افتتاح الكلام بهذه الجملة أسلوب بديع في الافتتاح لما فيه من غرابة الأسلوب وإدخال الروع على المنذرين ، فإن المراد بالناس مشركو مكة ، والاقتراب مبالغة في القرب ، فصيغة الافتعال الموضوعة للمطاوعة مستعملة في تحقيق الفعل أي اشتد قرب وقوعه بهم . وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية ، شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس ، ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة ، وهي هيئة المغير والمعجل في الإغارة على القوم ، فهو يلح في السير تكلفا للقرب من ديارهم وهم [ ص: 9 ] غافلون عن تطلب الحساب إياهم ، كما يكون قوم غارين معرضين عن اقتراب العدو منهم ، فالكلام تمثيل .
والمراد من الحساب إما يوم الحساب ، ومعنى اقترابه أنه قريب عند الله ؛ لأنه محقق الوقوع . أو قريب بالنسبة إلى ما مضى من مدة بقاء الدنيا كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - : ، أو اقترب الحساب كناية عن اقتراب موتهم ؛ لأنهم إذا ماتوا رأوا جزاء أعمالهم ، وذلك من الحساب . وفي هذا تعريض بالتهديد لقرب هلاكهم وذلك بفنائهم يوم بعثت أنا والساعة كهاتين بدر .
أو المراد بالحساب المؤاخذة بالذنب كما في قوله تعالى : إن حسابهم إلا على ربي وعليه فالاقتراب مستعمل في حقيقته أيضا فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه .
واللام في قوله : " للناس " إن أبقيت على معناها الأصلي من الاختصاص فذكرها تأكيد لمعنى اللام المقدرة في الإضافة في قوله : " حسابهم " ؛ لأن تقديره : حساب لهم ، والضمير عائد إلى " الناس " ، فصار قوله : " للناس " مساويا للضمير الذي أضيف إليه " حساب " ، فكأنه قيل : اقترب حساب للناس لهم ، فكان تأكيدا لفظيا . وكما تقول : أزف للحي رحيلهم ، أصله : أزف الرحيل للحي ، ثم صار أزف للحي رحيلهم ، ومنه قول العرب : لا أبا لك ، أصله لا أباك ، فكانت لام " لك " مؤكدة لمعنى الإضافة ؛ لإمكان إغناء الإضافة عن ذكر اللام . قال الشاعر :
أبالموت الذي لا بد أني ملاق لا أباك تخوفيني
وأصل النظم : اقترب للناس الحساب . وإنما نظم التركيب على هذا النظم بأن قدم ما يدل على المضاف إليه وعرف " الناس " تعريف الجنس ؛ ليحصل ضرب من الإبهام ثم يقع بعده التبيين ؛ ولما في تقديم الجار [ ص: 10 ] والمجرور من الاهتمام بأن الاقتراب للناس ليعلم السامع أن المراد تهديد المشركين ؛ لأنهم الذين يكنى عنهم بالناس كثيرا في القرآن ، وعند التقديم احتيج إلى تقدير مضاف فصار مثل : اقترب حساب للناس الحساب ، وحذف المضاف لدلالة مفسره عليه . ولما كان الحساب حساب الناس المذكورين جيء بضمير الناس ليعود إلى لفظ الناس فيحصل تأكيد آخر ، وهذا نمط بديع من نسج الكلام ، ويجوز أن تكون اللام بمعنى " من " أو بمعنى " إلى " متعلقة بـ " اقترب " فيكون المجرور ظرفا لغوا ، وعن ابن مالك أنه مثل لانتهاء الغاية بقولهم : تقربت منك . وجملة وهم في غفلة معرضون حال من " الناس " ، أي اقترب منهم الحساب في حال غفلتهم وإعراضهم . والمراد بالناس المشركون ؛ لأنهم المقصود بهذا الكلام كما يدل عليه ما بعده .
والغفلة : الذهول عن الشيء وعن طرق علمه ، وقد تقدمت عند قوله تعالى : وإن كنا عن دراستهم لغافلين في سورة الأنعام ، وقوله تعالى : ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين في سورة الأعراف .
والإعراض : صرف العقل عن الاشتغال بالشيء . وتقدم في قوله : فأعرض عنهم وعظهم في سورة النساء ، وقوله : فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره في سورة الأنعام . ودلت " في " على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم ، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها ، ذلك أن غفلتهم عن يوم الحساب متأصلة فيهم بسبب سابق كفرهم . والمعنى : أنهم غافلون عن الحساب وعن اقترابه . وإعراضهم هو إبايتهم التأمل في آيات القرآن التي تذكرهم بالبعث وتستدل لهم عليه ، فمتعلق الإعراض غير متعلق الغفلة ؛ لأن المعرض عن الشيء [ ص: 11 ] لا يعد غافلا عنه ، أي أنهم لما جاءتهم دعوة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الإيمان وإنذارهم بيوم القيامة استمروا على غفلتهم عن الحساب بسبب إعراضهم عن دلائل التذكير به . فكانت الغفلة عن الحساب منهم غير مقلوعة من نفوسهم ؛ بسبب تعطيلهم ما شأنه أن يقلع الغفلة عنهم بإعراضهم عن الدلائل المثبتة للبعث .