وقد استعمل العرب النحت في النسب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسب إلى صدر ذلك أو إلى عجزه التباس ، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس " عبشمي " خشية الالتباس بالنسب إلى عبد أو إلى شمس ، وفي النسبة إلى عبد الدار " عبدري " كذلك وإلى حضرموت " حضرمي " قال في باب الإضافة أي النسب إلى المضاف من الأسماء : وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسما بمنزلة جعفري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليعرف اهـ ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار ، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية . سيبويه
قال الراعي :
قوم على الإسلام لما يمنعوا ماعونهم ويضيعوا التهليلا
أي لم يتركوا قول لا إله إلا الله . وقال عمر بن أبي ربيعةلقد بسملت ليلى غداة لقيتها ألا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
واشتق منه اسم فاعل في بيت ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول . ورأيت في شرح عمر بن أبي ربيعة ابن هارون التونسي على مختصر في باب الأذان عن المطرز [ ص: 138 ] في كتاب " اليواقيت " : الأفعال التي نحتت من أسمائها سبعة : بسمل في بسم الله ، وسبحل في " سبحان الله " ، وحيعل في " حي على الصلاة " ، وحوقل في " لا حول ولا قوة إلا بالله " ، وحمدل في " الحمد لله " ، وهلل في " لا إله إلا الله " ، وجيعل إذا قال " جعلت فداك " ، وزاد الطيقلة في " أطال الله بقاءك ، والدمعزة في " أدام الله عزك " . ابن الحاجب
ولما كان كثير من أئمة الدين قائلا بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور .
وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث : الأول في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا . الثاني في حكم الابتداء بها عند القراءة . الثالث في تفسير معناها المختص بها .
فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ " بسم الله الرحمن الرحيم " هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم كما أنهم لم يختلفوا في أن ورد في الإسلام ، وروي فيه حديث الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال لم يروه أصحاب السنن ولا المستدركات ، وقد وصف بأنه حسن ، وقال الجمهور : إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة ، كما يؤخذ من محادثة كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع مع ابن عباس عثمان ، وقد مضت في المقدمة الثامنة ، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها ، وإنما اختلفوا في أن ، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآنا ، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة في البداية ، فذهب ابن رشد الحفيد مالك وفقهاء والأوزاعي المدينة والشام والبصرة وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو وابن شهاب من فقهاء المدينة إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل ، وذهب في أحد قوليه الشافعي وأحمد وإسحاق وفقهاء وأبو ثور مكة والكوفة غير أبي حنيفة ، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة ، وذهب عبد الله بن مبارك في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة . والشافعي
ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء ، وأخذ منه صاحب الكشاف أنها ليست من السور عنده فعده في الذين قالوا بعدم [ ص: 139 ] جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه .
قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين . الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية
وأزيد فأقول : إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئا عن القراءة . أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك : أحدها من طريق النظر ، والثاني من طريق الأثر ، والثالث من طريق الذوق العربي .
فأما المسلك الأول فللمالكية فيه مقالة فائقة وتابعه للقاضي أبي بكر الباقلاني في أحكام القرآن أبو بكر بن العربي في كتاب " الأشراف " ، قال والقاضي عبد الوهاب الباقلاني : لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد ، والأول باطل لأنه لو ثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأمة ، والثاني أيضا باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقا إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية ، ولصار ذلك ظنيا ، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف اهـ .
وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق ، وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها . زاد في أحكام القرآن فقال : يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلاف فيها ، والقرآن لا يختلف فيه اهـ . أبو بكر بن العربي
وزاد عبد الوهاب فقال : إن رسول الله بين القرآن بيانا واحدا متساويا ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان ; ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حمل جمل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبينها رسول الله بيانا شافيا اهـ .
وقال ابن العربي في العارضة : إن القاضي أبا بكر بن الطيب ، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول .
وقد عارض هذا الدليل في المستصفى فقال : نفي كون البسملة من القرآن أيضا إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف أي وهو ظاهر البطلان وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنيا ، قال : ولا يقال إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن ، لأنا نجيب بأن هذا وإن كان عدما [ ص: 140 ] إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن ، فهاهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ، ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو ، فثبت أن الكلام الذي أورده أبو حامد الغزالي القاضي لازم عليه اهـ ، وتبعه على ذلك في تفسيره ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الفخر الرازي الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف ، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك . الشافعي
وتعقب ابن رشد في بداية المجتهد كلام الباقلاني بكلام غير محرر فلا نطيل به . والغزالي
وأما المسلك الثاني وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة :
الدليل الأول : ما روى مالك في الموطأ عن إلى العلاء بن عبد الرحمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أبي هريرة الحمد لله رب العالمين فأقول حمدني عبدي إلخ ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ، ووجه الدليل منه أنه لم يذكر " بسم الله الرحمن الرحيم " . قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل ، يقول العبد
الثاني : حديث في الموطأ والصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ألا أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل مثلها قبل أن تخرج من المسجد ؟ قال : بلى ، فلما قارب الخروج قال له : كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة ؟ قال أبي : فقرأت أبي بن كعب الحمد لله رب العالمين حتى أتيت على آخرها ، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة .
الثالث : ما في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن عن النسائي من طرق كثيرة أنه قال : أنس بن مالك . صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بـ " الحمد لله رب العالمين " لا يذكرون " بسم الله الرحمن الرحيم " ، لا في أول قراءة ولا في آخرها
الرابع : حديث عائشة في صحيح مسلم وسنن أبي داود قالت : الحمد لله رب العالمين رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة بـ
الخامس : ما في سنن كان الترمذي عن والنسائي قال : صليت مع النبيء عبد الله بن مغفل وأبي بكر وعمر وعثمان ، فلم أسمع أحدا منهم يقول " بسم الله الرحمن الرحيم " ، إذا أنت صليت فقل الحمد لله رب العالمين [ ص: 141 ] السادس : وهو الحاسم : عمل أهل المدينة ، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك ، صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " في الصلاة الجهرية ، وهل يقول عالم إن بعض السورة جهر وبعضها سر ، فقد حصل التواتر بأن النبيء والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية ، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها .
وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة ، اقرأ باسم ربك الذي خلق الحديث . فلم يقل فقال لي " بسم الله الرحمن الرحيم اقرأ بسم ربك " ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي . في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو معتبر مرفوعا إلى النبيء ، وذلك قوله " ففجئه الملك فقال : اقرأ ، قال رسول الله فقلت : ما أنا بقارئ إلى أن قال فغطني الثالثة ثم قال
وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة ، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما الرحمن الرحيم في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة ، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في تفسيره وأجاب عنه بقوله : إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحمانا رحيما من أعظم المهمات . وأنا أدفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل ، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي ، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحمانا رحيما ، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل ، فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير ، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكررين بعدا يقصيه عن السمع ، وقد علمت أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار ، والقرب بين الرحمن والرحيم حين كررا يمنع ذلك .
وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد ، فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية : إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار ، وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضيا بذكر صفتي الرحمن الرحيم ، فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة [ ص: 142 ] التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا ( بسم الله الحمد لله ) إلخ .
وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القول أن تكون فواتح سور القرآن كلها متماثلة ، وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء ، إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح ، بل قد عد علماء البلاغة أهم مواضع التأنق فاتحة الكلام وخاتمته ، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يدعى أن فواتح سوره جملة واحدة ، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ الكلام .
وأما حجة مذهب ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة فأمور كثيرة أنهاها الشافعي فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران : أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أن النبيء عليه الصلاة والسلام قال " أبو هريرة " وقول فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن " بسم الله الرحمن الرحيم : قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعد أم سلمة بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية . الثاني : الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله .
والجواب ، أما عن حديث فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه أبي هريرة الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة ، وأما حديث فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أم سلمة أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي ، وصحح بعض طرقه ، وقد طعن فيه بأنه رواه الطحاوي ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة ، من ابن أبي مليكة يعني أنه مقطوع ، على أنه روى عنها ما يخالفه ، على أن أم سلمة ، شيخ الإسلام زكريا قد صرح في حاشيته على تفسير البيضاوي بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن ( بسم الله ) آية وحدها ، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة ، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون .
وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ، فالجواب : أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لا نزاع فيه ، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها [ ص: 143 ] فيها ، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة .
وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين ، وهو صريح كلام عبد الحكيم في حاشية البيضاوي ، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في لطائف الإشارات للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرءون على الزيادة على ما فعله السلف ، فالاحتجاج حينئذ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحبر القرآن ، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشيا .
وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري أنس أنه سئل كيف كانت ، فقال : كانت مدا ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم يمد بسم الله ويمد بالرحمن ويمد بالرحيم قراءة النبيء ، اهـ . ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى عن أنس ، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة .
وحجة وثاني قولي عبد الله بن المبارك ما رواه الشافعي ، مسلم عن أنس ، قال إنا أعطيناك الكوثر ) السورة ، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ، ولذلك لم يكتبوا آمين في الفاتحة . والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقدير أستعيذ باسم الله وحذف متعلق الفعل ، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ قال : أنزلت علي سورة آنفا فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم ( جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة . أنس بن مالك
فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطرابا يوجب سقوطها .
والحق البين في أمر ، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون الفصل مناسبا لابتداء المصحف ، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن ، وقد روى البسملة في أوائل السور أبو داود [ ص: 144 ] في سننه وصححه عن والترمذي أنه قال : قلت ابن عباس : ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم " ، قال لعثمان بن عفان عثمان كان النبيء لما تنزل عليه الآيات فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له : ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك ، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها ، فظننت أنها منها ، فمن هناك وضعتها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر " بسم الله الرحمن الرحيم .
وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غير الأنفال وبراءة إلا حين جمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان ، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها في خلافة زيد بن ثابت أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير .
وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غير براءة ، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط ، أو ليست بآية من أول شيء من السور ; فإن القراء اتفقوا على غير براءة . ورووا ذلك عمن تلقوا ، فأما الذين منهم يروون اجتهادا أو تقليدا أن البسملة آية من أول كل سورة غير براءة ، فأمرهم ظاهر ، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها ، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تعلل بالتيمن باقتفاء أثر كتاب المصحف ، أي قصد التشبه في مجرد ابتداء فعل تشبيها لابتداء القراءة بابتداء الكتابة . فتكون قراءتهم البسملة أمرا مستحبا للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف ، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور من آخر المفصل ، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة ، وهؤلاء إذا قرءوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد . قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها
وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قول لهم بأن البسملة آية [ ص: 145 ] من أول كل سورة كما فعل صاحب الكشاف والبيضاوي .
واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورة من أولها ، أي في . قراءة البسملة بين السورتين
عن فورش نافع في أشهر الروايات عنه وابن عامر ، وأبو عمرو ، وحمزة ، ويعقوب ، وخلف ، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبه بفعل كتاب المصحف خاص بالابتداء ، وبحملهم رسم البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل ، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة ، فكان صنيعهم وجيها لأنهم جمعوا بين ما رووه عن سلفهم وبين دليل قصد التيمن ، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة .
وقالون عن نافع وابن كثير وعاصم والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة ، وعدوه من سنة القراءة ، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم ، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد ، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كتاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها .
واتفق المسلمون على وقد تبين وجه ذلك آنفا ، ووجهه الأئمة بوجوه أخر تأتى في أول سورة براءة ، وذكر ترك البسملة في أول سورة براءة في البيان والتبيين أن الجاحظ مؤرجا السدوسي البصري سمع رجلا يقول " أمير المؤمنين يرد على المظلوم " فرجع مؤرج إلى مصحفه فرد على براءة " بسم الله الرحمن الرحيم " ، ويحمل هذا الذي صنعه مؤرج إن صح عنه إنما هو على التمليح والهزل وليس على الجد .
وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلا كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة ، فإن قراءتها في الصلاة تجري على إحكام النظر في الأدلة وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه ، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه ، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير ، فالقارئ يقرأ كما روي عن معلميه [ ص: 146 ] ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم ، تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد ، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء ، كما يوضح تسامح صاحب الكشاف في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء .
وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها ، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالبا في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل ، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشايخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد ، مثل سبق إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول نافع بن أبي نعيم مالك بعدم جزئيتها ; لأن مالكا تلقى أدلة نفي الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى . وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب نافع بن أبي نعيم مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقا علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا ، وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين .
واعلم أن متعلق المجرور في بسم الله محذوف تقديره هنا أقرأ ، وسبب حذف متعلق المجرور أن ، فحذف متعلق المجرور فيها حذفا ملتزما إيجازا اعتمادا على القرينة ، وقد حكى القرآن قول سحرة البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله " فألقوا حبالهم وعصيهم وقالوا بعزة فرعون " وذكر صاحب الكشاف أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم " باسم اللات باسم العزى " فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفا مستقرا مثل الظروف التي تقع أخبارا ، ودليل المتعلق ينبئ عنه العمل الذي شرع فيه فتعين أن يكون فعلا خاصا من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلق العام ، مثل : أبتدئ ، لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة ، فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل ، ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسما نحو كائن أو مستقر أم فعلا نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخبارا أو أحوالا بناء على تعارض [ ص: 147 ] مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية ، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو ، والأصل فيه أن يعدي الأفعال ويتعلق بها ، ولأن مقصد المبتدئ بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارنا لبركة اسم الله تعالى ، فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظا دالا على الفعل المشروع فيه ، وهو أنسب لتعميم التيمن لأجزاء الفعل ، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموما ، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به .
وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمعرس بالرفاء والبنين ، وقول المسافر عند حلوله وترحاله باسم الله والبركات ، وقول نساء العرب عندما يزففن العروس " باليمن والبركة وعلى الطائر الميمون " ولذلك كان تقدير الفعل هاهنا واضحا . وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليبتدئ بها كل شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه ، والحذف هنا من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام ، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو : عندك خير ، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون : خير كائن عندك ، ولذلك عدوا نحو قوله " فإنك كالليل الذي هو مدركي " من المساواة دون الإيجاز يعني مع ما فيه من حذف المتعلق . وإذ قد كان المتعلق محذوفا تعين أن يقدر في موضعه متقدما على المتعلق به ، كما هو أصل الكلام ; إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحصر ، ودعوى صاحب الكشاف تقديره مؤخرا تعمق غير مقبول ، لا سيما عند حالة الحذف ، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل .
والباء باء الملابسة ، هي المصاحبة ، وهي الإلصاق أيضا ، فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى " تنبت بالدهن " وقولهم " بالرفاء والبنين " وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها ، قال : الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب الكشاف : وهذا الوجه أي الملابسة أعرب وأحسن أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى . سيبويه
والاسم لفظ جعل دالا على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها . وجعله أئمة البصرة مشتقا من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل [ ص: 148 ] الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به ، وهذا اعتداد بالأصل والغالب ، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا " فجار " علم للفجرة . فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سمو بوزن حمل ، أو سمو بوزن قفل فحذفت اللام حذفا لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي ، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدرا على الحرف المحذوف كما في نحو قاض وجوار ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكنا نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن ; إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف ، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطرا ثانيا من التخفيف وهو عود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيد ودم لا تخلو من ثقل ، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يد ودم وغد .
وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال ، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع ، وبأنه جمع على أسامي وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافي وأماني ، وبأنه صغر على سمي .
وأن الفعل منه سميت ، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي . وبأنه يقال سمى كهدى ; لأنهم صاغوه على فعل كرطب فتنقلب الواو المتحركة ألفا إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القناني الراجز :
والله أسماك سمى مباركا آثرك الله به إيثاركا
وذهب الكوفيون إلى أن أصله وسم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العلامة ، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل ، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمت وجه الجواب ، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف ، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره . وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم ، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاما ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله ، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة .
وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره . وزعم في كتاب الملل والنحل أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد ، وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة ، وقد قال تعالى ابن حزم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وإنما أقحم لفظ اسم مضافا إلى علم الجلالة إذ قيل : بسم الله ، ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شئون أهل التوحيد الموسومة باسم الإله الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقال وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل اقرأ باسم ربك فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته ، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيرا وتصرفا من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع ، فقوله تعالى فسبح باسم ربك العظيم أمر بأن يقول سبحان الله ، وقوله " وسبحه " أمر بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص ، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل ، وبمنزلة استعمال [ ص: 150 ] القبائل شعار تعارفهم ، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه . والخلاصة أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله وقال اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها وفي الحديث في دعاء الاضطجاع وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه فسبح باسم ربك العظيم أي قل سبحان الله " سبح اسم ربك الأعلى " وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسئول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين ، كما في قوله تعالى " فاسجد له " وقوله في الحديث اللهم بك نصبح وبك نمسي أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى فاسجد له وسبحه أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص . فمعنى بسم الله الرحمن الرحيم أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك .
هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة
نبئت زرعة والسفاهة كاسمها يهدي إلي غرائب الأشعار
وكذاك ، كان أبوك يؤثر بالهنى ويظل في لفظ الندى يتردد
والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي بتفسير قوله تعالى الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمن الرحيم ، قال البيضاوي : إن المسمي إذا قصد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر علم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات ، ثم يذكر وصف الرحمن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم ، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمن .
وقال الأستاذ الإمام محمد عبده : إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم ، فجاءت فاتحة كتاب الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإله الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات ، يعني فهو رد عليهم بتغليط وتبليد . وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك إذ الناقل أمين فهي نكتة لطيفة .
وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية ، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ، وقال سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم . وحكى عنه قوله وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم . وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته ، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل