesubj&link=28986_31756_30340وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=86إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ
مَوْقِعُ الْوَاوِ فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بَدِيعٌ ، فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ تَذْيِيلًا لِقَصَصِ الْأُمَمِ الْمُعَذَّبَةِ بِبَيَانِ أَنَّ مَا أَصَابَهُمْ قَدِ اسْتَحَقُّوهُ ; فَهُوَ مِنْ عَدْلِ اللَّهِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ بِمَا يُنَاسِبُهَا ، وَلِأَنْ تَكُونَ تَصْدِيرًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا وَهِيَ جُمْلَةُ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ، وَالْمُرَادُ سَاعَةُ جَزَاءِ الْمُكَذِّبِينَ
بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ سَاعَةُ الْبَعْثِ ، فَعَلَى الْأَوَّلِ تَكُونُ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً أَوْ حَالِيَّةً ، وَعَلَى الثَّانِي عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَخَبَرًا عَلَى خَبَرٍ .
[ ص: 75 ] عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ فِي الْحَالَيْنِ لِجَعْلِهَا مُسْتَقِلَّةً بِإِفَادَةِ مَضْمُونِهَا ; لِأَهَمِّيَّتِهِ مَعَ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِغَيْرِهَا ، وَإِنَّمَا أَكْسَبَهَا هَذَا الْمَوْقِعُ الْبَدِيعُ نَظْمَ الْجُمَلِ الْمُعْجِزِ وَالتَّنَقُّلَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِمَا بَيْنَهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ .
وَتَشْمَلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ ، فَشَمَلَ الْأُمَمَ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا حَلَّ بِهَا ، وَشَمَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ ، وَشَمَلَ الْحَوَادِثَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي حَلَّتْ بِالْأُمَمِ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْكِسَفِ .
وَالْبَاءُ فِي ( إِلَّا بِالْحَقِّ ) لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ ( خَلَقْنَا ) ، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ ، وَمُقَارِنًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ بَادِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ .
وَالْمُلَابَسَةُ هُنَا عُرْفِيَّةٌ; فَقَدْ يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ الْحَقِّ عَنْ خَلْقِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ تَأَخُّرًا مُتَفَاوِتًا ، فَالْمُلَابَسَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْحَقِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَخَفَائِهِ ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ فِي عَاقِبَةِ الْأُمُورِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=18بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ .
وَالْحَقُّ : هُنَا هُوَ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى نِظَامٍ مُلَائِمٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ ، وَالسُّمُوِّ وَالْخَفْضِ ، فِي كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَلِيقُ بِمَاهِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ ، وَمَا يَصْلُحُ هُوَ لَهُ ، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ النِّظَامُ الْعَامُّ لَا بِحَسَبِ الْأَمْيَالِ وَالشَّهَوَاتِ ، فَإِذَا لَاحَ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَوْصُوفُ مُقَارَنًا وَجُودُهُ لِوُجُودِ مَحْقُوقِهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ ، وَإِذَا لَاحَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ عَنْ مُنَاسَبَةٍ فَبِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ يَتَّضِحُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً قَضَتْ بِتَعْطِيلِ الْمُقَارَنَةِ الْمَحْقُوقَةِ ، ثُمَّ لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ آخِرَ الْأَمْرِ .
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُظْهِرُهُ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي طَغَتْ وَظَلَمَتْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ تَمَرُّدَهَا وَفَسَادَهَا ، وَأَنَّهَا وَإِنْ أُمْهِلَتْ حِينًا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ عُمْرَانِ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ زَمَانًا فَهِيَ لَمْ تُفْلِتْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ لَهَا ، وَهُوَ مِنَ الْحَقِّ أَيْضًا فَمَا كَانَ إِمْهَالُهَا
[ ص: 76 ] إِلَّا حَقًّا ، وَمَا كَانَ حُلُولُ الْعَذَابِ بِهَا إِلَّا حَقًّا عِنْدَ حُلُولِ أَسْبَابِهِ ، وَهُوَ التَّمَرُّدُ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي جَزَاءِ الْآخِرَةِ أَنْ تُعَطِّلَ الْجَزَاءَ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ عُطْلِ مَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْعَامَّةُ أَوِ الْخَاصَّةُ .
