عطف على جملة الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، فهو من تمام الاعتراض ، أو عطف على جملة ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك مع اعتبار ما استؤنف عنه من الجمل ، ذلك أنه بعد أن لقن الرسول صلى الله عليه وسلم ما يجيب به عن قولهم ما ولاهم عن قبلتهم ، وبعد أن بين للمسلمين فضيلة قبلتهم وأنهم على الحق وأيأسهم من ترقب اعتراف اليهود بصحة استقبال الكعبة ، ذيل ذلك [ ص: 42 ] بهذا التذييل الجامع لمعان سامية ، طيا لبساط المجادلة مع اليهود في أمر القبلة ، كما يقال في المخاطبات : دع هذا أو : عد عن هذا ، والمعنى أن لكل فريق اتجاها من الفهم والخشية عند طلب الوصول إلى الحق . وهذا الكلام موجه إلى المسلمين أي اتركوا مجادلة أهل الكتاب في أمر القبلة ولا يهمنكم خلافهم فإن خلاف المخالف لا يناكد حق المحق .
وفيه صرف للمسلمين بأن يهتموا بالمقاصد ويعتنوا بإصلاح مجتمعهم ، وفي معناه قوله تعالى ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر الآية ، ولذلك أعقبه بقوله فاستبقوا الخيرات ، فقوله أينما تكونوا في معنى التعليل للأمر باستباق الخيرات . فهكذا ترتيب الآية على هذا الأسلوب كترتيب الخطب بذكر مقدمة ومقصد وبيان له وتعليل وتذييل .
و ( كل ) اسم دال على الإحاطة والشمول ، وهو مبهم يتعين بما يضاف هو إليه فإذا حذف المضاف إليه عوض عنه تنوين " كل " وهو التنوين المسمى تنوين العوض لأنه يدل على المضاف إليه فهو عوض عنه .
وحذف ما أضيف إليه كل هنا لدلالة المقام عليه وتقدير هذا المحذوف : أمة ، لأن الكلام كله في اختلاف الأمم في أمر القبلة ، وهذا المضاف إليه المحذوف يقدر بما يدل عليه الكلام من لفظه كما في قوله تعالى آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله أو يقدر بما يدل عليه معنى الكلام المتقدم دون لفظ تقدمه كما في قوله تعالى ولكل جعلنا موالي في سورة النساء ، ومنه ما في هذه الآية لأن الكلام على تخالف اليهود والنصارى والمسلمين في قبلة الصلاة ، فالتقدير : ولكل من المسلمين واليهود والنصارى وجهة ، وقد تقدم نظيره عند قوله تعالى كل له قانتون .
والوجهة حقيقتها البقعة التي يتوجه إليها فهي وزن فعلة مؤنث فعل الذي هو بمعنى مفعول مثل ذبح ، ولكونها اسم مكان لم تحذف الواو التي هي فاء الكلمة عند اقتران الاسم بهاء التأنيث لأن حذف الواو في مثله إنما يكون في فعلة بمعنى المصدر .
وتستعار الوجهة لما يهتم به المرء من الأمور تشبيها بالمكان الموجه إليه تشبيه معقول بمحسوس ، ولفظ وجهة في الآية صالح للمعنيين الحقيقي والمجازي فالتعبير به كلام موجه وهو من المحاسن ، وقريب منه قوله لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا .
[ ص: 43 ] وضمير هو عائد للمضاف إليه " كل " المحذوف .
والمفعول الأول لموليها محذوف إذ التقدير : هو موليها نفسه ، أو وجهه على نحو ما بيناه في قوله تعالى ما ولاهم عن قبلتهم والمعنى هو مقبل عليها وملازم لها . وقرأه الجمهور موليها بياء بعد اللام وقرأه ابن عامر ) هو مولاها ( بألف بعد اللام بصيغة ما لم يسم فاعله أي يوليه إياها مول وهو دينه ونظره ، وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد من الوجهة القبلة ، فاستبقوا أنتم إلى الخير وهو استقبال الكعبة ، وقيل المراد : لكل أمة قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم ، فإنكم على الخيرات ، وقيل : المراد هيكل قبلة فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة فالزموا قبلتكم التي هي قبلة إبراهيم ، فإنكم على الخيرات ، وقيل المراد : لكل قوم قبلة فلا يضركم خلافهم واتركوهم واستبقوا إلى الخيرات إلى الكعبة ، وقيل المراد : لكل طائفة من المسلمين جهة من الكعبة سيستقبلونها . ومعاني القرآن تحمل على أجمع الوجوه وأشملها .
وقوله فاستبقوا الخيرات تفريع للأمر على ما تقدم أي لما تعددت المقاصد .
فالمنافسة تكون في مصادفة الحق .
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلا أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى واستبقا الباب أو على تضمين " استبقوا " معنى " اغتنموا " .
فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه و الخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات .
والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هادم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى وسارعوا إلى مغفرة من ربكم ، والسابقون السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وقال موسى وعجلت إليك رب لترضى .
وقوله أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا جملة في معنى العلة للأمر باستباق الخيرات ولذلك فصلت لأن العلة لا تعطف إذ هي بمنزلة المفعول لأجله ، والمعنى : فاستبقوا إلى الخير لتكونوا مع الذين يأتي بهم الله للرفيق الحسن لأن الله يأتي بالناس جميعا خيرهم وشرهم [ ص: 44 ] و " كان " تامة أي في أي موضع توجدون من مواقع الخير ومواقع السوء . والإتيان بالشيء جلبه وهو مجاز في لازم حقيقته فمن ذلك استعماله في القرب والطاعة .
قال حميد بن ثور يمدح : عبد الملك بن مروان
أتاك بي الله الذي نور الهدى ونور وإسلام عليك دليل
أراد : سخرني إليك ، وفي الحديث دوسا وأت بها أي اهدها وقربها للإسلام ، يستعمل في القدرة على الشيء وفي العلم به كما في قوله تعالى اللهم اهد إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله .وتجيء أقوال في تفسير أينما تكونوا على حسب الأقوال في تفسير ولكل وجهة بأن يكون المعنى : تقبل الله أعمالكم في استباق الخيرات فإنه المهم ، لا استقبال الجهات ، والمعنى : إنكم إنما تستقبلون ما يذكركم بالله فاسعوا في مرضاته بالخيرات يعلم الله ذلك من كل مكان ، أو هو ترهيب أي في أية جهة يأت الله بكم فيثيب ويعاقب ، أو هو تحريض على المبادرة بالعمل الصالح أي فأنتم صائرون إلى الله من كل مكان فبادروا بالطاعة قبل الفوت بالموت . إلى غير ذلك من الوجوه . وقوله إن الله على كل شيء قدير تذييل يناسب جميع المعاني المذكورة .