انتقال إلى الاستدلال والامتنان بما على سطح الأرض من المخلوقات العظيمة التي في وجودها لطف بالإنسان ، وهذه المخلوقات لما كانت مجعولة كالتكملة للأرض ، وموضوعة على ظاهر سطحها عبر عن خلقها ووضعها بالإلقاء الذي هو رمي شيء على الأرض ، ولعل خلقها كان متأخرا عن خلق الأرض ، إذ لعل الجبال انبثقت باضطرابات أرضية كالزلزال العظيم ثم حدثت الأنهار بتهاطل الأمطار ، وأما السبل والعلامات فتأخر وجودها ظاهر ، فصار خلق هذه الأربعة شبيها بإلقاء شيء في شيء بعد تمامه .
ولعل أصل تكوين الجبال كان من شظايا رمت بها الكواكب فصادفت سطح الأرض ، كما أن الأمطار تهاطلت فكونت الأنهار ; فيكون تشبيه حصول [ ص: 121 ] هذين بالإلقاء بينا ، وإطلاقه على وضع السبل والعلامات تغليب ، ومن إطلاق الإلقاء على الإعطاء ونحوه قوله تعالى أؤلقي الذكر عليه من بيننا .
و ( رواسي ) جمع راس ، وهو وصف من الرسو بفتح الراء وسكون السين ، ويقال بضم الراء والسين مشددة وتشديد الواو ، وهو الثبات والتمكن في المكان ، قال تعالى وقدور راسيات .
ويطلق على الجبل ( راس ) بمنزلة الوصف الغالب ، وجمعه على زنة فواعل على خلاف القياس ، وهو من النوادر مثل عواذل وفوارس ، وتقدم بعض الكلام عليه في أول الرعد .
وقوله تعالى أن تميد بكم تعليل لإلقاء الرواسي في الأرض ، والميد : الاضطراب ، وضمير ( تميد ) عائد إلى الأرض بقرينة قرنه بقوله تعالى بكم ; لأن الميد إذا عدي بالباء علم أن المجرور بالباء هو الشيء المستقر في الظرف المائد ، والاضطراب يعطل مصالح الناس ويلحق بهم آلاما .
ولما كان المقام مقام امتنان علم أن المعلل به هو انتفاء الميد لا وقوعه ، فالكلام جار على حذف تقتضيه القرينة ، ومثله كثير في القرآن وكلام العرب ، قال عمرو بن كلثوم :
فعجلنا القرى أن تشتمونا
أراد أن لا تشتمونا ، فالعلة هي انتفاء الشتم لا وقوعه ، ونحاة الكوفة يخرجون أمثال ذلك على حذف حرف النفي بعد ( أن ) ، والتقدير : لأن لا تميد بكم ، ولئلا تشتمونا ، وهو الظاهر ، ونحاة البصرة يخرجون مثله على حذف مضاف بين الفعل المعلل و ( أن ) ، تقديره : كراهية أن تميد بكم .وهذا المعنى الذي أشارت إليه الآية معنى غامض ، ولعل الله جعل نتوء الجبال على سطح الأرض معدلا لكرويتها بحيث لا تكون بحد من الملاسة يخفف حركتها في الفضاء تخفيفا يوجب شدة اضطرابها .
[ ص: 122 ] ونعمة الأنهار عظيمة ، فإن منها شرابهم وسقي حرثهم ، وفيها تجري سفنهم لأسفارهم .
ولهذه المنة الأخيرة عطف عليها ( وسبلا ) جمع سبيل ، وهو الطريق الذي يسافر فيه برا .
وجملة لعلكم تهتدون معترضة ، أي رجاء اهتدائكم ، وهو كلام موجه ، يصلح للاهتداء إلى المقاصد في الأسفار من رسم الطرق ، وإقامة المراسي على الأنهار ، واعتبار المسافات ، وكل ذلك من جعل الله تعالى ; لأن ذلك حاصل بإلهامه ، ويصلح للاهتداء إلى الدين الحق وهو دين التوحيد ; لأن في تلك الأشياء دلالة على الخالق المتوحد بالخلق .
والعلامات : الأمارات التي ألهم الله الناس أن يضعوها أو يتعارفوها ; لتكون دلالة على المسافات والمسالك المأمونة في البر والبحر فتتبعها السابلة .
وجملة وبالنجم هم يهتدون معطوفة على جملة وألقى في الأرض رواسي ; لأنها في معنى : وهداكم بالنجم فأنتم تهتدون به ، وهذه منة بالاهتداء في الليل ; لأن السبيل والعلامات إنما تهدي في النهار ، وقد يضطر السالك إلى السير ليلا ، فمواقع النجوم علامات لاهتداء الناس السائرين ليلا تعرف بها السماوات ، وأخص من يهتدي بها البحارة ; لأنهم لا يستطيعون الإرساء في كل ليلة فهم مضطرون إلى السير ليلا ، وهي هداية عظيمة في وقت ارتباك الطريق على السائر ، ولذلك قدم المتعلق في قوله تعالى وبالنجم تقديما يفيد الاهتمام ، وكذلك بالمسند الفعلي في قوله تعالى هم يهتدون .
وعدل عن الخطاب إلى الغيبة التفاتا يومئ إلى فريق خاص ، وهم السيارة والملاحون ; فإن هدايتهم بهذه النجوم لا غير .
والتعريف في النجم تعريف الجنس ، والمقصود منه النجوم التي تعارفها الناس للاهتداء بها مثل القطب ، وتقدم في قوله تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في سورة الأنعام .
[ ص: 123 ] وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله تعالى هم يهتدون لمجرد تقوي الحكم ، إذ لا يسمح المقام بقصد القصر ، وإن تكلفه في الكشاف .