وَمَوْقِعُ جُمْلَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فِي الْكَلَامِ يَجْعَلُهَا بِمَنْزِلَةِ نَتِيجَةِ الِاسْتِدْلَالِ ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ خُلِقَتْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ ، وَأَيْقَنَ بِهِ عَلِمَ أَنَّ الْحَقَّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ وَلَوْ غَابَ وَتَأَخَّرَ ، وَإِنْ كَانَ نِظَامُ حَوَادِثِ الدُّنْيَا قَدْ يُعَطِّلُ ظُهُورَ الْحَقِّ فِي نِصَابِهِ وَتَخَلُّفِهِ عَنْ أَرْبَابِهِ .
فَعَلِمَ أَنَّ وَرَاءَ هَذَا النِّظَامِ نِظَامًا مُدَّخَرًا يَتَّصِلُ فِيهِ الْحَقُّ بِكُلِّ مُسْتَحِقٍّ إِنْ خَيْرًا وَإِنْ شَرًّا ، فَلَا يَحْسَبَنَّ مَنْ فَاتَ مِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَبْلَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ مُفْلِتًا مِنَ الْجَزَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَعَدَّ عَالَمًا آخَرَ يُعْطِي فِيهِ الْأُمُورَ مُسْتَحِقِّيهَا .
فَلِذَلِكَ أَعْقَبَ اللَّهُ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِآيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ، أَيْ أَنَّ سَاعَةَ إِنْفَاذِ الْحَقِّ آتِيَةٌ لَا مَحَالَةَ فَلَا يُرِيبُكَ مَا تَرَاهُ مِنْ سَلَامَةِ مُكَذِّبِيكَ وَإِمْهَالِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=46وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَسْلِيَةُ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ وَتَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِمْرَارِهِمْ عَلَى ذَلِكَ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ .
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ فِي مُقْتَضَى الظَّاهِرِ حَرِيَّةً بِالْفَصْلِ وَعَدَمِ الْعَطْفِ ; لِأَنَّ حَقَّهَا الِاسْتِئْنَافُ ، وَلَكِنَّهَا عُطِفَتْ ; لِإِبْرَازِهَا فِي صُورَةِ الْكَلَامِ الْمُسْتَقِلِّ اهْتِمَامًا بِمَضْمُونِهَا ، وَلِأَنَّهَا تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنْ قَوْمِهِ ، وَلِيَصِحَّ تَفْرِيعُ أَمْرِهِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا ; لِأَنَّ جَزَاءَهُمْ مَوْكُولٌ إِلَى الْوَقْتِ الْمُقَدَّرِ .
وَفِي
nindex.php?page=treesubj&link=30550إِمْهَالِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ فِي إِنْجَائِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ حِكْمَةٌ تَحَقَّقَ بِهَا مُرَادُ اللَّهِ مِنْ بَقَاءِ هَذَا الدِّينِ وَانْتِشَارِهِ فِي الْعَالَمِ بِتَبْلِيغِ الْعَرَبِ إِيَّاهُ وَحَمْلِهِ إِلَى الْأُمَمِ .
[ ص: 77 ] وَالْمُرَادُ بِالسَّاعَةِ سَاعَةُ الْبَعْثِ ، وَذَلِكَ الَّذِي افْتُتِحَتْ بِهِ السُّورَةُ ، وَذَلِكَ انْتِقَالٌ مِنْ تَهْدِيدِهِمْ وَوَعِيدِهِمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا إِلَى تَهْدِيدِهِمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=46&ayano=3مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ .
وَتَفْرِيعُ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى الْكِنَائِيِّ لَهُ ، وَهُوَ أَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى أَعْمَالِهِمْ مَوْكُولٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَلِذَلِكَ أَمَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْإِعْرَاضِ عَنْ أَذَاهُمْ وَسُوءِ تَلَقِّيهِمْ لِلدَّعْوَةِ .
وَالصَّفْحُ : الْعَفْوُ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=13فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي لَازِمِهِ ، وَهُوَ عَدَمُ الْحُزْنِ وَالْغَضَبِ مِنْ صَنِيعِ أَعْدَاءِ الدِّينِ ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الصَّفْحِ لِظُهُورِهِ ، أَيْ عَمَّنْ كَذَّبَكَ وَآذَاكَ .
وَالْجَمِيلُ : الْحَسَنُ ، وَالْمُرَادُ الصَّفْحُ الْكَامِلُ .
ثُمَّ إِنَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ضَرْبًا مِنْ رَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ ، إِذْ كَانَ قَدْ وَقَعَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ بِالْبَعْثِ بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عِنْدَ قَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=14وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=15لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا الْآيَاتِ ، وَخُتِمَتْ بِآيَةِ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ .
وَانْتَقَلَ هُنَالِكَ إِلَى التَّذْكِيرِ بِخَلْقِ
آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ ، ثُمَّ إِلَى سَوْقِ قَصَصِ الْأُمَمِ الَّتِي عَقِبَتْ عُصُورَ الْخِلْقَةِ الْأُولَى فَآنَ الْأَوَانُ لِلْعَوْدِ إِلَى حَيْثُ افْتَرَقَ طَرِيقُ النَّظْمِ حَيْثُ ذَكَرَ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ ، وَدَلَالَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ الْآيَاتِ ، فَجَاءَتْ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=16وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا الْآيَاتِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ خَلْقٌ بَدِيعٌ .
[ ص: 78 ] وَزِيدَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ خُلِقَ بِالْحَقِّ .
وَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَذْلَكَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=23وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ إِلَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=25وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، فَعَادَ سِيَاقُ الْكَلَامِ إِلَى حَيْثُ فَارَقَ مَهْيَعَهُ ، وَلِذَلِكَ تَخَلَّصَ إِلَى ذِكْرِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=87وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي النَّاظِرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ .
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ فِي مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لِلْأَمْرِ بِالصَّفْحِ عَنْهُمْ ، أَيْ لِأَنَّ فِي الصَّفْحِ عَنْهُمْ مَصْلَحَةً لَكَ وَلَهُمْ يَعْلَمُهَا رَبُّكَ ، فَمَصْلَحَةُ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّفْحِ هِيَ كَمَالُ أَخْلَاقِهِ ، وَمَصْلَحَتُهُمْ فِي الصَّفْحِ رَجَاءُ إِيمَانِهِمْ ، فَاللَّهُ الْخَلَّاقُ لَكُمْ وَلَهُمْ وَلِنَفْسِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ، الْعَلِيمُ بِمَا يَأْتِيهِ كُلٌّ مِنْكُمْ ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=35&ayano=8فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ .
وَمُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=85وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ ظَاهِرَةٌ .
وَفِي وَصْفِهِ بِـ ( الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ) إِيمَاءٌ إِلَى بِشَارَةِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ مِنْ أُولَئِكَ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَوْلِيَاءَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالَّذِينَ وُلِدُوا ، كَقَوْلِ النَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10341584لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُهُ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=9809أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ فِي أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الْمُؤْذِينَ لِلنَّبِيءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - :
دَعَانِي دَاعٍ غَيْرُ نَفْسِي وَرَدَّنِـي إِلَى اللَّهِ مَنْ أَطْرَدْتُهُ كُلَّ مُطْرَدِ
يَعْنِي بِالدَّاعِي النَّبِيءَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَتِلْكَ هِيَ نُكْتَةُ ذِكْرِ وَصْفِ الْخَلَّاقِ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى .
[ ص: 79 ] وَالْعُدُولُ إِلَى إِنَّ رَبَّكَ دُونَ ( إِنَّ اللَّهَ ) لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ الَّذِي هُوَ رَبُّهُ وَمُدَبِّرُ أَمْرِهِ لَا يَأْمُرُهُ إِلَّا بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُ وَلَا يُقَدِّرُ إِلَّا مَا فِيهِ خَيْرُهُ .